(الفصل الأول)

64 0 0
                                    

كان الحاج إبراهيم الدسوقي جالساً في إحدى محلات الذهب التي يملكها ...يتطلع إلى صورة ابنته...بنظرات
مشتاقة ممزوجة بشئ من الندم...بسبب ظلمه لها ...نعم فهو لم يظلمها مرة واحدة ...بل ظلمها مرات
عديدة...أولا عندما لم يحسن إختيار زوجة وأم لأبنائه  ... وعندما كان يتصيد لها أقل الأخطاء
ليقوم بضربها ...وكأنه يعاقبها على ذنب لم ترتكبه ...بل قام هو بارتكابه وأخطأ في حق نفسه وحقها
رفع يده ليرجع خصلات شعره السوداء الذي خالطها الشيب للخلف ...وأسند ظهره على الكرسي...ليعود
بذكرياته إلى ذلك اليوم الذي تدمرت فيه حياته وحياة ابنته...
...........................................................
عاد إلى منزله مبكراً في هذا اليوم ليفاجئ زوجته بتلك الهدية التي أحضرها لها...لكنه تفاجئ عندما وجد
المنزل هادئ على غير العادة ...وطفلته الحبيبة لم تأتي لاحتضانه كما كانت تفعل دائماً...تقدم للداخل وهو
ينادي على زوجته  وابنته قائلا بنبرة عاليه:
(تولين ...رؤى..)
توقف فجأة عندما رأى أن باب حجرة مكتبه مفتوحاً قليلا وهناك ضوء خافت ينير المكان.. وما زاد من
صدمته هو سماعه صوت زوجته تهتف عبر الهاتف:
(لا تقلق ....سأخفيها جيداً...)
صمتت قليلا لأن الطرف الآخر كان يتحدث ليسمعها تخبره:
(أنت تعلم أن هذه ليست أول مرة أفعلها...)
ما الذي تفعله زوجته من خلف ظهره ؟...سؤال اخترق عقله عندما استمع إلى كلامها ...وما جعل صبره
ينفذ هو استماعه إليها وهي تقول:
( أن تعلم أن هذا هو الشئ الوحيد الذي أخذته من زواجي منه ...هو لم ولن يكون إلا غطاء لعملي ...)
غطاء لعملها؟..هذا هو سبب زواجها منه ؟!...لم ينتظر أن يسمع المزيد...بل دفع الباب بقوة ...جعلتها تنتفض
في مكانها وتضع سماعة الهاتف من يدها بسرعة ...وتقدمت ناحيته وهي تخبره بابتسامة متوترة:
(حبيبي متى عدت من العمل؟!...ولماذا لم استمع إلى صوت فتح الباب؟!.)
أجابها ببرود مخيف:
(لأنكِ كنتِ مشغوله في الهاتف...)
قالها وأمسكها من ذراعها ليضغط عليه قائلا بقسوه أول مرة تراها منه:
(هل تمزحين معي ؟...أخبريني ماذا تخفين عني؟...)
(لاشئ...)
نطقتها بخوف متقطع ...لم يزيده إلا جنوناً...فأصبح يهزها بشدة والأسئلة تتصارع في عقله بشأن عملها
الذي لم يكن سوى غطاء له ...ليتركها أخيراً...عندما رأى إصرارها على عدم الاعتراف بالحقيقة ...والطريقة
الوحيدة ليأخذ اعترافها أن يهددها بإحضار الشرطة ...كان مجرد تهديد لم يكن واثقاً بأنه سيجعل ملامح
وجهها تتغير مائة درجة ...إلى الرعب الشديد...هو واثق أنه لو أخبرها بأن ملك الموت سيأخذ روحها
في هذه الحظة لما كانت سترتعب بهذه الطريقة...
كانت تهز رأسها يمينا ويساراً...ولم تعد قادره على التحدث ...لذا اكتفت بالإشارة على المزهرية الموجودة على
مكتبه ...ليتطلع إلى المزهرية ثم أعاد نظره إليها قائلا بعدم فهم:
(لا أفهم !!!...)
تقدمت ناحية المكتب بخطوات مرتعشه ...العرق يتصبب من جبينها...رغم برودة الأجواءفي هذا الوقت من السنة .
...قامت بإمساك المزهرية وأخرجت الورد منها ...وأمالتها قليلا ليتساقط منها العديد من الأكياس الصغيرة ...بها
مسحوق أبيض اللون ...جعلت الواقف في الخلف يتحول وجهه إلى اللون الأصفر من شدة الصدمة
.....
انتبه الحاج إبراهيم إلى صوت أحد العاملين الذي كان يسأله هل يقوم بإغلاق المحل الآن أم ينتظر لبعض الوقت
فهز رأسه وهو يخبره بأن يقوم بإغلاقة ....لأن الظلام قد حل ...والزبائن يكونوا قليلين في هذا الوقت
************************************************************
كانت جالسه على فراشها تحمل في يدها طفل صديقتها الرضيع ...تقوم بإطعامه الحليب
كما أوصتها صديقتها....لكنها تسمرت في مكانها عندما استمعت إلى صوت طرقات على
باب حجرتها ...وضعت يدها على نبضات قلبها التي تسارعت بخفوف وسألت عن هوية
الطارق الذي تعرفه ولكنها أرادت التأكد:
(من؟...)
جاءها صوت شقيقها من الخارج وهو يحرك مقبض الباب:
(أنا وليد يا هند...لماذا تغلقين الباب بالمفتاح؟...)
انتفضت بسرعة من مكانها ووضعت الصغير الذي بدأ بالبكاء على الفراش ...لتقوم بارتداء عباءة
منزلية خضراء اللون ..على البيجامه التي كانت ترتديها ...لتطلع إلى نفسها في المرآه تتأكد
أن العباءة لا تفصل شيئا من جسدها ...ولكن يبدوا أن وزنها قد ازداد في الآونه الآخيرة من دون
تنتبه ...لكن هذه الزيادة كانت في المناطق الصحيحة...وزادتها جمالا...
انتفضت للمرة الثانية على صوت شقيقها ...فرفعت يدها ورفعت شعرها الذهبي ..وثبتته بدبوس
شعر...ثم توجهت ناحية الصغير وحملته وهي تقول:
(حسنا...حسنا...ها قد عدت ..)
قالتها وهي تفتح الباب قائلة بتأفف:
(ماذا تريد يا وليد..)
أجابها وهو يتطلع إليها بنظرات متفحصه:
(وماذا سأريد من سمو الأميرة ؟...أبي يخبرك أن تأتي لتناول الطعام ...وأن تتركي هذا الطفل...)
(ألم تستطع أن تقول هذه الجمله والباب مغلق.!..)
صمتت قليلا لتتابع كلامها:
(ثم إن عمر يبكي...ولن أستطيع أن أتركه...)
أنهت كلامها وقررت أن تعود لداخل الحجرة لولا أنه أمسكها من ذراعها قائلا بابتسامه:
(وأنا أخبرتكِ أن تتركيه ...وتأتي لتناول طعامك...)
أبعدت يده عنها وهمست بتوتر:
(سألحقك بعد خمس دقائق...)
أومأ برأسه وغادر فأغلقت الباب واستندت عليه بارتياح..هذه الفترة لم تعد نظرات شقيقها تعجبها ...ولا لمساته ...
لم تعد تشعر بأنها أخويه ...لذلك أصبحت ترتدي العباءات دائما ...رغم أنها لا تفضلها ...وشعورها بالأمان أصبح
محصوراً في غرفتها ...وفي المفتاح الصغير الذي لم تعد تتركه من يدها..يا للعجب ...الأخ الذي من المفترض
أن يكون السند والأمان لاخته ...أصبح مصدر للخوف ...نظراته لملابسها وتفحصه الدائم لها جعلها تشعر
بالخوف وعدم الأمان ...ورغبه في ترك المنزل ...والابتعاد عنه....هروباً من تلك النظرات ...ليس من نظراته
فقط ...بل هروباً من والدها وزوجته كذلك....آآ
**************************************************************
(تباً لك....)
قالتها رؤى بتأفف من رجل الأمن الذي رفض إدخالها إلى تلك الشركة لكي تقوم بإجراء مقابلة العمل...ولم تخفي
عليها نظرة الإشمئزاز الذي رمقها بها وهو يخبرها بكل برود:
(العمل هنا للمواطنين...لا للاجئين...)
(دعني أستمع إلى هذا الكلام من مدير الشركة ...)
قالتها بمحاولة أخيره منها ليدخلها لكنه أخبرها بنبرة عالية :
(اذهبي من هنا بإرادتك إلى المنزل ...بدلا من أن تذهبي (غصبا)إلى السجن...)
بمجرد سماعها لكلمة(السجن)غادرت بسرعة ...لم تعد تعلم ماذا تفعل ...شهرين كاملين وهي تبحث عن عمل ...لكنها
لا تلقى سوى الذل والإهانه ...لم تعد تعلم ماذا تفعل؟!..أول على من تلقي اللوم ...أعلى والدتها التي لا تعلم عنها
شيئا ...بل هي بالكاد تتذكر ملامحها ...فمنذانفصالها عن والدها لم تسأل عنها ...ولو بمكالمه هاتفيه ...تجعلها
تشعر بحنانها....أم تلوم والدها الذي جعلها تهرب بالزواج من أول شاب تراه مناسباً لها....أم تلوم تسرعها في
الاختيار ....أم تلوم القدر الذي لم يكن يوما بجانبها...آآآ
.....
اضطرت لركوب سيارة أجرة جماعية ...لان النقود التي معها لم تكن كافية لركوب سيارة خاصة...رغم محاولتها في
توفير النقود ...إلا إنها ستأتي يوم وتنتهي....وسيكون عليها طلب النقود منه ...وهي لا ترغب في ذلك ...الحديث
معه أصبح يحتاج إلى طاقة كبيرة ...هي حتماً لا تمتلكها...يا إلهي ...هل وصلت حياتهما معاً إلى تلك
الدرجة...تحتاج فيها للتفكير ألف مرة قبل أن تتحدث معه...الحياة بينهما أصبحت مستحيله منذ وقت
طويل...وهي تحملت الكثير من أجل طفلها...طفلها الذي هي مستعدة للتضحية بنفسها من أجله...ولن تقدر على
الرحيل بدونه..على ذكر كلمة الرحيل..وهل هي تملك النقود الكافية لكي ترحل دون قلق؟...بالتأكيد لا...وهذا هو
السبب الرئيسي الذي يجعلها تبحث عن عمل ...أن تبني كياناً خاصاً بها بعيداً عنه وعن الجميع...
أغمضت عينيهاوهي تغوص في ذكريات لقاءهما الاول الذي شعرت فيه بأنه طوق النجاة الذي جاء إليها لينقذها من
والدها
.......... ....................
تقدمت لداخل حجرة الأستقبال وهي تحمل في يدها صينية موضوع عليها كوبان من العصير ...توجهت ناحيته
وأخفضت رأسها وهي تقول بهمس:
(تفضل..)
مد يده وأخذ أحد الكوبين وشكرها بابتسامه هادئة ...فأومأت له برأسها ووضعت الصينية على المنضدة
وجلست مقابله...عندما استمعت إلى صوت والدها يتحدث معه ...سمحت لنفسها بإلقاء نظرة عليها..
وسيم!!!...أول كلمة نطقتها عندما شاهدته ...ولا تدري لما قالت ذلك؟!...هل لكونه أسمر بملامح جادة
تشع جاذبيه....أم بسبب ذقنة ذو الشعيرات القصيرة ...وعيناه سوداوان كلون الليل ...والذي تناسق
لونهما مع شعره الغزير الناعم...أم لآن..
أخفضت عينيها بسرعه عندما رفع رأسه فجأة وهي تلوم نفسها على هذا التفكير ...خاصة وأنها قد قررت الرفض
منذ البداية ...وأعدت نفسها لضرب والدها ...آآآ
........
لم تنتبه لخروج والدها إلى الشرفة ...وتركهما معاً إلا عندما استمعت إلى صوته يخبرها :
(هل ستظلين صامته...)
رفعت رأسها قليلا ولفت انتباهه هذه المرة ...ارتدائه لبدله رسميه سوداء أعطت رونقاً جذاباً لجسده المتناسق
عليها أن تعترف أنه بارع في اختيار ملابسه ...
انتبهت إلى صوته وهو يخبرها بمزاح:
(يبدوا أنني سأتعب معكِ...)
(ماذا؟...)
قالتها رؤى باستفهام فأخبرها بابتسامه:
(لأنني لا أحب الصمت .. ويبدوا أنكِ معجبه به...)
ارتسمت على شفتيه ابتسامه صغيرة فأخفتها سريعاً...فأخبرها بهدوء:
(حسناً ...سأتحدث أنا اليوم...)
ثم رفع يده قائلا بتحذير:
(لاكن لا تعتادي على هذا...)
تغيرت نبرته للجدية التامة وهو يخبرها :
(كنت أمزح معكِ ...سأتحدث عن نفسي...اسمي حاتم منصور ...تخرجت من كلية إدارة الأعمال ...
عمري  خمس وثلاثون عاماً ...ولدي شركة للاستيراد والتصدير في مدينة نيويورك...و...)
( نيويورك نفسها ..أمريكا؟!...)
قالتها بتساؤل  فاومأ لها وتابع حديثه:
(في الواقع أنا أعيش في نيويورك منذ حوالي ثلاث عشرة سنه...وأتي إلى هنا كل سنتين أو ثلاث مجرد
سياحه...)
وقبل أن تسأله عن والديه أخبرها بأن والدته متوفيه ووالده يعيش برفقته ...
(هل ترغبين في معرفة أي شئ آخر؟...)
اومأت برأسها وأخبرته بجدية:
(هل تعرفني من قبل؟...)
صمت لدقائق قبل أن يخبرها:
(هذه أول مرة أراكِ فيها...في الحقيقة أنا أكون قريب أمكِ...)
(أمي...)
قالتها بصدمه متقطعه لتسأله بعدها:
(هل تعرف  مكانها؟..)
رد عليها حاتم بجدية:
(لا...هي تتواصل مع والدي بين فترة وأخرى ...وهي من أخبرتني معكِ...)
لمعت عينيه وهو يقول بإعجاب واضح :
(ولكنكِ في الحقيقة ...أجمل مما وصفت...)
والدتها تتواصل مع شخص غريب  وتصفها له وتترك ابنتها من دون أن تسأل عنها!!...لاشك أنها كانت تصف له
تلك الطفلة التي تركتها وابتعدت ...دون أن تهتم بأنها كانت تحتاجها ...أغمضت عينيها بألم. ..والدتها بخير
ولم تهتم بها ...إذا لا شئ يشفع لها عندها ...إذا كانت لا تريدها فهي ستكون كذلك ...ستعتبر أن والدتها توفيت
عند تلك اللحظة لمعت عينيها الخضراوان بويض غريب...يشبه الدموع...فأغمضت عينيها وفتحتهما لكي
تتحاشى سقوطها أمام شخص غريب ....
ظلت صامته لبضع دقائق حتى استمعت إليه يطلق تنهيدة خافته وهو يخبرها:
(اسمعيني يا رؤى...إذا كنتِ غير موافقه علي...فأخبريني بذلك وأنا سأضع اللوم علي...وسأنسحب من دون أن
أسبب لكِ المشاكل...)
رفعت وجهها بذهول ولم تصدق حتى الآن أن هناك شباب جيدين لهذه الدرجه...لكنها لن تستطيع أن تجيبه على
طلبه لذلك اكتفت بقول:
(سأصلي استخارة...)
بعد انصرافه برفقة والدها جلست على الأريكة ووضعت يدها إلى ذقنها تفكر قليلا ...من ناحية العمر فالفرق بين
الثلاثة عشر عاماً الذي قضاهم في أمريكا ...ولكن يمكنها التنازل عن هذا الفرق...لأنها ستسافر معه. ..وتبتعد عن
سجن والدها ...وفوق هذا شكله لا يعطيه هذا العمر...فقبل أن يخبرها بعمره كانت تخمن أنه في نهاية العشرينات
...ثم إن كلامه في النهاية أعجبها ...وجعلها تشعر أن هذا الرجل سيسعدها ويعوضها عما لاقته من والدها ...
لذلك ستوافق عليه وستخبر والدها بذلك عندما يعود ...
انتبهت إلى صوت فتح باب المنزل ومن بعدها تقدم والدها وجلس بجانبها قائلا:
(إذا ما هو رأيك؟...)
أغمضت عينيها وفتحتهما قائلة بهدوء:
(أنا موافقه...)

                           نهايه الفصل

أنات في قلوب مقيدهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن