انبثق صوت (البانسوري) يصدح من فوق ذاك الكثيب الرمليِّ وقد رَخُم صداه متردِّدًا بين رحاب صحراء (تهار) الشَّاسعة، قبل أن يتمازج معه شدْوُ عودٍ وهو يتراقص بنعومةٍ فوق أوتار (الرَّافانهاستا) في تناغمٍ ساحرٍ، ثُمَّ أعقَبتْهما خشخشةُ خلخالٍ راحت صاحبتُه تضرب به الرِّمال برفقٍ في حركاتٍ راقصةٍ متأنِّيةٍ، فيما كانت أناملها تنقر بمهارةٍ إيقاعيَّةٍ على إناءٍ فخاريٍّ تحمله فوق رأسها مزخرفٍ بألوانٍ زاهيةٍ كملابسهم؛ فنبع صليلُه من جوفه عاليًا؛ لتغزل تلك الخيوط الموسيقيَّة العذْبة -بالنِّهاية- نسيجًا آسرًا من معزوفةٍ تزخر بعبق أرضٍ تفيض سحرًا بالألوان، وتقطن في كل زاوية منها حكايةٌ خالدةٌ من أساطير العشق والغرام.حملت صفحاتُ النَّسيم القائظ بين لفحاتها أناغيمَ هذا الرَّهط؛ ليتخلَّل بها صفوفَ ركْبٍ لاح مقبلًا من بعيد، وقد أخذ يقترب رويدًا حتَّى صار صوت هماهم إبِله وهساهِسها المتناغمة مع خُوَار أبقارهم وثيرانهم التي تجرُّ العربات الخشبيَّة، تُدغدغ أسماع المجموعة الموسيقيَّة، وعَلَت وسوسةُ الخلاخيل التي تتزيَّن بها نسوتُه لتتوراى من خلفها جلُّ الأصوات وهنَّ يدندنَّ بترنيماتٍ من أهازيجٍ اشتهرن بها، ومن حولهنَّ راح أطفالهنَّ يعدُون بمرحٍ كبيرٍ لا يتناسب مع حرارة الصَّحراء ورمالها الملتهبة، وكأنَّهم اعتادوا تلك اللَّفحات القويَّة التي تلقيها عليهم شمسُ الظَّهيرة، وخاصَّةً في هذا الوقت من الصَّيف، فلم تعدْ تؤثِّر بهم أو ترهقهم، بل بدت وكأنَّها تشحن أجسامهم الصَّغيرة بطاقةٍ رهيبةٍ تجعلهم في حالةٍ دائمةٍ من الحيويَّة والنَّشاط. أمَّا رجالهنَّ، فكان جزء منهم يتصدَّر المقدِّمة؛ ليرشدوا الجميع إلى الطَّريق حيث تقع ديارهم بولاية (جايسالمير)، فيما أدبر الجزء الآخر إلى مؤخِّرة القافلة؛ لحمايتها من أيِّ خطرٍ قد يصيبها. وبينما هم كذلك، همس شابٌّ -شريفُ الهيئةِ فاخرُ الملبسِ- إلى أخيه في لهجةٍ مُغتاظةٍ حاول أن يكتمها قدر استطاعته فيما يقبض بيديه على لجام جواده الأبيض الأصيل:
- منذ بدأت رحلةُ عودتِنا، وهو على شروده العميق هذا، حتَّى لأكاد أتساءل! أيعلم حقًّا من أيِّ اتِّجاه يُرشدنا، أم يسير بنا على غير هدى؟ لقد أخبرنا بأنَّه طريقٌ مختصرٌ للعودة، ولكن لا يبدو لي كذلك! فنحن نسير مذ أيَّامٍ عدَّةٍ وما من سرابٍ حتَّى يُلوِّح بديارنا في الأفق.كان يتأفَّف بكلامه وهو يشير بطرف عينيه إلى رجلٍ يترأَّس القافلةَ مُمتطيًا فرسًا ناصعَ البياض في لون بُردته القطنيَّة الملفوفة حول كتفيْه، وقد ضاقت حدقتاه المكتحلتان اتِّقاءًا من ضوءِ الشَّمسِ المبهرِ، وقطب جبينه العريض فتقلَّص اللَّونُ الأحمرُ الذي خَطَّه بين حاجبيه الكثَّين. كان كهلًا يقف على أوَّل سَلاليم عَقْده السَّادس، غزا الشِّيب فوْدَيْه وشاربه؛ فأضاف لمظهره المزيد من الهيبة والوقار، ويتَّضح من هيئته والحزم الصَّارم الذي حفر خطوطه على ملامحه الحادَّة أنَّه ذو شأنٍ ومكانةٍ رفيعةٍ بين أفراد عشيرته. وعلى الرَّغم من تلك النَّظرة الخاوية التي تلقَّاها المتحدِّث من أخيه إلَّا أنَّه تابع بنفس الهمس المُتذمِّر:
- لا أدري من أين برزت فكرةُ السَّفر إلى (دلهي) هذه؟ ألم يضع في حسبانه هؤلاء النِّسوة والشُّيوخ الذين لا طاقة لهم بالسَّفر الطَّويل وليس لديهم من ينوب عنهم في السَّعي وراء لقمة العيش؟ ثُمَّ ماذا سيغدو مصيرنا لو كان اعترضنا (الفانسيجهار) الذين تعج بهم (دلهي)؟ أقسم بالحيِّ الذي لا يموت! أنَّنا كنا سنهلك جميعًا؛ فهي عصابات لا تُبقي ولا تذر!
أنت تقرأ
روايـة || مهــاكافــيا
Historical Fictionفَيْضٌ من البدايات تطلُّ بالبشر مبتهجةً وغَيْضٌ يَلُوح مكشِّرًا عن أنيابه الظلْماء وكما الأولى تُشرق كالشَّمس ساطعةً فالأخرى تصول في ثورةٍ هوْجاء ترنـو لما خلَّفته شامتةً برُفات أفئدةٍ، زلزل عَوْلُـها الهيْماء فلم تُـرحم مهجةٌ كانت نشأتها على السلم...