٣- صقرُ راجبُوت

69 6 0
                                    


تقهقر ضوء النَّهار ببطءٍ، وبدأ قَيْظه يخفُّ على مهلٍ حين أعدَّت الشَّمسُ عدَّتها للرَّحيل من سماء مملكتها (جايسالمير).

وعلى مقربةٍ من قصر حاكم ثيكانا (فيكراماديتيا)، تجمَّع حشدٌ من أهالي بلدة (أبهايديش)، وهي إحدى البَلْدات الثَّلاثين التَّابعة للثيكانا. وقفوا يراقبون عربةً سوداء فخمةً، مكشوفةَ السَّقف، تجرُّ عجلاتِها الضَّخمة أربعٌ من الخيول الأصيلة، طُبع على مقدِّمتها شعارٌ ذهبيٌّ للجيش الملكيِّ البريطانيِّ. شقَّت العربة طريقها بصعوبةٍ وسط هذا الكمِّ الكبير من النَّاس وقد استحوذ الغضبُ على أغلبهم، إذ ما انفكُّوا يرمون صاحبها الأشقر الجالس فوقها بنظراتٍ أكْثمها الذَّحل؛ فتسمَّر هذا الأخير بجِلْسته كالتِّمثال خوفًا من أن تُثيرهم أيُّ حركةٍ منه، فيهجمون عليه ويقطِّعونه إرْبًا. أطلق البريطانيُّ زفرةً سريعةً، ثُمَّ هتف بالحوذيِّ الهنديِّ في سخطٍ مكتومٍ:
- أسرع قليلًا يا رجل. هذا القطيع يصيبني بالغثيان.

جَمْجم بقوله الأخير لكي لا يسمعه المحتشدون، قبل أن يزفر مرَّةً أخرى، وهو يرمقهم بعينيه الخضراوين خِفيةً في اشمئزازٍ واحتقارٍ كأنَّهم بالفعل قطيعٌ من الحيوانات الضَّالة. ثُمَّ غمغم من بين أسنانه، والشَّناءَة تأكل قلبه:
- لو كان بالإمكان، لفجَّرت تلك الرؤوس البلْهاء برصاصاتي...

بتر حديثه؛ ليدقِّقَ النَّظر باهتمام إلى قصرٍ منيفٍ بدأ يَلُوح من بعيدٍ عند حدود تلك البَلدة. ورويدًا رويدًا، ومع كلِّ بضعة أمتارٍ يقترب فيها منه، تبدَّل اهتمامه ذاك إلى شُخوصٍ وهو يتأمَّل عِظَم ذلك الصَّرح، ثُمَّ إلى إعجابٍ، فانبهارٍ، فذهولٍ جَاهَرَ به انفغارُ فمه، وارتفاعُ حاجبيه.

توقَّفت العربة أمام بوَّابة القصر العسجديَّة وقد بدت الأولى أمام ضخامة تلك الأخيرة كتَلٍّ يقف خانعًا أمام جبلٍ شامخٍ، وظلَّ الرَّجل -لوقتٍ زهيدٍ- على ذهوله العارمِ؛ يتأمَّل روعة الأسوار المنحوتة، وجَسامة أبراجها. ولمَّا طال سكونه التفت إليه الحوذيِّ مُسجِدًا عينيه، قائلًا باحترامٍ مُبالَغٍ فيه، ينبِّهه:
- لقد وصلنا يا سيِّدي الجنرال. هذا هو قصر المهاراو «فيكرام سينغ».

حاول الجنرال انتشال نفسه من ذهوله الأحمق الذي جعله يبدو كرجلٍ مُعدمٍ لم يرَ غَضَارة قط في حياته، ولكنَّه وجد صعوبةً كبيرةً في ذلك؛ فقال متلعثمًا:
- حسنًا، سوف... حسنًا، انتظرني هنا.

ترجَّل بعدها، وراح يعدِّل من وضْعِ سترته العسكريَّة الحمراء، ويربِّت بفخرٍ على الأنواط والنَّياشين التي تزيِّن صدرها قبل أن يرسم ابتسامةً مُتباهيةً على شفتيه، ويعقد كفَّيه خلف ظهره في وقفةٍ ثابتةٍ... تبدَّد كلُّ هذا بلمح البصر؛ حين فُتحت البوَّابة وإيقاع (السُّورماندال) يصاحب خطواتها المتمهِّلة بنغَمٍ أوهم كيانه أنَّه قد انتقل إلى عالَمٍ سحريٍّ. عالَمٌ جسَّد له كل ما سمعه من أساطيرٍ وحكاياتٍ عن بلاد السِّند، صاحبةِ الأعاجيب وكلِّ ما هو غريب. وراح ترنيم (البانسوري) ينبثق من العدم، ثُمَّ تبعته (السِّيتار) بموسيقاها العذبة، ليتخلَّلاه في نعومةٍ أطربت أعماقه، واستوطنت الأجواء بلحنٍ خلجَ قلبه. وبدت عيناه مسحورتان تمامًا وهو يشهد بهما على أجمل وأروع ما رأى بحياته كلِّها؛ إذ عكس لونهما الأخضر بريقَ انبهارٍ فائقٍ، وهما تغرقان في تأمُّل القصر الشَّاهق الذي يقف أمامه -بطوابقه الخمسة- شامخًا كالطَّود، وقد برزت طُنُوف شرفاته الحجريَّة الحمراء بنقوشٍ ذات تعبيرات هندوسيَّةٍ معقَّدةٍ، تزاحمت بعضها فوق بعض في إسرافٍ آسرٍ بينما غارت مُقَرْنصات نوافذه بوحداتها الهندسيَّة الإسلاميَّة ونتوءاتها القوطيَّة في تباينٍ مُبدعٍ منقطعِ النَّظير!

روايـة || مهــاكافــياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن