وأنتِ البدايةُ في كلّ شيءٍ
ومِسْكُ الختامْ.
-
إرتجف داخلها و هي تستنشق عبير المكان حولها حاملة بعض الأزهار ، لم يدلها الصبي المهتم بالمكان.. قلبها وحدها هو من سيدلها؛ و قد كانت محقة.. تجعدت عيناها من حنين الماضي و هي تعثر علىٰ دليلها.. لـ من أشتاق له قلبها ..
تقدمت ريان بخطوات بطيئة بفعل هياج مشاعرها في تلك اللحظة و هي تجثي علىٰ ركبتيها أمام القبر بهدوء.. هدوء عكس ما يعتمل بها من فيضان؛
"أختي. "
همست بتلك الكلمة بصوت خافت ، خافت للغاية لا يسمعهُ ألا الأشجار بين الأموات من حولهم.. و غمامة من الدموع تجمعت حول مقلتيها و هي تملس علىٰ ذلك الإسم المنحوت فوق صخر القبر البارد.. واضعة الورود جانباً و هي تقرأ بأسىٰ:
"سابين.. سابين فقط من دون إسم الأب او العائلة جانبه.. كما أردتي دائماً! "
إبتسمت ريان بين تلك الدموع المنهمرة و هي تحدث القبر بصوت شجي.. قبل أن تهتف بأسف:
"لم آزورك منذ سنوات.. أعتذر.. أعتذر.. أعتذر. "
و بين كُل إعتذار يصدر منها كان قلبها يضيق أكثر.. و كأن روح سابين ترفرف حولها تلومها بين كُل لحظة و أُخرىٰ.. لا تعلم ريان إن كانت تشعر بأن لسانها يثقل من هول الموقف الذي تعيشه حاليا.. أو من شوقها!
قبل أن تهمس بخفوت مبتسم.. بينما شلال دموعها لم يتوقف عن الإنهمار:
"أفتقدكِ كثيراً.. في كُل لحظة أقضيها.. أفكر ماذا لو كانت معكِ.. ألم تتمني لو أن حياتنا تكون مختلفة؟ لو يعثر علينا الثراء فأتخلص من هموم العمل و تتخلصي انتِ من تلبيّة طلبات المنزل؟ لقد أصبحت غنية بالفعل يا سابين.. و لكنكِ لستِ موجودة..
لقد كوّنت الكثير و الكثير من الصداقات من بعدكِ.. بعدد شعر رأسي؛؛ أعلم أنكِ تغاري.. و لكن لا أحد منهم مميز بقدرك.. لم تصل أحداهن إلىٰ قلبي كما فعلتِ انتِ."
إبتسمت ريان و هي تضع بتلات الزهور جانباً.. متأملة حالة قبرها الفوضوي ماسحة التراب الذي يكسوه بعشوائية ؛ و كأنها تربت عليها!
قبل أن تتوقف يداها عن العمل و هي تعيد أنظارها الدامعة إلىٰ مركز قبرها.. ثُم تهتف بصوت شارد مُبهم.. كما روحها في تلك اللحظة بينما مجرىٰ مدامعها لم يتوقف عن الهطول:
" عندما قلتِ من قبل أنا أحرق من يُبكيك.. ضحكت لسخافتكِ.. و لكنني لم أتوقع أن تكوني جدية إلىٰ تلك الدرجة؛
لم تحرق أحداهن شخصًا لأجل دمعة من عيناي، كما فعلتِ انتِ..
لم نهرب معاً.. و لم ننم بين الشوارع و الأرصفة.. لم نتشارك الطفولة... و الألم ، كما فعلتِ أنتِ.."
إبتسمت ريان أكثر و هي تردف بصوت مرتجف من فرط مشاعرها في تلك اللحظة:
"هذه ثاني مرة أزورك فيها.. أول مرة كانت قبل خمس سنوات؛ بالطبع لم أتجرأ بالتوجه ناحيه المقبرة.. ظللتُ أتحدث معكِ من بوابة المقابر.. أعلم أنكِ كُنت تسمعينني
حين جئت شاكية إليكِ مَن علمني الحُب.. ثُم حرق قلبي من حُبي له بعدها؛ لقد تغيّرت الكثير من الأشياء يا اختي، هو تغيّر و أنا أيضاً تغيّرت.. مرت السنون و الأشواق لـ من رحلوا تتزايد معها.. لكن رائحة الخريف تلك وحدها التي لم تتغير..
أنا هُنا لإخبارك انني كبرت يا اختي.. اصبحتُ فتاتك التي تتمنين.. حققت واحداً من أهدافنا.. اخيراً "
إبتسما ريان.. حتىٰ إن كانت قد شككت بصداقة سابين لها بوقت من الاوقات إلا أنها حاليا تحمل لها الإمتنان.. فـ هي قد كانت صديقتها !
--
خرجت ريان من المقابر بأقدام مرتجفة متوّجهة ناحيه سيارتها السوداء غالية الثمن التي تركتها جانباً.. و هي تطير متوّجهة ناحية أخر مكان زارته قبل هجرانها لـأيطاليا بأكملها.. قبل خمس سنوات!
--
حسناً لقد إعتادت.. إعتادت.. بكت، شتمت كثيراً.. أحبت و أنخذلت.. تألمت هي حتىٰ صعد صدأ قلبها و تحول إلى النحاس داخل حلقها..
ماذا إذا عن هذا الحنين الغبي المتجوف داخل صدرها؟
نظرت ريان إلىٰ بوابة المخزن القديم بأقصىٰ نواحي روما و غلاف دموعها قد ملأ داخل حدقتيها..
ضحكت باستهزاء رغم تقلب المشاعر بداخلها.. و الحال أن اسبوع فقط قضته داخله كـ سجينة قد ربط قلبها به لخمس سنوات كاملة.. توّجهت ريان داخله بأقدام مرتجفة و عبق المشاعر يعتمل بداخلها.. و رائحة الخريف تفوح بالافق معهُ!..
--
( إلىٰ شخصي المُفضل:
شخص مثلك لا ينساه المرء بسهولة.. لم أتوقع أن أعبر كذلك بحياتي و لكن تلك الحقيقة.. بسمة واحدة من ثغرك تشبه الغيث فوق أرض صحراوية قاحلة.. كذلك فعلتي معي.. بوجودك و بـ روحك؛ و إن تعرضت لحوادث العالم السبع وفقدتُ ذاكرتي بدل المرة الأولىٰ الف مرة.. كلمة نسيان بعد تعرفي عليك حذفت من قاموس قلبي؛
ميران.. سادس أيام الخريف. )
ضحكت ريان و هي تقرأ تلك الحروف المنقوشة فوق جدار المخزن.. ضحكت كثيراً.. كثيراً حتىٰ ملأت صيحات ضحكاتها داخل المكان الصغير.. حتىٰ شعرت أن حلقها كاد يّتورم من كثرة الضحك؛ ملأت ريان نفسها بالشهقات حتىٰ تنقي مجرىٰ تنفسها و لكنها لم تستطع فأنحشر داخلها من كم القهقهة التي عادت إليها مرّة أخرىٰ..
ثانية.. و أخرىٰ ... حتىٰ مرت الخامسة فساد الصمت داخل نواحي المخزن.. قبل أن تنفرط داخل بكاء عنيف.. بكاءً لم تبكيه هي منذ سنوات، تحديداً منذ قامت علىٰ قدمها مرّةً أُخرىٰ..
تقدمت ريان ناحية الحائط و أصابعها المرتجفث تتنقش حروفه بخط يده.. بينما انفاسها تكاد تختنق من فرط مشاعرها.. و هي تردف بصوت باكِ:
"حقييير... كاذب.. انتَ لست سوىٰ لمجُرد كاذب يا ابن خالتي و عمي.. "
بينما هي تشتمه كانت تنتعت نفسها بأسوء اوصاف الدنيا داخلها.. لم يكُن يجب أن تبكي.. هي قد تجاوزت.. و الحال أن فكرة التجاوز وحدها تجعل تنفسها يضيق..!
لم تنهار كذلك من قبل..
و عيونها الباكية تدور حول هذا المكان، يبدو عتيقاً جداً داخل نظرها الآن، و ذكريات الماضي تلوح في الأفق.. تتذكر هي.. كم كانت مغفلة!
--
• قبل خمس سنوات •
( الإشتياق.. تشتاق.. القلق.. الخوف.. الشوق )
كان هذا ملخص مشاعرها خلال أيامها منذ ذلك اليوم المشئوم.. اليوم الذي تسميه هي بيوم إنكشاف الحقائق، تحديداً منذ سمعت تلك الحقيقة بكوّن ميران قريبا لها.. إعترافه المؤلم بقدر جماله.. و من ثُم إنهياره بين ذراعيها..
حتىٰ هذا اليوم كانت تسمع بشعور ملخصه يكون: "الموت حياً.. ان تكون جسد و تُختبر بنصفك الأخر الإمتحان الأشد "
لم تجربهُ من قبل.. خسرت الكثير من أحبائها خلال عمرها الشاب و لكن عند لحظة أغماض جفونه أمامها كان قد شاخ جزء من روحها.. لا زالت تتذكر حتىٰ الآن شعورها الموّجع و هي ترىٰ جسده داخل غرفة العمليات.. بينما الشرطة تحاوط غرفته.. و كأنهُ سيهرب منهم خلال وضعه ذلك..
تحسنت حالته ببطء خلال شهر، ببنما اهدابه الجميلة فقط من واجهتها خلال تلك الفترة.. لم يكُن قد أستيقظ بعد..
و الحال أن تلك الشرطة قد إنتظرت إستياقظه.. و ياللقدر كان تزامناً مع غيابها عن مناوبتها لهُ بسبب النكسة التي أصابت عمها سلڤادور بشكل مفاجئ.. و كأن أحمال الأرض قد عثرت عليها هي فقط دوناً عن بقية سُكْانها!
حتىٰ ذكرىٰ أنها ظلت تبكي لساعات مُتتالية كالأطفال لمجرد معرفتها بأن لقب عائلة ميران الكامل و بالتالي لقبها هي ايضاً يكون: "بوفون" لا زال يؤرقها.. فكرة أن تلك المعلومة الصغير اكتشفتها حديثاً كانت مؤلمة جداً لقلبها..
نظرت ريان حولها أخيراً..
لوهلة و هي تغوص في ذكرياتها القريبة كانت ستنسىٰ المكان الذي هي فيه حالياً..
جالسه هي بأحد غرف الإنتظار بالسجن الذي يمكث فيه ميرانها حالياً ؛ و تنتظر إنطلاق موعد الزيارة..
نظرت ريان إلىٰ كارولين فإبتسمت لها بمودة.. فبادلتها ريان الإبتسامة،،
تستشعر تحفظها و خجلها منها عن طريق رأسها التي تطرقها كلما تحدثت معها.. لا تعلم ريان ما جمعها و لكنها هُنا من أجل روبيرتو كـما هي هُنا من أجل ميران..
الفتاة تبدو مشوشة كـ مَا حالهم جميعاً.. و لكن علىٰ الأقل روبيرتو لم يتورط بشيء.. لم يتوّرط داخل أمور مورينو القذر.. أقصىٰ ما يتوقعه المحاميون لأجله ست أشهر مع الغرامات.. و لكن ميران.. لا زال وضعهُ مجهول!
نفخت ريان بقلق.. لا زالت تتتذكر نحيبها المصدوم عندما سمعت من الشرطي كم الجرائم البشعة التي إقترفها مورينو.. أشياء لا يستوّعبها العقل البشري السليم.. لا تتخيل حجم أولئك الناس الذين تاذوا بسببهم؛ حتىٰ الرضع لم يسلموا من قذاراتهم..
ضاعت حيواتهم جراء لحظة متعة بائسة نتيجتها كانت زهق روحهم خلال بحثهم عن تلك المتعة الزاهية مرّة أخرىٰ.. جرعة بعد جرعة و بلا جدوىٰ و آملهم بمتعة المرّة الأولىٰ قد تحول لھوس وحشي أدىٰ لفقدانهُم.. و سابين كانت من ضمنهم!
سمعت هي أنهُ سيُّعدم.. و لكن أكثر ما يقهرها أن أمثاله لا يزالوا يتحركوا بينهم بالبلد و جميع البلاد بحرية بلا خوف.. حتىٰ و إن كانوا مقتنعين أن القضاء لن يعثر عليهم.. فالعدالة الإلهية لن تفلتهم..!
نفخت ريان بقسوة.. مورينو سيُعدم و ربما سيأخذ مؤبد مع الأشغال الشاقة.. إهتز خافقها و هي تفكر أن ميران كان من الممكن ان يكون مكانه.. حتىٰ و إن كان داخله نظيف و حتىٰ إن كان توّرط معه لأجل معاقبته فـ هو تصرف بطريقة غيّر قانونية!
لولا تلك الأوراق التي تثبت أن ميران كان شرطي بالخدمة قديماً و أنهُ لا زال مُقيد بها و لم يستقيل رسمياً و حتىٰ لم يتم فصله.. كان أمرهُ سيّكون سيء.. و جداً!
نظرت ريان إلىٰ جانبها.. حيث كان يجلس سانتو شارداً هو الأخر..
شعورهُ بالذنب يريقه تلك الأيام فـ صديقيه الوحيدين مستقبلهمها علىٰ المحك.. و من ضمنهم حبيبها الذي كان سـيفقد حياته!..
اشاحت ريان بتلك الأفكار السوداء جانباً.. كُل شيء علىٰ ما يُرام.. هو بخير.. هما بخير!
حتىٰ و إن كانت تلك الجدار النحاسيه تبدو خانقة من حولها ففكرة انهُ قابع بينها في سلام تبدو لها اكثر راحة.. لن تتحمل أن يصيبهُ الاذىٰ..!
اعادت نظرها إلىٰ سانتو مرّةً أُخرىٰ و أدركت أنها تتفهمهُ..!
و لكنها لا تستطيع تفهُم ذلك الرجل ڤيتال..
كانت قد دارت بينهما الكثير من النظرات الصامتة.. هي بدت شاردة فقط الفترة الأخيرة.. منهارة غالبية الوقت.. و لكنها لم تستطع تفهُم تلك الدموع التي أذرفها علىٰ ميران عندما كان يصارع الموت..
سمعت منهُ من قبل عند تحدثه مع سانتو بين اروقة المشفى أنهُ يندم لأجلهما.. يعتبرها هي و ميران أحفادهُ و يحبهما كذلك.. بصفتهما أحفاد توأما روحيه و أصدقاءه كـ مَا يدّعي.. عاكف و صرب..
ربما ستغض النظر هي عن معرفته بوّجودها و وجود ميران حتىٰ و إن كان متأخراً.. ستتجاهل أنهُ كان يمكنهُ جمعهم من قبل بعد موت جميع أفراد عائلتهم.. ستتجاهل أنهُ تركهم يكبروا بإعتقاد أنهم وحيدين كـ غصن مقطوع من شجرة.. ميران كان عائلتها و هي لهُ و لكنهُ تجاهل رغم معرفتهُ..
حسناً ربما هي لم تعش شعور الوحدة.. إرسالهُ لـلعم سلڤادور لها هو الشيء الوحيد الذي يدفعها لتقبلهُ.. لكن ماذا عن ميران؟!
لقد تركهُ يكبر بنار الإنتقام.. كان يستطيع العثور عليه و الظهور لحياته عندما دبر مورينو حادث لهُ ادىٰ إلىٰ فقدانه لذاكرتهُ.. و لكنهُ تركهُ يدخل إلىٰ محيطهُ عمداً بسبب دوافعه الأنانية.. ميران الآن سيُحاكم.. مستقبلهُ الشاب علىٰ المحك.. مع التحفظ علىٰ طفولتهُ الضائعة..
إذاً بماذا سيّفيد الحُب و الندم.. كانت لتتغيّر أشياء كثيرة.. الكثير منها!
ضاعت أفكارها و هي ترىٰ البوابة الفاصلة لغرفة الزيارات يقم بفتحها الحارس.. تحمست و نهضت تلقائياً و هي ترىٰ حبيب قلبها يطل من خلف القضبان.. بجانبه الكثير من المجرمون و من ضمنهم روبيرتو.. لا يُهما أحد غيره..
و إذ أن دمعتان قد سقطت منها بلا علم.. كانت تلك أول مرة تتلاقىٰ أعينهم بعد الحادثة.. لم يتواصلوا منذ غيبوبته.
لاحظت هي توسع بؤبؤتيه داخل مقلتان من العسل مِن بعيد.. إنحباس الأنفاس كان من طرفها.. تقدم ميران ببطء ناحيتها، فاغر هو لفمه كـمَن ينظر إلىٰ مُعجزته..بينما هي قد غارت عينيها بحنان غريب..
لم يعد يفصلهم الآن سوىٰ سنتيمترات قليلة.. إلتهمت تفاصيل وجهه بعينيها بجوع.. فقد الكثير من الوزن.. الإرهاق يتخلل ملامحهُ الوسيمة.. و لكن عدا ذلك كان يتخللهُ إنكسار غريب.. و كأن تلك الحقيقة قد هدمتهُ.. هدمتهما معاً..
"ريانتي.. جنتي.. "
-"حبيبي"
تقاطعت تلك الكلمات بنفس اللحظة.. ضحكت هي بينما دموعها قد تساقطت.. بينما هو ينظر إليها بدهشة.. لا زال لا يصدق حقيقة وجودها هُنا أمامهُ..
-"رأيتكِ في أحلامي.. كنتُ بفراغ أبيض.. تركتهم لأتجه نحوك جئت و تمسكت بيّدكِ دوناً عن الجميع. "
سقطت دموعها بشكل اكبر بعد حديثه المتأثر.. تتذكر الآن ذلك الطفل الذي تمسك بيّدها عندما كانت تصارع الموت.. إذ إنهُ كان ميران الشاب..
فأكمل ميران قائلاً و هو يتمسك خصلاتها المجعدة بإنبهار لم يستطع إخفاءه.. و شوقها الجاري بداخله قد تضاعف أضعاف:
"كنتِ جميلة جداً.. كما انتِ.. تبتسمين بجمال و تفوح منكِ رائحة ساحرة.. لا استطيع تخيلّها سوىٰ أنها رائحة الجنة..! "
و عند تلك الجملة لم تستطع ريان منع نفسها و هي تقف علىٰ أطراف أصابعها تُحيط رقبته و تلصق شفاهها بشفاهه.. لم تمر ثانية حتىٰ إستلم هو زمة الأمر و أحاطها فطارت ساقيها في الهواء مستسلمة بين ذراعيه.. يحملها هو و يقبلها بجنون يروي ظمأه بها و يأسه من عشقها..
كانت القُبلة جامحة بين المُجرمين و عوائلهم.. و لم يكُن ميران ليتوقف او يفكر بإحتمالية تُدعىٰ التوقف و لا ريان شعرت بذرة خجل و هي تجاريه بهذا الوضع..
بعد إعترافه الموّجع بقدر جماله و نيران حسرتها التي لم تهدأ عليه سوىٰ الآن..
كان هذا اول لقاء حقيقي بينهم بعد فراقهم المرير ذلك اليوم..
يوم إنكشاف الحقائق!
--
نظر ميران إلىٰ جانبه حيث كانوا يجلسوا علىٰ تلك المقاعد الغير مريحة بينما هو يوزع إبتسامات هادئة ، إبتسمت ريان و هي منهمكة في الحديث معهم جالسة بجانب ميران.. تشعر بأنها تحررت من مخاوفها و لو قليلاً بعد رؤيتها لميران و باتت تعود رويداً رويداً لوّضعها القديم..
اما هو فـ كان تحت أنقاض تشتتهم؛ ينظر للعالم من حوله ببلاهة.. قد كلمهُ المحامي.. أخبرهُ بوّضعهُ بصراحة.. حتىٰ الآن فـ هُم يحاولوا إثبات أنهُ لا زال مقيد بسجل الشرطة ، و لكن نسبة عدم إستطاعته للخروج من هذا الأمر عالية أيضاً..
و لكنهُ لن يستطيع هدم أحبائهُ معهُ..
ألقىٰ بطرف نظره إلىٰ ريان.. وجهها الجميل كان مرهق حتىٰ مع المرح البادي فيها و هي تمازح روبيرتو و كارولين.. هي لا زالت منكسرة.. هاجمت تلك الفكرة عقلهُ بخوف..
ماذا إن ظهر الحكم عليه مؤبداً؟ ستتدمر هي بكُل تأكيد.. ستتوقف حياتها لأجله بينما لا زالت هي بربيع عُمرها؛
و قد تذكر ثروة عائلته المنهوبة من مورينو الحقير.. كان قد إسترجعها السيد ڤيتال منهُ قانونياً.. هذا ما يجعلهُ يضمن إستقرارها المادي و عدم مواجهتها للمشكلات لو قليلاً..
و لكن ماذا عن قلبها.. ليس لديه علم عنهُ..
قاطع تزاحم افكاره صوت سانتو الهاتف قائلاً موجهاً حديثهُ لـ ريان بنبرة مازحة:
"و بما أننا تجمعنا اخيراً.. إقنعوا تلك ذات الرأس الحجري أن تقبل العرض المقدم إليها. "
تحفزت حواس ميران و هو يسأله قائلاً؛
"عن اي عرض؟ "
بينما إنعقدا حاجبا ريان بيأس من سانتو،، فإستكمل هو حديثهُ قائلاً :
"طوال فترة الخريف تحديداً منذ خطت قدماها روما و هناك الكثيرون من رجال و سيدات الفن يريدون الإتفاق معكِ.. فقد إنتشر حديثاً فيديو قديم مُسجل لكِ بڤينيس ترقصين به علىٰ إيقاع النغمات الإيطالية من قبل أحد السائحين الذين قاموا بنشرهِ.. قد لاقىٰ العديد من التفاعل يا ريان.. تلك الفرص لا تتكرر إلا مرة واحدة بالعمر، لا ترفضيها و قومي ببناء إسمك. "
إتسعت عيناها برفض تام و هي تهتف غاضبه بحق من تدخل سانتو بشئونها:
"سانتوو! قلت لا و تعني لا! من فضلك لا تتدخل!!!"
نظر إليها ميران فاغراً لفمه.. فأردفت هي بينما تتمسك بيديه هاتفة بقوة نابعة من قلبها.. و عيونها الرافضة تتحدث مع عنادها الصميمي:
"حياتي لا زالت هُنا.. عالقة مع ميران توقفت معهُ و عادت لأجله.. من بعد الآن انا هُنا لأجلهُ فقط كـ مَا حياتي لأجلهُ فقط. "
أنهت ريان كلامها و هي تحتضن ذراعه المعضل بيديها بينما تبتسم إليه بثقة.. عكس نظراته التي ظهرت بها تلك اللمعة الخائفة.. عليها!
فـ بعد الآن.. دُنياها من الممكن أن تُعلق بسببهُ.. و إنقاذ حياتها من الآن فصاعداً واجب عليه..
--
--
عضت ريان علىٰ شفتيها بتوتر.. تقف هي داخل باحة قسم الشرطة.. ترتدي رداء أسود طويل بينما قد غطت وجهها بـ وشاح أسود.. ستَتنّكر!.. قد وصلت هي إلىٰ حافه الجنون و لم يعد يهمها..
نظرت إلىٰ سانتو جانبها الذي كان يرمقها بقلق.. لقد مر أيام و ميران لم يعد يرغب بزياراتها لهُ.. يتقبل الجميع ما عاداها هي!
و عندما جاءت لـ زيارته رغماً عنهُ بصحبة سانتو غضب و كاد يفتعل شجاراً معها.. وصل به الأمر بتهديدها آنها إن قامت بزيارتهُ مرةً أخرىٰ سيزيد من شجاراته مع زملائه في السجن و منها ستزداد من مدة حبسه.. حتىٰ أنهُ طلب من الحارس أن يأخذه من غرفة الزيارات و يعيده إلىٰ زنزانته.. سيّجنها بأفعاله!..
ربتْ سانتو عليها مطمئناً إياها و هو يرىٰ عيناها الوحيدة الظاهرة من وجهها و رغم ذلك كانت غائرة بحزن.. ريان المجنونة هي من أقترحت هذه الفكرة و هو قد جاراها.. قبل أن تبتسم هي إليه بإهتزاز.. فأردف قائلاً :
"فعلت مثلما طلبتي.. لم أجعل الحارس المسؤول عن ميران يخبره بهوية الزائر حتىٰ يقبل زيارته.. لا تحزني نفسك أكثر. "
إبتسمت ريان بإمتنان.. لم تقدر علىٰ الرد؛ قبل أن يشير إليهم الحارس من بعيد طالباً تقدمها.. فموعد الزيارة قد حان أخيرا..!
--
تقدمت بساقين رخوتان بعد أن اقفل الحارس الباب عليها مخبراً إياها أنهُ سيأخذها بعد أقل من ربع ساعة.. 15 دقيقة كانت أكثر من كافية لتعرف أسباب ميران بـ بُعده عنها..
بينما هي كانت تنظر إلىٰ صدره بتوتر.. لم يستدير بظهرهُ ليعرف هوية الزائر حتىٰ.. إلا انهُ شعر من انفاسها.. رائحتها.. حبيبتهُ كانت خلفه!
إستدار ميران سريعاً بلهفة لحظية و شوق جامح لاحظته ريان بسهولة فإنفكت عقدة التوتر منها.. ظلت تنظر إليه بتردد للحظات و عينيها فقط ما يتبينه من رداءها الأسود قبل ان تحسم آمرها و هي تركض لأحضانه غير محتملة.. تلقفها ميران بسهولة و هو يستقبل جسدها الصغير بين يديه.. كانت حبيبته مشتاقة لأبعد حد و هو كان اكثر؛ يكاد يموت و هو لا يعرف حالها بين تلك الجدران الخانقة.. رغما عنه!
اغمض ميران عينيه مستمتعاً بلحظات من النعيم بين ذراعي حبيبته ذات رائحة الجنة.. بينما ريان أغمضت عينيها بشدة و تآوهاتها المشتاقة قد وصلت لأذانه بوضوح و هي تقبل كُل جزء فيه..
مرت دقيقتان و هما علىٰ هذا الحال من الشوق الصامت.. يحتضنها هو بشده لدرجة أن قدماها لا تلامس الارض بينما هي تزيل جنونها به..
هدأت أنفاس ريان قليلاً و ميران ينزلها من علىٰ الأرض.. أبعدت الوشاح عن عينيها مُظهرة بقية وجهها و شعرها سامحة لها أن يغوص ببقية تفاصيلها بعد أن كاد يغرق ببُنيتاها..
نظرت إليه بلوم خافت و هي تهتف بصوت شبه باكِ من فرط مشاعرها المحتلمة:
"لما فعلتَ ذلك يا ميران.. لماذا يا حبيبي؟.. بينما روحي تحترق من أجلك لماذا تزهقها عمداً رغم علمكَ بأن غيابك يقتلني؟. "
لحظات صمته العميق و قد أبعد مقلتيه عنها جعلته تظن أنهُ بدأ بالتراجع عن ما يفعل فتابعت محاولة إقناعه:
"أنظر فـإن أيضاً روبيرتو حاله لا يختلف عنك.. لا نعلم إلىٰ متىٰ سيّظل محتبس.. نعم ادرك ان وضعك متأزم أكثر منهُ ، و لكن أنظر من المحتمل ألا يطيل بقاءه هُنا.. علىٰ الأقل لا تقحم رأسك بمشاكل يا ميران."
نظر إليها ميران قائلاً بصوت حازم.. و كان هذا أول ما أردفه منذ جاءت لزيارته:
"ريان لا تشغلي نفسكِ بي.. أخبريني انتِ ماذا تفعلين.. سمعتُ أن هناك عروض كثيرة تقدمت لكِ.. و هناك عمل و حياة تنتظرك.. ماذا تفعلين هُنا إذاً حباً باللّٰه؟! "
انهىٰ ميران جملته بخوف.. خوف لم يظهره إلا لنفسه.. لم يكن يخاف من إجابتها القادمة بقدر خوفه علىٰ قراره الذي سيّترتب عليه
و قد جاءت إجابه ريان إليه سريعة بحجم البصر و هي تهتف بصوت مُصر مستنكر:
"أي حياة و أي عمل تتحدث عنهُ يا ميران؟!! بالطبع لا يوجد شيء كهذا.. بينما أنت لا أستطيع التنفس من وجعي عليك هل تريد لحياتي أن تستمر و كأن شيئاً لم يكُن؟! "
إجابتها كان سريعة.. مُصرة و صريحة بالوقت نفسه.. صراحة جعلته يحسم قراره الذي أتخذه بيوم زيارتها الأول لهُ؛ خاصةً مع قولها بأنها تعيش لأجله بعد الآن.. و يا ليتها ما تفوهت..
نظرة مؤلمة ظهرت علىٰ حافة عيناه.. أخفىٰ ميران ألمهُ سريعاً.. و هو يبعدها بأخرىٰ.. أخرىٰ جعلت قلب ريان يرتعش بدون ان تعلم السبب..
نظرت ريان إلىٰ عيناه العسلية التي تحوّلت من دافئة للحظات إلىٰ باردة كالجليد.. لعنت غباءها اللحظي.. كان يجب أن يكون مجيئها إلىٰ هنا بهدف إيجابيته لا غير.. نظرت إلىٰ وجهه الوسيم الملئ لبعض الجروح فلم تمنع نفسها من الهتاف بفزع بعد أن وعت لوّجودها:
"هل جننت يا ميران أم صابتك حماقة!! هل دخلت بشجارات في السجن مع اولئك الخطرين؟ "
نظر إليها ميران هاتفاً بنبرة خطيرة :
"هل معرفتكِ بأنني إبن خالتكِ جعلتكِ أكثر راحة في التحدث هكذا.. يا إبنة عمي؟! "
اردف جملته الأخيرة بصوت مستهزء لم تلحظه ريان و قد إمتقعت وجنتيها محرجة.. هل تحدثت بنبرة رجولية زيادة عن اللازم؟ كان يجب ان تكون أكثر أنوثه في حديثها..
و بينما هي في صراعها اللحظي هتفت بصراحة.. صراحة ستكون حكم إعدامه يوما ما:
"إن لم أتحدث معكَ أنتَ.. حبيبي.. بصراحة هكذا؛ مع من سأتحدث إذاً؟ "
صمت ميران للحظات.. بينما قد إبتلع ريقه بتوتر.. إنها تُصعب الأمر عليه أكثر.. و مقلتاها البريئة تتفنن في ذلك! و لكنهُ سرعان ما إستعاد رباطة جأشه.. إن كانت مصلحتها الأمر.. فـ تباً لأحكام القلب إذا..!
نظرت ريان إلىٰ الزنزانة المظلمة حولها فـ لا يتخللها إلا ضوء بسيط.. مع سرير حديدي بالتأكيد يعيق نومه من صلابته الخشنة ظاهرياً.. و تلقائياً قد ألمها قلبها و هي تتخيل حال حبيبها هنا.. قبل أن تهتف بصوت متعب من كم أفكارها:
"لماذا يضعونك هنا يا ميران؟.. هل أحدثت مشكلة مجدداً حتىٰ يضعونك وحدك..؟ "
نظر إليها ميران قبل أن يهتف بنبرة هازئة نوعاً ما:
"تستطيعين القول أنهم رأوني متعاون جداً مع زملائي المجرمين.. لذا قرروا بمفاجأتي بزنزانة فارغة لي.. هم كريمون جداً اليس كذلك؟ "
وضعت ريان يدها علىٰ جبهتها تزفر أنفاساً متعبة فاقدة الامل منه.. همت ريان بالقول لتأنيبه إلا أن كلماتها قد حشرت في حلقها و هو يتقدم أمامها بنظرة سودواية جهلت مصدرها.. قبل أن يهتف و هو يتلمس وشاحها الأسود:
"لما أرتديتـي هذا؟ "
نظرت إليه قائلة بصوت بسيط بينما مقلتاها تتبعه:
"ألم أتي إليك؟.. لھذا السبب.. "
و كأن سواد أُلقي فوق خضراوتيه.. هتف ميران بنبرة غامضة :
" لهذا إرتديتيه.. الم تردي أن يتعرف عليكِ أحد.. هل خجلتي؟؟ أردتي الا يعرف أحد أنكِ ذاهبه إلىٰ حبيبكِ المسجون"
هتف ميران بجملتهُ الأخيرة بصوت غامض مستفسر ؛ بينما ريان التي لا زالت تحت وطأة صدمتها لم تستطع التمييز إن كان تمثيل أم شيء أخر.. فهتفت سريعاً معترضة:
"بالطبع لا!! ماذا تقل انتَ هكذا يا ميران!! سانتو هو من ساعدني.. دخلت إلىٰ هُنا بهوية مختلفة خشية أن تسأل شخص أخر غير الحارس المتفقين معه و يُجيبك أن ريان هي الزائرة..!"
التقطت ريان أنفاسها بعنف همجي منتظرة ردة فعله.. الا انها لم تتوقع جسده الذي إقترب منها علىٰ حين غرة.. إقترب لدرجة أن أنفاسهُ إختلطت ب أنفاسها.. علىٰ الرغم من جمالها المعتاد إلا أن نحافتها الشديدة كانت تصله بوضوح.. و حزن غريب ساكن بأعيّنها مع الهالات التي لم تمنع جمالها ، واضح أنها قد بكت عليه لليالٍ كثيرة!..
و كأن إبنه خالته الصغيرة تعيش معرفتها بعائلتها و الأحداث المتتالية مع فقدانها لصديقتها المقربة حديثاً.. إبتلع ميران ريقه و هو يُدرك أنه سيّزيد الماً علىٰ الامها.. بيّده و من أجلها!
توترت ريان تلقائياً.. عيّنا ميران لم تكن غارقة فيها بشكل وقح.. و حتىٰ إن كان فـهذا لا يوترها.. كان ينظر إليها بينما حاجبيه قد عقدهما غارقاً في ملامحها كـ مَن يقم بحل معضلة هامة؛ كـ مَن ينظر للمجهول..
و هذا أكثر ما أخافها!
شعرت ريان بتحرك أصابعه فوق رقبتها مزيلاً بقايلا ذلك الوشاح.. بينما يده قد تسارعت لتعبث بحافة جرار عبائتها.. شعرت ريان بالبرودة مع تعري كتفيها فتخالطت لون بشرتها الفاتحة مع عباءتها كاحلة السواد
إرتعشت ريان أكثر و هي تهتف بصوت مرتجف:
"انا لا ارتدي شيئاً من تحته. "
تزامناً مع جملتها كان أنامل ميران قد تلمست حافة حمالة صدرها الحمراء.. فهتف بصوت متأثر:
"و هل أتوقف؟.."
تنهيدتها الملتاعة كانت جواب أكثر من كافي لسؤاله.. كانت ريان تذوب بين يديه.. و هو مَن كان يذيبها..
لثم ميران شفتيها بقوة.. قوة كبيرة كانت مفاجئة لها من فرط هجومه عليها.. بادلته بجنون أكبر.. و بمنتصف طريقهم.. و هو بمرحلتهُ لإخماد شوقهم الذي لم يهدأ بعد إبتعد ميران... إبتعد عنها مُجبراً بينما قلبه يكاد ينفجر بين ضربات صدره.. و قد كان ذلك بمثابة فصل اللحم عن العظم لهُ..
بينما ريان لا تزال مغمضة عينيها.. شعرت بالجليد يجثوها فجأة.. شعرت أن الثليج يتاسقط بمنتصف ايلول.. بمنتصف الخريف!
نظرت إليهٰ ريان مستفسرة ببراءة قد نحرت قلبه.. بينما هو أبعد ناظريها عنها عاقداً حاجبيه هاتفاً بنبرة صارخة :
"لا أستطيع.. حاولت و لكنني لا أستطيع يا ريان.. "
تساقطت دموعها بسرعة حتىٰ و إن لم تفهم تماماً و لكن نبرتهُ كانت كفيلة بطعنها.. و تدري و هي أنها عارية الجسد و الروح أمامه.. بينما قلبها قد تحول لأشلاء..
هتفت ريان سريعاً مستفسرة بصوت باكي:
"ما الذي لن تستطيعهُ يا ميران؟! "
لم ينظر إلىٰ وجهها.. سيّضعف و هو أكثر من يعلم بنفسه.. بينما هي تتمنىٰ فقط نظرة واحدة من عيناه.. و إشاحته بوجهه عنها قد ضرب أنوثتها بمقتل.. ليهتف ميران بصوت جامد:
"حاولت يا ريان.. عندما خمدت مشاعري تجاهكِ فجأة حاولت أن أفعل،، و لكنني لا أستطع.. انتِ جذابة.. و حتىٰ مهلكة! و إن إستغليتكِ لأجل ذلك سأكون قد ظلمتك.. و لكن أنا قد فهمت كُل شيء عندما تقاربت معكِ مُنذ قليل.. صحيح تجذبينني.. و لكنني أيقنت أن ما بداخلي لم يكُن حُب من الأساس مِن البداية يا ريان. "
تلك المرة قد تساقطت دموعها بشكل أكبر.. دموعها الحارقة التي لهبت بشرتها الجليدية هي الشيء الوحيد الذي ينبئها بأنها لا تحلم الآن..
فـ هتفت ريان بين شهقاتها الحارقة بصوت باكي قائلة بإعتراض كالأطفال رافضة التقبل:
"و لكنكَ أحببتني.. أعترفت لي بذلك.. ضحكنا معاً و بكيّنا معاً.. و حتىٰ قد تشاركنا الحقائق معاً!! انتَ الوحيد من جعلني أعيد إيماني بنفسي.. و بالحُب.. من علّمني إزهار الأمل بمنتصف الخريف..! "
ضحك ميران ضحكة ساخرة قد قسمت قلبها لأشلاء.. قبل أن يهتف بنبرة هازئة:
"كم أنكِ حالمة يا صغيرتي.. كُنت أظنكِ أوعىٰ من هذا التفكير!.. "
قشعريرة سرت بجسدها.. حتىٰ إن كذبت مسامعها فـ لا تستطيع تكذيب ما ترىٰ داخل عيناه.. و هذا الأكثر إيلاماً!
فهتفت بصوت تخنقه العبرات و غصتها تظهر لهُ بوضوح.. تحرقهُ قبلها!
"لا تفعل.. لا تحرق روحي عمداً.. حتىٰ و إن لم أكُن حبيبتك لا تحرقها بصفتي إبنة من إعتنوا بكَ بوقتٍ ما و لا زلت تناديهم بأمي و أبي.. بصفتي إبنه عمك و خالتك بنفس الوقت! "
سقطت دموعه الحارقه فوق طبقه من الرخام البارد من ملامح تخفي كُل إنهيارها برداعه.. و قد كان هذا رده الفعل الوحيدة ما بدر منهُ..
إلتفتت ريان بظهرها و هي تعدل بملابسها بأصابع واهنه شاعرة بمشاعر مختلطة فائقة علىٰ القلب البشري..
من شعور بالمهانة للكسر ثُم الجرح و الحُب رغم كل هذا.. فها ھي هُنا تفكر بأفكار غبية كيف ستكون حياته غيرها.. و هل ستستمر حياته من حيث توقفت أساساً!
و لكن أكثر ما كان يؤلمها و يجعل شريان مجرىٰ دموعها فائض لا يتوقف.. هو الشعور بالشفقة علىٰ نفسها بين تلك الجدران الخانقة؛
إبتلع ميران غصته القوية حتىٰ شعر أنها كادت تجرح حلقه، يجب أن يظل متمسكاً بحقارته أمامها.. لأجلها!..
و لكنهُ رغماً عنهُ فھو لا يتحمل ، لتذهب خطته إلىٰ الجحيم .. سيعانقها و ستنتهي الامها..
و عند تحفزه متجهاً إليها قد إلتفتت ريان إليه بملامح سمرته.. باردة و كأن الصقيع قد حل بها رغم توّرم شفتيها من فرط البكاء.. نظرت إليه بملامح فارغة و هي تهمس بصوت مبحوح :
"إنتهىٰ ايلول منذ زمن ، اليوم أول ايام الشتاء.. و إذ أن فصل الخريف قد إنتهىٰ أيضاً اليوم! لا أتأسف فقط علىٰ ٩١ يوم خريفي قد ضاع من عُمري و قلبي بحوزتك
انا أسفة لنفسي.. لكُل لحظة أمضيتها معكَ.."
و عند إتمامها لجملتها قد قام الحارس بفتح الباب و كأنهُ قد قرأ أفكارها بِـ رغبتها بالهروب.. و خرجت هي بأقدام ثابته.. دون ان تلتفت خلفها.. تاركه إياه بين سجن عقله..
همس ميران بصوت متألم.. قهر رجل يبكي من الألم:
"هذا ما أعرفهُ يا ريان..
إذا كان ابيكِ علىٰ قيد الحياةِ كان نصحني بنفس الشيء.. كان قد قال لي إن كان الأمر هو مصلحتكِ سأدهس علىٰ قلبكِ قبل قلبي بلا تردد.. كان سيّقول هذا بعد ضربي حتىٰ الموت لأنني أحزنت وحيدته..
لا نفع لكِ من حُب رجل حبيس بين الجدران بلا فائدة قد حُكم علىٰ حياتهُ بالموت بالفعل، هذا الأفضل لكِ.. ستبكين قليلاً.. ثُم ستستجمعين رباطة جاشك و تكملين حياتكِ مع الكثير من الألم..
ستستمري من حيث توقفتي.. ثُم ستنسيني و تسعدين..! أسف يا حبيبتي."
كان هذا أخر ما قاله قبل أن يتجه ناحيه الأحجار الصغير المترامية.. ليأخذها و يضرب بها رأسه بلا رحمة بملامح فاغرة.. لم يتوقف حتىٰ مع شعوره بذلك السائل اللزج و تلك الدماء الدافئة تقوم بتغريق جبهته.. و كأنهُ يعاقب نفسهُ.. علىٰ إيلام ريانته!..
--
• عودة للواقع •
خرجت ريان من المكان سريعاً شبه راكضة علىٰ الرغم من ساقيها المرتجفة.. كـ مَن تهرب من ماضيها!
--
"أهلللاً! "
ضحكت ريان بشدة... كانت تلك أصوات كارولين و روبيرتو و سانتو بآن واحد..
و لكن ضحكتها قد إختفت و هي تطلق شهقة منبهرة.. كان المكان قد نُظم علىٰ أكمل وجة.. نظرت إليهم و العبرات قد ملأتها بلا وعي هاتفة بصدمة:
"ما هذا الجمال؟!! "
إبتسم روبيرتو و هو يهتف قائلاً بعاطفية حديثة الظهور:
"هذا حلمكِ يا ريان.. قريباً و بعد سلسلة نجاح متواصل من فروع مركز تعليم الرقص: "روڤان بيل" سيّتم إنشاء واحد أخيراً بمسقط رأسك الأساسي.. روما.. "
ضحكت ريان بسعادة و تلك الدموع الدرامية تسقط منها مرةً أخرىٰ..
كان المكان قد أصبح جميلاً جداً.. مدخلهُ كأحد القصور الفخمة باللون الفاتح.. كـ ذوقها تماماً..
لم تستطع كبح مشاعرها و هي تهتف بصوت باكِ من فرط السعادة قائلة:
"احد أحلامي تتحقق امام عيناي بفضلكم يا أصدقاء.. مرةً أُخرىٰ؛ من الجيد انكم موجودين! "
كان هذا أخر ما قالتهُ قبل أن تندفع تعانقهم فإستقبلوها هم الثلاثة بحرارة شديدة.. فحقاً
قبل أن يهتف سانتو وسط عناقهم:
"سيّكون المركز الأنجح ليس بروما فقط بل إيطاليا كُلها.. ليُصبح كُل شيء جميلاً كـ قلبكِ يا أختي الصغيرة. "
إبتسمت ريان و هي تقرصه من وجنتيه كما أعتادت أن تفعل كلما يْناديها بذلك اللقب.. قبل أن تهتف كارولين بإبتسامة مرهقة:
"لن أستطيع مجاراة حماسكِ الآن يا ريان.. سأذهب للجلوس علىٰ أقرب كرسي بـ ساقاي باتا لا تحملاني. "
نظر إليها الجميع بقلق خاصةً روبيرتو الذي توجه إليها سريعاً و هو يهتف:
"هل انتِ بخير؟ "
-"إهدأ ايها الأب القلق.. إبنكَ بخير للغاية هذا تعب طبيعي"
كان هذا ما قالتهُ كارولين و هي تربت علىٰ بطنها..
إبتسمت ريان مرةً اُخرىٰ ؛ هي تكاد لا تصدق حتىٰ الآن رغم إتمام كارولين لشهرها التاسع منذ أسبوع..
أخذتها بعيداً تُسَندها مُهدئة روبيرتو بعينيها.. قبل ان تُجلسها علىٰ اقرب كرسي و تقبل بطنها المنتفخة كما إعتادت ان تفعل.. همست ريان بشقاوة:
"سيكون طفل نشيط.. أشعر بهذا من ركلاته المستمرة.. هل نجلب لكَ صديق أخر؟"
إبتسمت كارولين إليها مستفسرة عن اي أي صديق تقصد.. فھتفت ريان بإبتسامة حزينة:
"لنجلب كلب يسليه.. سيستمتع معهُ."
عند عرضها البسيط إبتسمت كارولين بفرح و قد أعجبتها الفكرة.. بينما إبتسمت عيّنا ريان بحزن.. و قد هاجمتها ذكرىٰ ريكس سريعاً.. للأسفو قد توفىٰ الكلب قبل شهور.. حتىٰ أنها كادت تعود لإكتئابها بسبب غيابهُ الذي لم ينبئهُ لأي فرد منهم مِن قبل..
عادت ريان لوّعيها عند إبتسامة كارولين و هي تهتف بعاطفة:
"ليأتي بصحة فقط.. لا أريد أكثر من ذلك. "
ربتت ريان عليها.. بالنسبة لها كارولين مثال للمرأة الصبورة.. رغم عدم تأكدها من مشاعرها تجاه روبيرتو بالبداية و لكنها إستمعت إلىٰ قلبها لدرجة أنها إنتظرت شخص مجهول علاقتها به سطحية يمكث داخل السجن لمدة ليست بقصيرة..
فكرت بهدوء مؤلم.. ان اخبار ميران لم تصلها منذ ذلك اليوم.. هي من تمنعت عنهُ و أبعدت سيرتهُ عن محُيطها..
كان من المُمكن ان تكن هي محلها منتظراه لأخر العمر.. و لكن لم يحدث..
بينما علىٰ الجهة الأخرىٰ يقف سانتو و روبيرتو.. يتحدثان بخفية عن أخر المعلومات التي وصلت إليهم عن صديقهم.. عن ميران!
--
كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة عصراً ، الوقت المُفضل بيومها مع ضوء الشمس البرتقالي..
ركبت سيارتها السوداء.. قبل أن يأتيها إتصال من رقم لم يدقها منذ زمن.. لما يلاحقها الماضي اليوم؟
قبلت المكالمة ليأتيها ذلك الصوت من الطرف الأخر.. قبل أن تهتف هي بجمود:
"نعم يا ماثيو. "
-"يجب أن نتقابل ، سريعاً. "
كان هذا أخر ما قالهُ قبل أن يبعث لها العنوان برسالة نصية.. فإنطلقت هي بسيارتها..
--
"ماذا تريد؟ "
كان هذا صوتها حاد النبرات.. رغماً عنها لا تستطيع الإندماج معهُ مرةً أُخرىٰ..
إبتلع ماثيو ريقهُ.. روڤان كانت أمامهُ بعد سنوات من الغيبة..
قبل أن يهمس بصوت متألم:
"اليوم كان ذكراها السنوية. "
إبتسمت ريان بألم.. قبل أن تهتف بصوت يحمل الحنين بينما تجعدت تقاسيمها من فرط الحسرة:
"أعلم.. زرتها صباحاً. "
-"للأسف انا لا املك تلك الشجاعة. "
نظرت ريان إليه بصمت.. ليس لديها ما تقولهُ؛ كان هذا قبل أن يردف هو بصوت مُقر:
"سأذهب اليوم.. من ايطاليا بأكملها.. "
نظرت إليه ريان بتفاجئ ، كان قد إنتهىٰ عملهُ هُنا.. مرةً أُخرىٰ لا تستطيع البحث عن كلماتها.. و كم كان هذا مؤلم البرود بينهما هكذا.. عند النظر لعينيه ترىٰ كم تغير هو.. و لكن كُل شيء تغير.. هي قد تغيرت؛ لا تستطيع العودة بالزمن حتىٰ و أن أرادت.. فـ تنظر إليه نظرة بريئة تحمل النفس لصديق طفولتها.. فقط!
رفع أنظارهُ إليها و هو يردف قائلاً بنبرة تحمل ثقل ما جاهدهُ بنفسهُ:
"قُمت بوعد نفسي بفعل هذا قبل خمس سنوات.. سأظل بـ ظلكِ إلىٰ أن يأتي فارسكِ الحقيقي.. ميران الذي يكرهني من كُل قلبهِ لم يقتلني رغم أنني عرضتكِ للخطر.. لأجل وعدهُ لكِ.. لأجلكِ؛.. اليوم هو يوم انتهاء حبسهُ."
كانت تلك اول مرة يحكي لها ماثيو شيء كهذا..
و بينما الصدمات تلفحها كتلك الرياح الخريفية ، جملتهُ الأخيرة قد سمرتها..
كان هذا أخر ما قالهُ ماثيو قبل أن يردف قائلاً بينما يربت عليها:
"الوداع يا صديقتي.. "
و ياللأسف لم يكُن لهُ حق الوداع.. تركها ماثيو ذلك اليوم.. و قد ترك خلفهِ إمرأة بقلب محطم و عيون جاحظة.. لم تذرف دمعة واحدة!
--
الرياح قد ضربت وجههُ بعنف.. تلك هي أول مرة يرىٰ النور بشكل حُر منذ سنوات.. يشعر أنهُ شاخ من خلال نظرتهُ للحياة حالياً كـ رجل عجوز...
يفكر بجدية.. حقاً ما سبب عيّشهُ حتىٰ الآن؟! المرأة التي يُحب؟.. ذهبت.. بل لن تنظر إلىٰ وجههِ بعد ذلك..
هل هُناك ما يربطهُ.. هل هو خرج ليّعمل كثيراً مثلاً.. فكر بإستهجان..
هو لم يعد شاب يافع.. بداخله يأس محطم.. لدرجه أنهُ يفكر أن بقاءه بالسجن كان الأفضل.. لهُ قبل الجميع..
كانت تلك افكاره المتضاربة قبل أن يلمحها.. توهجت عيناه العسلية التي عانق خضارها الشمس منذ زمن.. نفس اللمعة كلما قابلها، منذ يومهما الأول..
كانت تقف هي من بعيد.. تضع كفيها الصغيرين بجيّب سترتها الطويلة.. بينما تنورتها القصيرة تعانق الهواء مع شعرها الذي يبدو صحياً بكثافتهِ.. هي بخير ، و هذا هو ما يهمهُ..
تقدم إليها هو بينما هي تقابلهُ بنفس الثبات الانفعالي مع تصنع اللا مبالاة الدائم..
بينما داخلها.. كانت تقوم قيامة العوالم السبع.. عيناها الباردة تتشرب وجههُ الذي إشتاق لهُ قلبها اللعين.. و بشدة!
بداخلها طفلة صغيرة تكاد تبكي موتاً من فرط متضارب مشاعرها الحمقاء.. فكرة أنهُ أمامها بصحة بعد كُل شيء تدعيها للبكاء أساساً..
و أُخرىٰ مراهقة تتشرب تفاصيل وجههُ التي إزدادت وسامة بشكل مخيف.. و كأنهُ رجل كان يقضي خمس سنوات فقط من الإعتناء المكثف بشكلهِ.. لحيته التي إستطالت بشكل ملحوظ و مهندم.. خصلاته الناعمة التي سقطت علىٰ وجههُ..
الجروح الخفيفة المتوزعة علىٰ جسده فـ إلتقطتها عيناها المتفحصة قلقاً سريعاً ؛ و كأنهُ يشبه مساجين الرومان قديماً..
مع عضلاته البارزة التي عاكستها خيوط الشمس البرتقالية.. و يبدو أنها تضاعفت و ظهرت من تحت تيشرته عروقها بشكل قوي؛ و فكرة انها تحتمي داخلها يجعلها تتورد خجلاً و دفئاً..
أما الأخيرة فكانت هي.. نفسها!
عاشقة حتىٰ الموت.. تنظر لحبيبها بعد سنوات بشكل و لقاءٍ جاف.. حتىٰ فكرة أنهُ إبن خالتها و عمّها لم تبدد من هذا البرود الطاغي.. و ألم قلبها..
تشرب هو وجهها.. رغم ملابسها العصرية التي تضخ منها رائحة الثراء.. منظرها المغري؛ لم يجذبهُ غير ملامحها المحببة؛
قطعت هي شروده عنها بها... قائلة بصوت جاف:
"هل انتَ بخير؟ "
فعل هو حركتهُ المعتادة.. عن طريق إرتفاع حافة شفتيه بإبتسامتهُ المستهجنة.. بينما هي عيناها تتبعهُ و تنظر بشكل بارد لملامحهُ التي تظهر عليها السخرية بشكل وقح..
قبل ان يهتف بنبرة هازئة:
"هل تهتمين؟ "
كان هذا دورها هي بالضحك بشكل هازئ.. فـ هتفت قائلة و هي تبعد خصلات شعرها جانباً:
"السؤال واجب يا ابن خالتي؛؛ رغم أنهُ لا يهمني كثيراً.. و لكن أتمنىٰ رغم كُل شيء. "
ضحك هو بـ لا مبالاة.. بينما داخلهُ يتقطع.. هذا هو ما كان يتوقعه؛
بينما هي نظرت إليه و إلىٰ وجهه الذي أحاده عنها.. ينظر إلىٰ الارض بإستهزاء..
تعابيرها الجلدية بدأت بالذوبان و حلّ محلها الألم.. قبل أن تخفي مشاعرها رافعة رأسها بإياء واهي فضحهُ تلك الاهداب المرتجفة.. هاتفة بحزم:
"لم أجئ إلىٰ هُنا للسؤال ففط؛ ما إن تشعر نفسك جاهز تواصل مع هدا الرقم.. محامي السيد ڤيتال؛ تم إسترجاع ثروة الـ"بوفون".. اي عائلاتنا منذ زمن.. و خذ جزئك القانوني فيه،، تم حفظهُ إلىٰ حين خروجك."
نظر هو إلىٰ كف يدها التي مدت إليه مع البطاقة التي تحتوي علىٰ الرقم.. و يناظرها كـمَن سرح فيها و يقم بحل معادلة حسابيّة ما..
لدرجة أنهُ يبدو غير مبالي شيئاً بثرثرتها قبل قليل.. نظرت هي بترفع مندهشة من وقاحتهُ عبر تجاهلهُ ليّدها الممدودة..
إلا أنها لم تحسب حساب تلك القبضة القوية التي أجفلتها و سحبتها إليه فجأةً.. نظرت ريان إليه بصدمة قبل أن تحتك خصلات شعرها بصدرهُ ؛
رفعت نظراتها البريئة إليه رغم كُل شيء.. كان ميران مغمضاً لعينيه ناعماً برائحتها البرية التي لم تستطع العطور الثمينة تلاشيها..
لو تدفعهُ و لم تبعدهُ.. و لكن مع ذلك لم تتجاوب معهُ.. سكنت مكانها بينما تلك الدمعة اليتيمة تحررت أخيراً من داخل حدقتيها الابية..
بينما إرتعش هو رغم صلابته البادية مغمضاً لـ عينيه؛ لقد اضاع كُل هذا النعيم خلال تلك الفترة.. إنحرم من ريانته بشبابهُ و طفولتهُ..
غرق برائحتها هي.. بينما ريان إبتعدت ببطء.. هامسة بنبرة باكية مثقلة من فرط المشاعر و قد تصاعدت إليها الذكريات:
"لن أفعل هذا بنفسي.. انتَ إنتهيت من قلبي يا ميران.. لا أستحق عيّش ألمك مرة أُخرىٰ."
نظر إليها بعد أن قام بفتح عيناه بشكل بطئ.. لا زال تحت تأثيرها.. و إقترابهُ منها.. كانت لمسها بمثابة قطرة ترويه بعد ظمأ سنوات من الشوق..
قبل أن يردف هو بصوت مثقل بصعوبة:
"هل يوافقكِ هذا القلب الذي يتحدث لسانكِ عنهُ."
حتىٰ و إن فضحها قلبها.. عيناها تفعل.. ادارت رأسها للناحية الأُخرىٰ..
قبل أن تهتف بعجلة بعد أن تظرت لساعة يدها.. هاربة من قدرها:
"يجب أن أذهب.."
كلماتهُ التي كانت سيهتف بها ظلت في منتصفها مع إدارتها لظهرها أمامهُ..
كانت كـ حلم جميل.. إنتهىٰ سريعاً.. او بالأصح نهاه هو.. بيده..
بين لحظة قرارها بالهرب من ماضيها سقطت ورقة شجر خريفية فوق رأسها.. لا تعلم من أين و لكن قد حركتها الرياح.. تُذكرها بـ مَن حولها.. بماضيها.. فإشتدت سرعة قدماها خارجة هي من محيط هذا المكان..
و قد كان قدرهم أن يجتمعوا بعد سنواتٍ بأول ايام الخريف.. و يفترقوا عند تلك النقطة.. نقطة البداية!
--
~ بعد مرور خمسة أيام ~
جاءت الساعة الثامنة.. و حان معها موعد الرقصة الاستعراضية الأولىٰ ، بأداءها و علىٰ شرفها هي.. كان روبيرتو قد نصحها أن تكون في الختام إلا أنها من رفضت.. لسبب لا تعلمهُ.. فقط قلبها من حدثها بذلك، كما العادة!
صعدت ريان علىٰ المسرح و كعبها الرفيع يصدر صوتاً رناناً مِن حولها، بينما الكريستالات الناعمة من حولها قد خفت ضوءها.. لم يتبقىٰ سوىٰ الأضواء الصاخبة عليها هي فوق المنصة..
كانت ترتدي بذلة من إختيارها، ذات تيشرت أحمر حريري ضيق قصير الطول فـ يتبين خصرها منهْ كاملا و بنطال أخضر واسع ملئ بالمزركشات الحمراء.. حتىٰ الوانها كانت صاخبة و غير متلائمة.. عشوائية بشكلٍ مُحبب.. كما هي بالضبط!
بدأت الموسيقىٰ بالصدوح خلفها و تلقائياً توتر خافقها.. ليس لكونها أمام المئات من الحشد فھي معتادة علىٰ الجمهور منذ طفولتها..
و لكن لشعورها بنظر شخصٍ مختلف عليها، افلتت ريان تلك الأفكار سريعاً و بدأت بإنسياب جسدها مع الموسيقىٰ،
كان رقصها لا يشبه أحداً.. حتىٰ موسيقاها كانت خاصة بها هي، مجنونة و متناسقة.. ليست بصاخبة توّجع الأذان و ليست رتيبة هادئة حد الملل.. و هذا ما يجب أن يكون مع الرقصات الإستعراضي.. لا سيما مع سمة الإستعراض كـ مَا يلقبونها!
جسدها كان متناسق بشكل مُبهر و حركاتها السريعة المتجددة زادته جمالاً.. تتناسق هي مع الموسيقى و كأنها وُلدت مُتقنة للرقص..
بينما ريان كانت مغمضة عينيها و منغمسة في تمايلها، عادت لسنوات منذ دخل حياتها هو؛ كانت تغمض عينيها عند الرقص.. و تتخيل نفسها وحدها و قد تبدل الحشد الواسع به هو ، يصفق لها فتضحك متوردة.. و رأيه الوحيد من يُهمها..
و بينما هي منغمسة خلال أفكارها ، إنقطعت الموسيقىٰ.. فتحت ريان مقلتيها سريعاً و هي تواجه صفقاتهم و تصفيراتهم أخيراً، و كأنها كانت خلال حلم جميل إستيقظت منهُ أخيراً..
إنحنت برأسها تُحيّي تصفيقهم الحار..
و بينما هي تضحك مبتسمة تلوّح لهم بعفوية قبل أن تذهب لمحت عينان..
عينان خضراوتان تشبه تلك التي واجهتها منذ سنوات؛ بأول أيام الخريف.. كانت لشخص ملثم لم ترىٰ سوىٰ عيونه الجذابة حادة النظرات بينما هي بفستان زفافها القديم..
عينان قد تخطأ بالكوّن كُله.. إلا بهما..
--
قد مرت نصف ساعة علىٰ رقصتها.. نصف ساعة كانت أكثر من كافية لتتجهز بها هي..
ألقت ريان نظرة أخيرة علىٰ ثوبها للحفل.. كان أحمر اللون و يغطي ما أسفل ركبتيها بينما كان ضيّق الرسمة فيّبرز منحنيات جسدها المثالية بسخاء.. بينما كان ذراعها الأيسر عاري حسب تصميم فستانها..
و فوق عظمة رقبتها البارزة يتوسطها سلسال فخم من الألماس.. كان أول ما أهدتهُ لنفسها بعد نجاح مركزها في تركيا..
كانت قد حاولت عمل تسريحة بسيطة بتلفيق خصلاتها المجعدة جانباً و إحتواء جنونه فبدا مهندماً إلىٰ حدٍ ما..
إنتهت من وضع أحمر الشفاة نبيذي اللون فبدت مهلكة خاصةً مع عيونها الواسعة التي ابرزت رسمتها بسحبها بكحل شديد السواد و حذائها الأسود ذو الكعب العالي جداً..
إبتسمت كارولين بموّده و هي تهتف بصدق:
"بيلا!.. تبدين كاللوحات بالفعل! "
إبتسمت لها ريان بشكر.. فاكملت كارولين قائلة بأسف بينما تربت علىٰ جنينها:
"كنت أفضل الثوب الذهبي أكثر صراحةً.. و لكن جمالكِ هو من أضاف للثوب.. لا العكس. "
إبتسمت ريان و هي تنظر لها من خلف المرآة قائلة بنبرة ذات مغزىٰ:
"لقد جاء من داخلي شعور أن ارتديه.. لا أعلم، لربما لأنهُ كان اللون المفضل لسابين.. أردت الشعور و كأنها معي في اليوم الهام! "
إبتسمت لها كارولين و هي تربت عليها متفهمة.. فبادلتها ريان الإبتسامة و هي تنظر إلىٰ تلك الشقراء الجميلة المرتدية فستان زهري عاري الكتفين و يبرز تفاصيل جسدها الأنثوية التي زادها الحمل جمالاً..
كانت كارولين داعمة لها منذ البداية إلىٰ جانب سانتو و روبيرتو ،
إنحنت ريان علىٰ ركبيتها و هي تقبل بطنها المنتفخة هاتفه بشقاوة:
"أيها الصغير.. لا تتعب أمك كثيراً! "
وضعت كارولين يدها خلف ظهرها متأوهه بخفوت، رفعت ريان رأسها إليها سريعاً بقلق فطمأنتها كارولين سريعاً قائلة :
"لا تقلقي لقد تحرك فقط.. إنهُ يتدلل لأن موعد ولادته قد أقترب. "
نظرت ريان إليها بقلق أكثر غير مقتنعة قبل أن تهتف بسرعة:
"إرتاحي انتِ إذن لا تتمشي كثيراً، لأتصل بروبيرتو و هو من يدور معي في الحفل. "
أومأت كارولين برأسها فنظرت إليها ريان غير مطمئنة.. قبل أن تخرج من غرفه الإستعداد و تنادي الفتاة العاملة لتملي عليها بأن تهتم بكارولين.. اومأت الفتاة بطاعة فربتت عليها ريان شاكرة.. قبل أن تخرج لقاعة الحفل أخيراً..!
--
خرجت ريان و بخروجها قد إجتمعت العيون عليها بشكل تلقائي.. بحثت بعينيها عن روبيرتو.. يجب أن يكون بجانبها بصفته حالياً مدير أعمالها..
و تلقائياً هاجمتها ذكرىٰ تلك العيون.. فـ زال سريعاً قلقها بشأن روبيرتو و شغل هو تفكيرها كما لم يتركه منذ سنوات.. هل يعقل أن يكون قد اتىٰ إليها.. هل ميران هُنا؟..
توتر خافقها سريعاً.. قبل أن يتقدم أمامها أكثر شخص كانت تستبعد تمني رؤيته في تلك الليلة.. ستيڤ!
نظر إليها ستيڤ بإعجاب مشغولاً بجمالها الذي يشبه الفراشات بذلك الفستان.. فرمقته ريان ببرود هاتفه بصوت جامد:
"نعم! "
إبتلع ستيڤ ريقه و هو يهتف داعياً إياها قائلاً :
"تعالي لأعرفكِ علىٰ جماعتي المستثمرين.. لديهم فضول نحوك. "
نفخت ريان بغير قصد منها.. و بداخلها تتوعد لمدير أعمالها الغبي.. فبسبب إختفاء روبيرتو حالياً هي تعاني مع ذلك الأخرق المتملق..
تقدمت ريان معه لترحب بجماعته من الأشخاص بمجاملة.. و قد حاولت عدم إظهار قلة صبرها لهم.. بأقصىٰ قدر ممكن!
إبتسم الرجل ذو الشعر الأبيض الذي يقف بجانب ستيڤ لها و هو يهتف بصوت ثقيل:
"انتِ هي إذن تلك التركية التي تسكن أخبار الطبقة الراقية منذ أيام.. "
ضحكت ريان بتكلف لم تعتاده قبل أن تردف بنبرة هازئة:
"مُضحك جداً.. هنا تنادوني بالتركية و ببلدي ينادوني بالـ إيطالية؛ رغم أني تركية أباً عن جد.."
ضحك الرجل و هو يردف بإبتسامة وقورة:
"هكذا هي إيطاليا.. من يسكنها و لو لشهر يتعلق بها ، يمشي هواءها في عروقه.. و حتىٰ إن تركتها ستظل عالقة بك..!"
إبتسمت ريان بينما عيناها قد غارت بعمق.. فـ ليست ضواحي إيطاليا فقط و ڤينيس من تعلقت بها؛ بل أشخاصها أيضاً..!
مهما إبتعدت لمئات الأمتار و حاولت أن تتناسىٰ ظل هو ساكناً بقلبها للأبد..
قطع أفكارها صوتهُ المسترسل:
"و لكنهُ حقاً إنجاز يذكر لشابة مثلك أن تتجاوز المستثمرين منذ سنوات ببراعة و تحفر أسمها بين أقدمهم.. شيء مُشرف أن نرىٰ لمركز "روڤان بيل" فروعاً كثيرة بأكثر من بلدة. "
ضاقت عيناها و هي توميء برأسها مبتسمة بشكر متواضع..
إلا أن نظرات ستيڤ البلهاء نحوها و هو يبتسم جعلتها تتراجع قليلاً ؛
و قد كانت محقة فما أن مرت ثانيتان حتىٰ سمعتهُ يهتف بنبرة مستفزة لأذانها:
"جسدكِ متناسق ببراعة.. يشبه الساعة الرملية في شكله و لكن بشكل رياضي أكثر.. و خصركِ و كأنهُ منحوت،، أنني أحسدكِ بكُل وضوح. "
أنهىٰ ستيڤ جملته الأخيرة بصوت مازح و هو يربت لبطنه الممتلئة بشكل قليل بينما هي ناظرته كمن يناظر مختل عقلي.. قبل أن تهتف بصوت جامد:
"هذا ما يحدث عندما أمارس الرياضة بشكل يومي منذ سن أقل من ثماني سنوات.. ثُم هل هذا ما جذبك بعد كْل هذا الحديث الطويل.. جسدي! "
حاول ستيڤ التبرير سريعاً فارضا حسن نيته إلا أن ريان إنسحبت بسرعة بعد أن اومأت بمجاملة لذلك الرجل الذي لا تعرف إسمه بعد.. و تلك الأُعين لا تخرج من عقلها..
مشت ريان بلا وجهة محددة حتىٰ وضعت يداها علىٰ رأسها هاتفة بصوت شبه باكِ:
"يا اللّٰه.. هل أصبحت أتخيله مجدداً.. كنت أظن انني شفيت! "
و شعرت بالارض تميد من حوّلها للحظة و معاناة من هلاوس و شوق مستمر لخمس سنوات تُعاد أمامها..؛
إلا أنهت شعرت للحظة بذراعان قويتان تتمسك بها تمنعانها من الوقوع؛ نظرت ريان لمن يسندها فإبتسمت بطمأنينة قائلة ببساطة:
"منقذي.. عمي المنقذ. "
ضمها سلڤادور و هو يقبل جبهتها بحنان أبوي قائلاً بفخر:
"لمعت عيناي و أنا اراكِ يا ابنتي.. رؤيتكِ سعيدة هكذا يبهج قلبي. "
إبتسمت ريان و هي تضمهُ أكثر بينما هو شكر القدر بداخلهُ.. منذ ذلك اليوم.. عندما طرق ڤيتال بابهُ بعد سنوات طويلة علم أن حياتهُ سوف تتغير.. و قد عاد إليه مرّةً أُخرىٰ.. هو كـ سلڤادور لم يكُن لديه فكرة عن كم التعقيد الذي تورطت به ابنته المتوفية سابين..
و لكن قلبهُ كان ينبئهُ أن ڤيتال سيّعود مرةً أُخرىٰ.. اساساً هو السبب بعثوره علىٰ ريان.. أرسلهُ ليّعتني بها و قد قدم إليه بدون ان يشعر الھدية الأجمل.. ريان إبنتهُ
رؤية ريان تضحك فقط كان حلم بعيد منذ خمس سنوات.. فماذا عن تحقيقها لكُل هذا النجاح عن طريق ممارستها لـ هوايتها المفضلة؟
لا زال يتذكر دخولها لإكتئابها الحاد رغم محاولاتهُ المستمرة بالتخفيف عنها.. كان قلبه يرتعش و يتأكل من داخله بعد كل يوم يمر أمامهُ و حالتها تذبل و تزداد سوءاً..
كان يتتبعها بعيناهُ.. يخاف أن تنغمس فإكتئابها فيكون مصيرها كـ سابين..
أبعد تلك الافكار عن رأسه.. إبنتهُ بخير و هو يعيش لأجل ذلك.. هذا ما يكفيه..
نظرت إليه ريان و قد إبتعدت قليلاً بينما لم تفقد ابتسامتها المطمئنة.. قبل أن تهتف بتساؤل:
"اتذكر اننا قد دعينا العم ڤيتال.. لماذا لم يجيب الدعوة يا تُرىٰ؟ "
كانت تلك جملتها المتسائلة قبل أن تتفاجئ به شخصياً أمامها.. إبتسم هو بإمتنان بينما يستند علىٰ عصاهُ الخشبية قائلاً بضحكة:
"صحيح لقد هرمت.. و لكن لم أكُن لأتركك في يومك هذا. "
إبتسمت ريان بإمتنان متحفظ بينما تنحني لتعانقهُ بطيبة.. لم يتبدد تحفظها عليه و علىٰ شخصيتهُ خلال تلك السنوات.. و لكنها ممتنة إليه رغم كل شيء.. جزءاً من عائلتها فيه.. و هذا المهم!
نظر هو إلىٰ عينيها و شعرها و قد إمتلات عيونه المليئة بالتجاعيد مُردفاً:
"بيل تماماً.. تبدين نسخة مصغرة منها. "
إبتسمت ريان بفرحة طفل برئ.. و قد كان هذا المديح الأجمل الذي تلقتهُ تلك الليلة.. قبل أن تهتف بعدم تصديق ظهر من خلال إبتسامتها الواضحة:
"حقاً؟.. و لكنني رأيت صورها.. تمتلك هي شعر و عيون ذهبية.. أمي كانت اجمل. "
ضحك ڤيتال و هو يتذكر وجهها.. رغم مفارقتهُ لها منذ زمن لا زال يظنها لذاكرتهُ بشكلٍ واضح.. كانت الفتاة الأقرب لقلبه.. قبل ان يردف معترفاً :
"كانت جميلة.. و جميلة جداً ايضاً.. و لكن بما أنني رأيتكما أنتما الإثنتين لأعترف أنكِ تمتلكي نفس تجعيدات شعرها.. الحماس و النشاط الطاغي بروّحها.. و لكن لأعترف.. أنتِ تمتلكين حس الفكاهة أكثر. "
ضحكت ريان بتواضع.. بينما إبتسم الرجلين بمودة لها..
مرت دقائق من الحوارات المضحكة بينهم.. قبل أن تستأذن ريان الإبتعاد منهم.. و قد لفت انتباهها شيء ما..
ظهر عريض موّجه لها.. رجل ذو ظهر عريض و مظهر مهندم عبر حلته السوداء رغم عدم إستبيان وجههُ لها..
تعالت دقات سيمفونية قلبها و هي تتقدم ببطء ناحيتهُ.. كان يستند هذا الشخص فوق الطاولة التي تحتوي علىٰ الأنتيكات الكريستالية..
توّجهت هي ببطء أكبر.. من الواضح أنها خائفة.. إلا أنها عندما إقتربت أكثر لم تلحظ تلك المرأة ذات الشعر البرتقالي فـ قد اخفاها صاحب الظهر المثير عنها..
إبتلعت ريقها و هي تستمتع إلىٰ ضحكات تلك المرأة المتغنجة معهُ..
لم تمنع شعلتها الهجومية من الإشتعال و هي تتقدم نحوّهم بسرعة و قد تحقق ما توقعتهُ.. كان هذا ميران!
تقلصت ضحكاتهُ الخفيفة أخيراً و هو يرىٰ ريان أمامه.. بشحمها و لحمها..
توهجت عيناه بلا علم بينما هي مقلتيها الغاضبة لسبب لا تعلمهُ لم تستطع تجاهل إختلاط لون عيونه مع الإضاءة القوية فظهر خضارها بشكل واضح.. بل لم تستطع تجاهل وجوده بشكل عام أمامها..
لاحظت أنهُ قام بحلق لحيته و تقصير حجم شعرهُ بشكل خفيف.. مع حلته الشبابية السوداء التي جذبتها عن طريق فتحهُ للأزرار الأمامية لقميصهْ الأبيض.. فكرت بعنف.. أنهُ يبدو مثير هذا الاحمق..
أما عيناهُ هو.. فتدبرت الأمر اساساً.. لم يترك إنشا بها و لم يتأملهُ بإنبهار.. بدءاً من شعرها الذي نجح بتجعيداتهُ بإبهارة مرة أُخرىٰ اليوم حتىٰ فستانها الذي بات و كأنهُ خلق خصيصاً لأجل جسدها.. و لكن وجهها الحبيب.. تكفل بتفاصيلهُ بعناية..
و بين جولة نظراتهم الصامتة كادت ريان تنسىٰ حنقها و غضبها الغير معلوم سببهُ قبل قليل.. قبل أن تقاطعها تلك البرتقالية هاتفة بصوت متغنج بنعومة أثارت قرفها:
"الن تُعرفنا أيها الوسيم؟! "
لم يبدو أن ميران قد سمعها اساساً خلال تأملهُ لـ ريان.. حتىٰ نظرت ريان إليها بطرف عينيها قبل أن تسحبها سريعاً بتجاهل متقصد تعيد كرتا لهيبها لـ ميران:
"حقاً.. الن تعرفنا يا وسيم. "
إستعاد ميران وعيّه أخيراً مستوعباً الموقف الذي هُما فيه.. قبل أن تتسع ابتسامتهُ بدون قصد منهُ و قد لاحظ سبب غضب ريان الواضح..
فـ تلك الفاتنة التي أشعلت المسرح قبل قليل بموّهبتها.. و جعلتهُ يقع بھواها للمرة الالف.. تقف هُنا تشتعل غيرة.. لأجله..
ثُم هتف بنبرة جاهد بشدة أن يكتم الضحك بها:
"بالطبع بيري.. تلك هي ريان.. ريان.. بيري. "
ليس فقط مناداتهُ لها اولاً مع إشارتهُ التعريفيه لهما ما ضايقها.. بل نعتهُ لإسم تلك الـ"بيري" بشكل عام بات مُغيظاً لأذانها؛ عضت ريان علىٰ شفتيها الحمراوتين تحاول تماسك أعصابها إلا أنها لم تستطع فأردفت بنبرة هجومية:
"و هل تأتين يا بيري لحفلات افتتاحية لا تعرفين من أصحابها؟ "
عضت بيري علىٰ شفتيها بشكل حاولت جعلهُ مثير مع فستانها الفاضح بشكل مبتذل الذي يكشف أكثر مما يخفي..
بينما ترسم وجوهاً مفكرة علىٰ صفحة وجهها قبل أن تردف بإبتسامة ثقيلة متصنعة الدهشة:
"أانت تلك الراقصة التي صعدت و أبهرتنا قبل قليل؟ نسيت.."
فلم تلبث ثانيتان حتىٰ اعادت القول موّجهه حديثها لـ ميران:
"رؤية رجال وسيمين هكذا.. لا سيما ثقيلين أيضاً.. يُنسي المرء حتىٰ إسمهُ أليس كذلك. "
تلك المرة كانت النيران تخرج من عيون ريان.. التي لم تهدأ حتىٰ هتفت بصوت مُعادي ترد الكرة إليها:
"بل تنسيكِ بقايا خداعكِ يا حبيبتي.. سقط حشوكِ علىٰ الارض. "
نظرت بيري للأرض برُعب و هي تلتقط القطن الذي كان يغلف صدرها بينما إرتفعت حافة شفتي ريان بإبتسامة منتصرة.. قبل أن تهتف بصوت عال من خلف بيري التي هربت سريعاً ممتقعة الوجه:
"هناك شيء يُدعي نفخ يا روحي.. أحصلي عليه بدلاً من هذه الشفقة المؤسفة. "
لم يستطع ميران منع قهقهته و هو متتبع للموقف بشكل صامت منذ دقائق.. فإنفرجت ضحكته الرجولية بين شفتيه بشكل قوي إنتشر بالمكان.. ضحكت ريان أيضا و قد آجلت غضبها منهُ.. قبل أن يهتف هو بين سيل ضحكاته:
"اكره ان يُحرج احد أمامي.. و لكنكِ مذهلة. "
ضحكت تلك المرة و هي تشاهد إغلاقهُ لعيناه.. كـ مَن وجد فرصة تضحكهُ أخيراً فإستغلها الإستغلال الامثل.. كان ميران متعطشاً للضحك و الحياة بطريقة جعلتها تفكر بطريقة حزينة.. تُرىٰ هل تلك هي أول مرة يضحك بھذا الشكل هكذا مُنذ سنوات..
و عند تلك الفكرة توقف ميران عن الضحك.. ليّجدها تنظر إليه شاردة و فوق شفتيها إبتسامة حزينة..
وعت ريان علىٰ نفسها فـ لم تشعر بنفسها إلا و هي تبتعد عن الطاولة بلا حديث.. إلا أن كفهُ التي وقفتها من ساعدها جعلتها تتراجع إليه..
كانت قد ذهبت ريان القديمة.. الوقحة و عديمة الخجل التي ظهرت قبل قليل ؛ و حلّت محلها الحديثة.. تلك المجروحة بشكل كبير..
نظرت ريان للناحية الأخرى بكبرياء مجروح محاولة إبعاد ساعدها عنهُ.. إلا أنها لم تتوقع سحبهُ لها خارج المركز بأكملهُ.. نظرت ريان إليه مستفهمة بينما تتواصل نظرياً مع حراس المكان المتئهبين لمساعدتها و تطمئنهم أنها بخير..
كان ميران مُستمراً بسحبها حتىٰ وصلوا لأبعد مكان عن صخب الحفل.. بجانبهم فقط الأشجار التي تم زرعها بالحديقة مع ضوء القمر..
أبعدت ريان ساعدها عنهُ أخيراً.. لم يؤلمها هو اساساً..
قبل أن تردف بصوت هادئ للغاية:
"ماذا تُريد يا ميران؟ لماذا أتيت؟ "
صوتها هادئ النبرات قليل الحيلة كان يقتلهُ.. قبل أن يهتف بعفوية بسيطة.. شديدة التعقيد لها:
"لرؤيتكِ.. فقط. "
-"و لكن لا أريد ،، أتركني و شأني. "
صوتها الذي هتفتهُ بنبرة ناعمة بصعوبة جعلتهُ بهتف بنبرة أصعب و أشد إصراراً قائلاً :
"لا أستطيع.. ما يجعلني لا أفعل هو تأكدي انني في قلبكِ.. بدونهُ لما إستطعت التحمل اساساً."
ها هو ميران.. يهدم حياتها رأسا علىٰ عقب مرة أخرىٰ و يعلقها به ثُم يدمرها مرةً أُخرىٰ..
أخفضت نظراتها المجروحة عنهُ بينما واجهتهُ أهدابها المرتجفة.. فأردف هو بصوت جاهد الا تظهر نبرة بكاءهُ به:
"إصرخي.. أغضبي.. لم تلوميني حتىٰ الآن.. لا تصمتي. "
و عند كُل طلب منهُ لها بالإنهيار كانت تتحرر دمعة من قيد أعيُّنها.. قبل أن تنخرط ببكاء عنيف كالأطفال محررة نفسها أخيراً.. و ناحرة روحهُ داخل جسده.. و كان هذا أكثر شيء مؤلم علىٰ الإطلاق..
ضمها ميران لصدرهُ بذراعين قوية لتلتصق رأسها بقلبهُ المتألم عليها.. لاعناً غباءهُ.. كم كان حقير..!
بينما هي تخبطت بين ذراعيه بشدة تحاول التخلي و لا يتركها هو فـ لم تلبث إلا أن إستكانت في النهاية..
بين نشيج بكائها الذي يسقط بكثرة كانت تهتف قائلة بتساؤل بسيط للغاية:
"لماذا فعلت يا ميران؟. "
حاولت الإبتعاد قليلاً بينما إهتزازات جسدها القوية صعوداً و هبوطاً لم تختفي..
فأردف هو متجنباً النظر إلىٰ وجهها لعظم شعورهُ بالذنب قائلاً بنبرة ثقيلة متحشرجة:
"ريان.. أقسم انني فعلت هذا لأجلكِ.. لأجل ان تستمري بمستقبلكِ و لا تقومي بتضييع فرص عُمرك بسبيي؛
صحيح كُنت أظن انني سأتعفن في السجن و لكن حتىٰ و إن علمتُ أن فترة حبسي ستدوم لأسبوع واحد.. أسبوع واحده فقط كنت سأفعل نفس الشيء يا ريان. "
مجرىٰ دموعها لم يجف.. و بينما قد قامت بعقد حاجبيها تحاول إستيعاب ما يقولهُ تلك النظرة المجروحة لم تختفي من غلاف عينيها..
إبتلع ريقهُ بعنف خائف.. هذا ما كان يتوقعهُ رغم كُل شيء.. لم يكُن يتوقع أن تستقبلهُ بالأحضان بعد تضحيتهُ العميقة لها..
ثوانٍ صامتة مرت لم يقطعها سوىٰ إلتقاطها لأنفاسها المتحشرجة من فرط عنف بكائها..
قبل أن تهتف بنبرة متوّجعة.. و الحال أنها متوّسلة بتعب:
"اللعنة علىٰ مستقبل لستُ فيه بينما جرحكَ لا زال يؤلم قلبي.. و هل كنت سعيدة أنا الفترة السابقة؟"
إرتعش ميران عند إعترافها.. قبل أن تكمل هي بهتاف قد زاد من صدأ جرحهم الذي لم يلتئم بعد فـ يدمي كلا منهما.. معاً..!
"انتَ غبي جداً يا ميران.. إن كان يُهمك حقاً مستقبلي كنت تستطيع العثور علىٰ اي طريقة أُخرىٰ.. هل العثور علىٰ طريقة و لا تجرحني بها صعب إلىٰ تلك الدرجة؟ "
دموعهُ قد سقطت.. هي محقة..
هو غبي.. و هي محقة..
و بيّن ثوانٍ من الصمت قررت هي الذهاب.. منعها هو مرة أخرىٰ ملتقطاً ساعدها بضعف؛ فـ صرخت به هي و قد فاض بها الكيل:
"لا.. لا...لا!!"
و بين كُل لا تتلفظها هي كانت دموع الحسرة تهبط أكثر.. هو لا يستطيع من دونها.. و هي أيضا.
فھمس بصوت ضعيف للغاية متوسلاً:
"ارجوكِ."
جملة بسيطة تحمل الآلاف من المشاعر المختلطة بـ خلاف تشبثه القوي بها.. ميران قد إنهار أخيراً بين يديها لا العكس و هي وحدها مفتاح نجاتهُ.. نورهُ وسط الظلام.. بدونها يضيع
يتشبث بها و يتوّسل منها علّها تشفق حالتهما معاً.
إنهمرت دموعها بقلة حيلة.. كانت قد إنهار علىٰ ركبتيه.. فھمست هي بصوت متحشرج:
"لا أستطيع فعل هذا بقلبي يا ميران.. لا أستطيع الرجوع.. و لكن أرجوكَ أنهض.. لا تؤلم قلبي عليك. "
ينفي هو برأسهُ بشدة مع كُل كلمة و قد تحول رجل تجاوز مُنتصف الثلاثينيات إلىٰ طفل لا يستطيع بدون امهُ.. كـما هو لا يستطيع بدون ريانتهُ..
عند تلك النقطة لم تتحمل هي.. سـتنهار إلىٰ جانبهُ..
و لكن قطعهما صوت صراخ حاد إنبعث من الداخل تزامناً مع سيارة الإسعاف التي وصلت للمكان.. نهض ميران سريعاً عن الأرض خافياً ضعفهُ..
نظرت ريان حولها بعيون منتفخة لم تهدأ منها الدموع بحيرة.. قبل أن تهتف موجهة حديثها لميران بنبرة ضعيفة علىٰ الرغم من القلق البادي بها:
"هل هذا هو روبيرتو؟ "
أمسك ميران بيدها بلا وعي متقدمين نحو الهرج بالأمام.. و قد كانت ريان محقة..
كان روبيرتو يركض مع المسعفين يحملوا كارولين الصارخة بالم.. و قد حان موعد ولادتها.. تعلن هي ولادة روح جديدة لتلك الحياة..
--
مرّ أسبوعان علىٰ اللقاء الأخير بينهما..
أسبوعان لم يزدا نفسها غير سوءاً.. قد قررت هي أن تبتعد عن كُل تلك الفوضىٰ.. قلبها لم يعد يحتمل
ريان تمكث في الفندق إلىٰ جانب مركزها.. قد تركت هي شقتها بضواحي روما الفاخرة.. بعدما عثر هو علىٰ عنوانها بكُل بساطة و بات يعترض طريقها بكُل ثانية..
خافت هي ان تضعف.. لذا قررت المكوث إلىٰ جانب عملها.. حيث لا مجال للتفكير فيه..
تقلبت علىٰ جانب سريرها للمرة المليون تحاول النوم.. لعل و عسىٰ تتخلص من أفكارها الصاخبة التي تتمحور عليه هو حالياً.. كُل خططها بتجاوزه تبوء بالفشل و لكنها بخير حالياً.. و قد أدركت هي أن النوم لن يحل علىٰ جفونها التي قررت الإستيقاظ قبل السادسة صباحاً..
--
اخذت حمامها الدافئ قبل أن ترتدي خفها الصوفي المريح مع بيجامتها الضخمة الوردية.. اما شعرها فقد جمعته بكعكة مبعثرة فـلم تقدر حتىٰ علىٰ ترتيبه؛ تتذكر بعد تلك الليلة.. ليلة إفتتاح مركزها..
كانوا قد ركضوا جميعهم إلىٰ المشفىٰ للإطمئنان علىٰ كارولين بينما القلق هو الوحيد ما ينتشر بينهم في الأجواء.. إلىٰ جانب نظراتهم المتوترة..
و عندما إستطالت العملية و بين محاولاتهم الفاشلة بتهدئة خوف روبيرتو كانت قد لاحظت هي النظرات الهادئة التي تدور بين ميران و العم ڤيتال..
لذا لم تحتمل كبت فضولها رغم كُل شيء و همت لسؤاله بصوت جامد و كأنها ليست نفس المرأة التي إنهارت بين ذراعية باكية قبل ساعات:
"لم أتوقع ان أراكَ تتحدث مع السيد ڤيتال هكذا.. بل لم أتوقع ماهية مشاعرك تجاههُ أصلاً.. هل إمتنان لأنهُ أنقذ هدران بقية عُمرك بين جدران السجن.. أم غضب لإن بوجودهُ لم يكُن ليّحدث كُل هذا... "
و وقتها أجابها بنبرة واضحة.. لم تنس اثرها أبداً:
"البكاء و اللوم.. و إتباع اسلوب طريقة البحث عن ضحية بينما جميعنا إرتكبنا الأخطاء.. تلك أشياءً لا تناسبني.. بالنهاية لا نستطيع تغيير ما حدث حتىٰ و لو أردنا."
وقتها صمتت هي لسبب لا تعلمهُ بعد كلماتهُ.. ثُم لم تمر نصف ساعة حتىٰ خرجت الممرضة تطمئن روبيرتو علىٰ صحة كارولين ثُم تعلن وصول الرضيع بالسلامة بينما صوت بكاءه يلوح في الأجواء فيزيد من بهجتهم؛
و وقتها قرر هو الإنسحاب.. رغم صداقتهُ المتينة مع روبيرتو و حتىٰ سانتو ذهب مع لحظتهم السعيدة.. تاركاً ندبة في قلبها تفكر بشعورهُ و هو يظن نفسهُ فرداً ثقيلاً بينهم.. مفسداً لفرحتهم..
أنت تقرأ
هل يُزهر خريفي؟
Adventureتتوالىٰ الفصول؛ و يحين موعد فصل الخريف أخيراً.. من بين نواحي إيطاليا؛ تحديداً ڤينيسا.. عندما تتقاطع طرق تلك الراقصة المشعة بالحياة.. روڤان و قد كانت كما إسمها، مع الشخص المظلم الملطخ بالسوداوية.. ميران. هل يقع إنسان بحُب مختطفهُ؟ حكاية مستحيلة بقد...