٢- طائرٌ نازحٌ

96 9 0
                                    


بذات اللَّحظة...

وبينما كانت أشعَّة الشَّمس تتعامد في النِّصف الشَّرقيِّ من الكرة الأرضيَّة، كانت السَّماءُ في نصفها الغربيِّ تستقبلها بحفاوةٍ، فأخذ قرصها يتهادَى؛ يحاول بمشقَّةٍ أن يتغلغل بضيائه بين صُبُر مقاطعة (كامبريدج) السَّاحرة متَّجهًا نحو قصر (امطانيوس) العريق الذي يتوَارى خلف الضَّباب خجِلًا من جمال طلعته. وبعد مدَّةٍ، استطاعت الشَّمس أن تلامس بأشعَّتها أبراجَ القصر القوطيَّة المدبَّبة التي أنافت عاليًا معانقةً عَنَان السَّماء، ثُمَّ تدرَّج هبوطها بنعومةٍ على أحجاره البنتيليَّة إلى حيثما تستقرُّ قاعدتُه فوق ربوةٍ ترتفع قليلًا عند الضفَّة الشرقيَّة لنهر (كام).

استنارت واجهةُ الصَّرْحِ البيضاء تحت تلك الخيوط الذَّهبيَّة؛ فأبرزت معالمه وتفاصيله الفنيَّة السَّاحرة وقد تصدَّرت بنائَه بوابةٌ ضخمةٌ ارتفعت لطابقين كاملين، يتقدَّمها فراغٌ مَسقوفٌ بإيوانٍ ذي قوْسٍ قوطيٍّ مزيَّنٍ بحجرِ عقدٍ مُشكِّلًا كيوبيد وهو يقف على أُهْبة الاستعداد لإطلاق سهمه الطنَّان. توسَّط الإيوانُ بين عمودين دوريَّين عظيمين، وعلى جانبيهما -بالطَّابق الأرضيِّ- امتدَّ رواقان معمَّدان استقام بكلٍّ منهما عشرةُ أنصافٍ لأساطين واسعة القطر استقر فوق كلِّ واحدٍ منهم عمودٌ جرانيتيٌّ على هيئة امرأةٍ رومانيَّة، يحملن فوق رؤوسهنَّ تيجانًا كورنثيَّةً ضخمةً ارتكزت عليهم نُسخٌ مكرَّرةٌ مصغَّرةٌ من القوس القوطيِّ المتوَّج بنحت كيوبيد. وقد كُلِّل كلُّ هذا بإفريزٍ جسيمٍ ذي نقشات نباتيَّة معقَّدة ومُزخرفٍ بمنحوتات مُذهَّبة أضخمها كان زيوس، مُتمركِزًا إيَّاه وقابضًا بيمناه على صاعقةٍ فيما تسنَّم نسرٌ ذراعَه الأيسر، وعلى جانبيه استقامت أثينا مُعتمرةً خوذتها وقد نَشِبت حربٌ ضروسٌ بينها وبين بوسيدون بينما ينطلق بيلِّيروفون بحملته ضدَّ شعْبَي سوليمي والأمازونيَّات مُمتطيًا البيغاسوس، بعد أن غرز رمحه الكبير بجسد الكيميرا المتوحِّشة. وفيما كان هادِس يُطعم بيرسيفوني حبَّة رمَّان، كانت ديميتر تنهمر دموعها فوق الأراضي والحقول العجْفاء، حيث لا زرع فيهم ولا ماء.

تجانس لون أشعَّة الشَّمس مع تلك المنحوتات المذهَّبة، لتبرق عاكسةً ملحمةً إغريقيَّةً انبعثت من قلب برديَّاتٍ سحريةٍ تَليدةٍ لتحطَّ برَحَى مُعْتَركها بين حجارة هذا القصر الأثيل الذي بدا وكأنَّه أسطورةً فريدةً تبعُد بتاريخها آلاف السنين.

كان للقصر من الدَّاخل فناءًا شاسعَ الأرجاء، ذا حديقة غنَّاء مترامية الأطراف، محاطة بسياجٍ نباتيٍّ منضَّد بعناية، ومُرَقَّش بأقاحيِّ حُمْرٍ وصُفْرِ الألوان في تناسقٍ مع زنبقيَّات ذوات أوراق رمحيَّة تتمايل بلونها الأبيض الفتَّان. وبالجانب الغربيِّ للفناء، عند بحيرةٍ كبيرةٍ مزيَّنٍ سطحها النقيِّ بنباتات النِّيلوفر، وقفت طيور الكناري تغرِّد بصوتها الشجيِّ الذي يطرب الآذان ويبعث بالنَّفس السَّكينةَ. كان الطَّقس عليلًا في صبيحة هذا اليوم؛ مما جعل ريشة «أديتيا» تنساب على لوحته البيضاء في نعومةٍ ومرونةٍ وقد انسجمت كلُّ حواسِّه مع جمال الطَّبيعة الآسر من حولِه. تحرَّكت يداه بخفَّةٍ تدلُّ على مهارة صاحبها وهي تخطُّ خطوطًا تبدو للنَّاظر من بعيدٍ عشوائيَّةً مُبعثرةً، بيدَ أنَّها تتناغم معًا كسمفونيَّة عذبة اللَّحن، دقيقة التَّفاصيل. وبينما تشقُّ ريشتُه طريقها فوق اللَّوحة الكبيرة، كانت عيناه الزَّيتونيَّتان تنتقلان بينها وبين شخصين يقفان أمامه؛ أحدهما كان رجلًا تخطَّى منتصف عِقده السَّادس بقليلٍ، ذا وجه حسن وقور، ينعكس الحنان من عينيه الزَّرقاوين، الصَّافيتين كسماء مُشرقة خاصمتها الغيوم، يرتدي عدسةَ المونوكول المذيَّلة بسلسلةٍ ذهبيَّةٍ تختبئ نهايتها داخل الجيب العلويِّ الأيسر لسترته الخُطَّافيَّة فيما يلتفُّ حول رقبته وشاحٌ كارديناليٌّ من الحرير، ويستند بيدِه اليسرى على عصاةٍ أبنوسيَّةٍ رفيعةٍ أتمَّت -مع شاربه ذي النَّمط الإنجليزيِّ المميَّز- من فخامة هِندامه. كان يتسمَّرُ في مكانه مُتجهِّم الوجه، تتأبَّط ذراعه الأيمن امرأةٌ حنطيَّةٌ حسناءُ لها عينين واسعتين مثل الشُّهْدِ تلمعان تحت بريق الشَّمس كالعِقْيان، ترتدي ثوبًا جمشتيًّا انبعجت تنورتُه الواسعةُ وانتفشت وقد تعدَّدت طبقاتُها المُوَشَّاة بالدَّانتيل الأبيض وخرزات اللُّؤلؤ في تدرُّجٍ الواحدة تلو الأخرى، ومُزيَّـنًا بخيوطٍ فضِّيةٍ وشرائطٍ ماغنوليَّةٍ عريضةٍ عند أكمامه المنتفخة حول العضد. ابتسم «أديتيا» بلطفٍ وهو يراقب تحسُّس عمَّته «ماتيلدا» لعقدها اللُّؤلؤيِّ قبل أن تربِّت على لفيفٍ من الوُريدات الزَّهريَّة والأرجوانيَّة زيَّنت جانب قبَّعتها البيضاء الكبيرة التي أخفت جُلَّ شعرها البنيِّ القصير بتصفيفته النَّاعمة. قال زوجها بجوارها في ضيقٍ مكتومٍ:
- عزيزتي «ماتيلدا». ألم يقُم «أديتيا» برسم لوحةٍ لنا من قبل؟ ما الضَّرورة من رسم واحدةٍ أخرى الآن؟

روايـة || مهــاكافــياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن