نداء في الظلمات

52 6 13
                                    


من يرى ما يحصل الآن في أعماق البحر لا يصدّق ما كان عليه قبل بضع دقائق. عجيب أمر هذه الدنيا وتقلّباتها.

ظلمات ورعد وبرق! سرعان ما توارى القمر والنّجوم وراء الغيم الأسود فأظلمت السماء فوق ذلك القارب إلا من وميض برق يكاد يخطف الأبصار، وهبّت الريح عاتية تصفّر صفير الغضب تكاد تذهب بالزّورق الصّغير ومن على متنه، والصّواعق تقصف البحر أعمدة متفرّعة كأغصان الشّجر.

شقّ صفيرَ الرّياح صراخُ هوتارو وهو يقول '' يوشيرو عد بنا بسرعة! ''

وردّ الآخر '' أنا أحاول! لا تخف سنكون بخير! ''

وكان المكان شديد الظّلمة حتّى أنّ أحدهما لا يكاد يرى الآخر.

وفجأة أضاء البرق فرأى هوتارو صاحبه يجذّف بكلّ قوّته والرّياح تلعب بشعره وقميصه بعنف بالغ، وسرعان ما زمجر الرّعد فإنكمش صديقنا مغلقا عينيه واضعا إصبعيه على أذنيه وجسده يرتجف من الخوف، ثمّ سقط على جنبه إثر إهتزازة باغته بها القارب، شعر برذاذ المياه المالحة على وجهه وبلغته كلمات يوشيرو ضعيفة وسط صفير الرّيح:
_هوتارو تشبّث جيِّدا بالقارب!

لم يكد يستوعب كلامه حتّى إهتزّ الزّورق هزّة أخرى أشدّ عنفا إرتفع لها جسده في الهواء حتّى ظنّ أنّه سيُلقى في البحر، لكنّه سرعان ما هوى ليلتطم بالخشب لطمة عنيفة ويتأوّه متألّما وقد إبتلّ بمزيد من المياه المالحة.

رفع نصفه الأعلى بيده لينظر إلى ما حوله، أضاء البرق فرأى البحر ثائرا ذا موج هائل بدا فيه الزورق كأنّه لعبة صغيرة.

وسرعان ما هطل المطر، وصاح يوشيرو بصاحبه:
_هوتارو! أفرغ الماء من القارب! السّطل هناك!

وأضاءت السماء فجأة ثمّ دوى الرّعد فوضع هوتارو إصبعيه على أذنيه لكنّه فقد توازنه ومال به القارب ليلطمه بإطاره.

وجعلت المطر تنهمر بغزارة بينما الرّيح تعصف بها عصفا تكاد تطير بالشّابّين.. وكثر الموج وتضاخم حتّى أصبح كالجبال، وبرق ورعد لا يهدآن.

وكان يوشيرو يحاول جاهدا مقاومة العاصفة، فكان رغم تموّجات القارب يجذّف بكلّ قوّته طاردا اليأس الّذي يحاول الزّحف إلى قلبه.

لكنّه كلّما حاول التقدّم لطمته موجة تكاد ترديه من على القارب، إنتابه إحساس بالضّعف والهون وتلمّس قسوة في الرّيح والبحر كأنّما يريدان إغراقه.

كان يُحسّ بالمطر يتساقط على رأسه ومنكبيه بلا توقّف، وبرودة الرّيح تلفح وجهه وتكاد تُطيح به. والرّؤية عسيرة بسبب شعره المبتل الّذي يحجب عينيه ولا يستطيع رفع يده لإزاحته، فالقارب يهزّ به ويتمايل فيُفقده توازنه ولا شيء يتمسّك به غير إطاره.

ومرّة بعد أخرى تأتي موجة جبّارة ترفع الزورق على متنها فيجد يوشيرو نفسه محلقا في الهواء ويرى البحر الهائج من الأعلى كما ينقبض قلبه لإحساسه بأنّه أصبح عرضة لضربات الصواعق، ثم سرعان ما يهوي مع القارب إلى الأسفل فيكاد قلبه أن ينخلع من جوفه وتنفلِت منه صرخة طويلة غليظة.

نداء في الظلمات (مكتملة) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن