٤- جوادٌ جامحٌ

76 5 0
                                    


رنَّقت شمس الأصيل ونفَّضت بصائصها على الأفق الأصهب؛ فبرقت تحتها نوافذ ذاك القصر العريق في تبايُنٍ وكأنَّها حبَّات كريستال مُخضَّب، كان وحيد الطَّابق لكن مترامِي المناكب، تراصَّت على جوانب سطحه الأربعة سُرادِقات (تشاتري) السُّداسيَّة؛ فجعلت من وسطه صحنًا فسيحًا يحوم فوقه الحمامُ، كلُّ سربٍ مُنشَعب.

كانت شمس هذا اليوم أشدَّ وطئًا من الأمس، ومع رحلة غروبها بسماء بَلدة (سوراكشاجر) بدأ القيظ يخفُّ شيئًا فشيئًا؛ مما خفَّض من حركة الخدم داخل الأروقة الممتدَّة، والذين كانوا يعملون على قدمٍ وساقٍ منذ الذُّروة في تبريد أجواء القصر عن طريق فتح منافذ الـ (جالي)؛ كي يتسرَّب منها الهواء البارد الذي تبثُّه الملاقف الهوائيَّة إلى داخل الحجرات الفسيحة عالية الأسقف، وهذا إلى جانب تزويد النَّوافير في الأفنية بالمياه اللَّازمة؛ للتَّخفيف من شدَّة الوهج.

وبتلك الغرفة الواسعة، المُزْدَانة بلوحاتٍ زيتيَّةٍ تراكمت عشرات السِّنين فوق كاهل عمرها فأثقلت من نفاستِها، وعلى ضوء الشُّموع المنتشرة بقلب ثريَّاتِها المتلألأةِ العتيقةِ، جلس الزَّاميندار «غوراف سينغ سيدهو» خلف مكتبه الماهوغنيِّ الفخم يُقلِّب بعض الأوراق الهَّامة، عائدًا إلى تصحيح حساباتها الماليَّة للمرَّة الألف وقد عجز عن إيجاد الخلل بها، فيما تروي ملامحه المرهقة حكاية لياليه السَّاهرة بين صفحات الدَّفاتر والسِّجلات باحثًا ومنقِّبًا، بينما هي تعاسره متكتِّمةً على ثغراتها.

- سيـِّدي!

صاحَب هذا النِّداء الجَزِع المتوتِّر اندفاعٌ مباغتٌ لرجلٍ فِطَحْلٍ إلى الغرفة، ومع اندفاعه العشوائيِّ ارتطم بمزهريَّةٍ أثريَّةٍ كبيرةٍ من الفضَّة؛ فوقعت على الأرض مُحدثةً ضجَّةً مزعجةً، بينما طوَّحت يده جهازًا كان يستقرُّ فوق منضدةٍ عاليةٍ بجوار الباب، تتصاعد منه أبخرةٌ بيضاء؛ فأرداه قتيلًا محطَّمًا على الأرضية الرُّخَّاميَّة. رفع «غوراف» عينيه البنيَّتين البتَّارتين عن الأوراق في حدَّة، وانعقد حاجباه الكثَّان بغضبٍ شديدٍ، ثُمَّ نهض يهتف به في عصبيَّةٍ:
- ما هذا التَّصرُّف الوقح يا «دالراج»؟ كيف تقتحم مكتبي بذلك الأسلوب الهمجـ...

قطع هتافه ليحدِّق بصدمةٍ في تلك الأشلاء المحطَّمة على الأرض بجوار قدمي رجله الأوَّل وذراعه الأمتن -«دالراج»- فخرج صوته مبحوحًا مبهوتًا:
- لقد أتلفت الجهاز أيُّها الغبيُّ!

ثُمَّ كرَّر، وهو يصيح بغضبٍ عظيمٍ:
- أتلفته أيُّها الغبيُّ، أيُّهـا الغـبيُّ!

قال الآخر بارتباكٍ شديدٍ وهو يلهث، محاولًا قلب دفَّة الحديث بعيدًا عن هذا الجهاز الغريب الذي لا يفهم لما أثار تحطيمه كل هذا الغضب بصدرِ سيِّده، بينما ما بحوزته أسوأ بكثير:
- سامحني يا سيِّدي، ولكنَّها... كارثةٌ كبيرةٌ.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Feb 10, 2023 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

روايـة || مهــاكافــياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن