القمرُ في السماء منير، وقاربهما فوق المياه يطفو ويداعبه موج خفيف..
إلتفت هوتارو لرفيقه وإلتفت رفيقه إليه فمدّ يديه ليسلّمه المجذافين قائلا بلطف:
_تفضّلمبتسما إبتسامة تبعث الطّمأنينة في القلب؛ يدعى صديقه يوشيرو ويبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عاما، كان وجهه بالغا في الوسامة وجسده بالغا في الكمال والرّشاقة، يرتدي قميصا خفيفا وبنطالا قصيرا للسّباحة، وكان يأتي للصّيد كل يوم بعد غروب الشّمس؛ تارة لوحده وتارة مع صديق أو عدّة أصدقاء وتارة أخرى مع مدرّبه، وكان الصّيد بالنسبة له عملا أكثر مما هو هواية، فذلك القدر اليسير من الأسماك التي يعود بها كلّ يوم هو ما يعين عائلته الصّغيرة على العيش، فكان تارة يتناوله وأبوه وأخته على العشاء ثم على فطور اليوم التالي وربما يتبقى منه ليبيعه، وتارة أخرى يبيعه كلّه ويعين بماله أباه العجوز وأخته التي بلغت أخيرا عام التّخرّج فكثرت عليه مصاريف دراستها.
لكنّ يوشيرو كانت له عادة غريبة أخرى طغت على حياة تلك العائلة وحرمتها من بساطة العيش وراحة البال، ولطالما بثّت تلك العادة الجزع والحزن في قلبي أبيه وأخته. كانت في البداية عهدا قطعه على نفسه مذ قُتلت أمّه أمامه في صباه، بيد أنّ ذلك العهد مالبث أن أصبح مرضا وإدمانا فتك بنفس الشّاب وتوغّل في حياته ليغدو شرطا من شروط إستمرارها!
كان يوشيرو يعمل بطلا كلّ يوم في السّنة، وكان ذلك اليوم هو ذكرى وفاة أمّه! كلّ سنة يدخل جحور العصابات ومساقط رؤوسها بقناع على وجهه ونصل حادّ بيمينه فيَضرِبُ ويُضرَبُ ويَقتُل ويكاد يُقتَلُ! ثمّ يخرج في كلّ مرّة فائزا بأعجوبة وقد قتل منهم العشرات. ويعود إلى منزله دون أن يلاحظه أحد بأعجوبة أكبر فتتلقّاه أخته باكية تكاد تموت من الجزع لما أصابه من جروح بالغة ملأت جسده كانت لتؤدّي بأيّ شخص دونه إلى الموت، فكم أفسد ذلك اليوم أيامها، وكم غابت عن الدّراسة من يوم لتبقى إلى جانب أخيها في المسشتفى وكم ترجّته وحاولت منعه عن القيام بذلك باكية أغلب الأحيان وكان هو يرجوها ألا تبكي ويصرّح لها بعزّة تلك الدّموع التي تذرفها وثقلها على نفسه ويحاول إقناعها بأنّ ذلك واجب عليه ودَينه الذي عليه تسديده لترتاح روح أمّه المظلومة.
وكان أبوه أيضا يتلقّاه لائما وباكيا هو الآخر فيرجوه أن تكون تلك المرّة الأخيرة ويحاول إقناعه بأنّ أمه ما كانت لترضى بهذا لو كانت حيّة، ويحاول أن يوعيه بخطورة ما يفعله على نفسه وعلى العائلة، فكم عانت العائلة من الجوع بسبب ذلك اليوم، وكم أثقلت عليها تكاليف علاجه وتراكمت عليها الدّيون والمشاكل والشّبهات بسببه.
ويوشيرو بالفعل يلوم نفسه على ذلك أشدّ اللوم، ثمّ إنّه ليكره صنيعه ذلك أشدّ الكره، فهو يزدريه ويتمنّى أن يتوقّف عن فعل هذا أكثر مما يتمنّاه كلّ من أخته وأبيه بل ويتمنّى كلّ مرّة أنّ الأرض إنشقّت وإبتلعته قبل وصوله ثم أعادته الى منزله برفقتهما، ويعاهد نفسه بأنّ تلك هي المرّة الأخيرة وأنّه سيقلع إلى الأبد عن هذه العادة القبيحة! وكان يظنّ أنّه قادر على ذلك ببعض العزيمة والإرادة القويّة للتّوقّف، بيد أنّ عزيمته خذلته لتسع سنوات وإرادته في التوقّف لم تقوى يوما على رغبته الجامحة في القتل عند ذلك اليوم. فظلّ يستميت شوقا إلى اليوم الّذي سيتغلّب فيه على هذا الإدمان البشع، والذي سيرضي فيه أباه وأخته ويرضي نفسه.
بدأ كلّ هذا لمّا قُتِلت أمّه أمام عينيه وهو فتى لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره، قُتلت وهي تحميه من عصابة فتّاكة تختطف الصّغار.
ماتت هي بسببه بينما نجى هو بفضلها حاملا في قلبه حقدا عظيما على العصابات، ورآى نفسه مذنبا ذنبا منعه من النّوم ليال كثيرة.
ثمّ أقسم أنّه لن يهدأ له بال حتّى يمحو كلّ مجرم على الجزيرة، وليكن يوم وفاة أمّه عيدا له وفزعا لهم.
عاما بعد عام، في الليلة الّتي توافق يوم مقتلِها، كان يوشيرو يسمع أمّه، إذ يأتيه صوتها موسوسا له في أذنه آمرا إياه بالإنتقام..
وتلك الوسوسة تخترق طبلة أذنه وتقتحم عقله لتجعله في ذلك اليوم شخصا آخر تماما مختلفا كلّ الإختلاف.. يغدو مجرما.
فيرتدي قناعه ويقتحم مقرّ العصابة فيقتل منهم من يشاء ويترك من يشاء.
ثمّ يستفيق في اليوم التالي وقد عاد إليه رشده فيندم أشدّ الندم على ما فعله..
****
تألّق القمر في تلك السماء السوداء وقد كشف نوره أكواما من الغيوم المحيطة به.
كان يوشيرو في صدد تعليم هوتارو كيفيّة التّجذيف، كان يريه طريقة تحريك يديه ويبتسم له ويلاطفه..
ولكنّه في الحقيقة يريد أن يُطمئن نفسه بأنّ كلّ شيء سيكون بخير وأنّه لا داعي للقلق.
بلى فقد كان خائفا، وكان قلبه ينبض بعنف داخل صدره.
فاليومَ هو يوم ذكرى وفاة أمّه، والليلة ليلته، سيأتي شبح أمّه في أيّ لحظة ليوسوس له ويدفعه إلى العودة للجزيرة والقتل.
لم ينجح قطّ في التّغلّب عليه، لكنّه عاهد أخته وأباه بأنّه سيتوقّف هذا العام وعاهد نفسه بأن يهجر بيته إلى الأبد إن نكث بهذا العهد..
وهذه النّزهة القصيرة في البحر هي كلّ ما يعتمد عليه، فمن يدري لعلّ شبح أمّه لن يجده هنا في أعماق البحر، وإن وجده فسيحاربه بشراسة.
عليه ألا يعود إلى الجزيرة حتى الصّبح وعلى قدميه ألا تطآ الرّمال قبل بزوغ الشّمس، فليبتعد وليبتعد عن هذه الجزيرة وليترك ما تبقّى على رفيقه في أن يعصيه إذا أمره بالعودة، هذا أمله في أن ينعم بحياة هادئة ويُرضي أبوه وأخته ويرضي نفسه..
نظر خلسة إلى هوتارو بعينان راجيتان وقال في نفسه كأنما يخاطبه
'' هوتارو أرجوك، لا تسلّمني المجذافين مهما حصل. ''
أنت تقرأ
نداء في الظلمات (مكتملة)
Short Storyتتحدّث شابّان على متن زورق في أعماق البحر، لكل منهما فكره، تاريخه ورغبته الخاصّة، يمرّ بطلانا بحدث يُبرز جوهر الإختلاف بينهما.