العبرة

78 8 14
                                    


إلتقطت أذناه صوت الرّنين المتقطّع لآلة قيس نبض القلب، حاول فتح عينيه وسمع صوتا بانت عليه الفرحة لفتاة تقول '' أيها الطبيب لقد إستيقظ! '' ،فتح عينيه ليُبصر نورا تحوّل مشهدا ضبابيّا ثمّ تجلّى المشهد عن فتاة تغطّي فمها بيديها، ثم تبيّن أنّها أخته، فثبّت عيناه عليها وتساءل بصوت يكاد يُسمع :
_مينوري؟

هزّت رأسها بحرارة وإنخفضت إليه قائلا بلهفة:
_نعم إنها أنا! أختك!

ثمّ إنحنت عليه وأحاطت عنقه بيديها تعانقه قائلة بإمتنان:
_سعيدة أنّك بخير!

وربّت هو على ظهرها بلطف بينما يحاول إستيعاب ما يحصل، ثمّ سمع صوت شابّ عن يمينه يقول:
_سعيد أنّك بخير يوشيرو.

وبدا له الصوت مألوفا جدا ففور أن إلتفت إليه رأى الموج والظلمات فصُعق وداهمته غصّة في قلبه، إتّسعت عيناه وقد تذكّر شيئا مما حصل معه في البحر لكنّه بدا أقرب إلى كابوس مرعب.. تذكّره لمّا رأى هذا الشاب المستلقي على سرير بيمينه، والّذي هو هوتارو.

حاول التوغّل في عقله وإسترجاع ذكرياته فمرّت عليه لقطات كوميض البرق، رأى نفسه يفتكّ المجذافين من هوتارو ويصرخ عليه ورأى بعد ذلك نفسه يتخبط في البحر بينما الصّواعق في كل مكان والموج الضّخم ينزل عليه فيغشيه وهو يصرخ '' ياربّ أنقذني! '' ، ثمّ رأى نفسه في ظلام حالك حتّى أنه يمد يده فلا يكاد يراها.. لكنّه لم يصدّق بعد أنّ ذلك حصل فعلا، وإستفسر قائلا بحيرة:
_ماذا حصل؟

فهمّ هوتارو بإجابته لكنّ مينوري سبقته قائلة :
_لقد هبّت عاصفة قويّة في البحر لكنّكما نجوتما بأعجوبة!

عقد صديقنا حاجبيه وجعلت الذّكريات تتجلّى في عقله وتغدو أكثر وضوحا ويرتبط بعضها ببعض، فإزداد قلبه إضطرابا وهمس بلوعة بينما ينظر إلى السّقف ويعقد حاجبيه :
_ لم يكن ذلك حلما.. كان الموج كالجبال، والصّواعق.. كانت قريبة جدا!

أشفق من ذلك فشعر بخوف خالطه الحزن وقال :
_ كيف نجوت من ذلك؟!

تدفّقت الدموع إلى عينيه وأضاف بنبرة غلبت عليها رعشة البكاء :
_ لقد أنقذني من الهلاك!.. لقد إستجاب لي وأنقذني!... الشّكر لك يارب الشّكر لك يارب!

جعلت الأحداث ترتبط في عقله رويدا ؛ إذ تذكّر لمّا قال غاضبا عند قبر أمّه '' سحقا لما يسمح لي ذلك الإله الّذي تتحدّثين عنه بفعل ذلك! لما لايقتلني فحسب! إنّي لأفضّل الموت على أن أكون قاتلا! '' وتذكّر في المقابل كيف خاف ليلة البارحة من الموت والعودة إلى ربّه على هذه الحالة وكيف كان يصرخ متوسّلا النّجات لمواصلة العيش والعمل صالحا. وبالتّالي فقد خاف يوشيرو من حماقته تلك خوفا مريعا فإقشعرّ جسده وتكاثفت دموع الحزن والشّفقة في عينيه. وأدرك أنّ الرب أعظم مما كان يظنّ وأنّه ليس مستعدا للموت على هذه الحال.

كما تذكّر نفسه لمّا نادى عند قبر أمّه '' ياأيّها الرّبّ إن كنت موجودا وتسمعني فإنّي أتوسّل إليك أن تمنعني عن القيام بذلك هذه الليلة! '' وتذكّر في المقابل كيف غضب في القارب وإفتكّ المجذافين من هوتارو وكيف كان يتخيّل تلك الأشياء عن القتل  ويصرّ على العودة! ياله من تناقض عجيب، والأعجب أنّ ﷲ لم يهلكه رغم ما بدر عنه.

بل لو تمعّنّا النظر في ما حصل وجدنا أن ﷲ إستجاب له نداءه فمنعه عن القيام بالخسوف ثمّ أنجاه من العاصفة. أدرك يوشيرو ذلك فشعر إذا برحمة ربّه تحتضنه، فلان قلبه ورقّ وإنكسرت كلّ ذرّة كبرياء في نفسه وأحسّ بضعفه وبعناية ربّه به، فلم يتمالك نفسه وأجهش في البكاء.

ثمّ هاهو ذا يعزم ويُقسم في نفسه قسما غليظا بأنّه سيحاول بكلّ جهده أن يكون شاكرا لربّه!

****

أمّا هوتارو فقد إستفاق قبل يوشيرو، وكان قد رأى إنكسار رفيقه وبكاءه فتأثّر به وإستجاب قلبه فحزن له وأشفق عليه وبرزت ملامح الأسى على وجهه، لكنّه تفاجأ لمّا سمعه يذكر ﷲ فعقد حاجبيه وأعاد النظر في ما حصل، وقال في نفسه '' هل أنقذنا الرّب حقا؟ هل هذا يعني أنّه موجود؟..كلا لا يمكن أن نتيقّن من ذلك.. ''

ثمّ مالبثت أن مرّت على ذهنه ذكراه وهو يصرخ في البحر '' ربِّ أنقذني أرجوك! '' شعر بالإحراج من حالة ضعفه تلك وقال في نفسه '' كنت خائفا حينها ولم أدر ما أقول، ربما هكذا إخترع الناس فكرة الإله، إله الفجوة كما يقول العلماء، إذ يرى الناس شيئا لا يفهمونه فيفسّرونه على أنّه من الآلهة.. ربّما ذلك ما حصل معي ''.

ثمّ تذكّر مافعله تلك الليلة قبل العاصفة، عندما طلب منه يوشيرو المجذافين فرفض في البداية لكنّه هُزِم في ما بعد، فبدا له ذلك تقدّما في صراعه مع الخوف وفرح بما بدر منه وتأجّج قلبه أملا بأنّه سيواصل طريقه، وسيتغلّب على خوفه! ويصبح مثل مدرّبه في النّادي! وقال في نفسه '' أجل لقد إقتربت! ''

هكذا تعامل هوتارو مع الأمر، لم يشعر بالإمتنان مثلما شعر يوشيرو ونسي أنّ نجاته كانت معجزة بيِّنة، وأوّلَ الأمر على هواه لكي يرضي ضميره، ثم تجاوزه ببساطة. كأنّ شيئا لم يكن. وهذه أشدُّ أفعال البشر شناعة وقبحا.

****

فربما هكذا يكون الخلاف بين المؤمنين والكافرين بعد أن يأتيهم البرهان.

قال ﷲ تعالى في القرآن الكريم:
<<هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ® فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ>>
                              [ سورة يونس الآية 22-23]

نداء في الظلمات (مكتملة) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن