ديستوبيا

88 12 2
                                    

اليوم السابع..

مر اليوم السادس بتلكؤ صبي ذاهب إلى مخبز خبز بلدي، وثقيل على كل من بالقصر، حتى انزاح القمر وانتصفت الشمس العنان، ونال التفكير والسهاد من كيان مراد فأمسى نبتة ذابلة دون بناء ضوئي.

دارت عجلة الحظ العاثر، وأتى الدور على مدوّر اللعبة ليُسقى من نفس الكأس، (طبّاخ السم بيدوقه) الوصف الأقرب إلى الحال الراهن.

صعد أحد الحراس أمس إلى مراد فوجده يضحك في جنون، ويصيح في ندم بنفس ذات الجنون، فخاف الأول وانحصر إلى الخلف بخطوات معرضة متمتم في خشية:
- سيد مراد، الحرس المصابين تهافتوا واحدًا تلو الآخر وتلاشت علامات الحياة من الوريد.

لم يعره مراد انتباهًا بوجوده، وظل مختليًا بنفسه بعيد عنه حتى أطلقها:
- أخرج الأسلحة من المخزن وتجهز أنت وباقي الحرس لمجذرة قادمة. لو لم آخذ ما طمحت بالعقل، سأستأصله قسرًا، يوتوبيا لن تسقط هباءً.

نبس الحارس في نفس النبرة الخاضعة لسيده:
- أعذرني سيدي، ولكن أود أن أعرف ماذا حلّ بأصحابنا؟

وقف مراد، فسار خطواته ناحية الحارس:
- أظننت أن معي لقاح يشفي المرض، ويقطب أعراضه؟ بتاتًا، خلصتهم من المعاناة المترقبة بعد ساعات، أغدقت عليهم بكل رحمة حقن قتل رحيم تخفف من حدة الأمل الزائف والوجع، شهداء يوتوبيا.

احتقن وجه الحارس منذرًا بالبكاء بعد أن صعد بقيتهم، فقال متلعثمًا:
- جعلتني أقتل أصدقائنا بيدي؟ والله إنك لشيطان، أستقيل من الوظيفة، أكمل وحدك باقي الخطة.

أفرج سراحها عن قلبه وارتاح بعد أن قالها، فترك جراب به مسدس وباقي الحاجيات على الأرض، فتحفّز بقية الحرس وقلّدوا صديقهم الشجاع مُلقيين أمتعتهم.

كل حلفائك خانوك يا ريتشارد، أعني مراد، انقلاب وتمرد على يوتوبيا قبل أن تولد من مهدك، صرت وحدك، الحاكم وحده في القصر، على العرش، يمسك المسدس، يدقق النظر به، يتفكّر ثم يفرغ طلقاته في كل خائن، دار مراد عليهم بعد أن تناول مسدس من الأرض فتحوّل المشهد إلى حانة مكسيكية قام فيها عراك ومات الكل عدا النادل.

وها نحن في أحداث اليوم السابع، تترقّب الأنفس خارج أسوار القصر، متريثين جواسيسهم التي قفزت أعلى السور لتحصي المعلومات عن عدوهم قبل الاقتحام.

مراد يتوسط البهو بكرسي وبندقية أخرجها من خزانته، يجلس كملك على عرش، ينتظر تأديب شعبه بعد أن انتزع حاشيته بقسوة من الحكم.

هل تتذكر العجوز والصبي في أول يوم بعد انتحار حسّان؟ بالطبع أعرف أنك تتذكرهم مجرد توضيح سيدي القارئ الفذ.

نفذا عبر باب القصر مقتحمين خلوة مراد بنفاد صبر دون أن يشرع مصرعي الباب، قوة خارقة أم هذيان من مراد؟ لا أحد يعلم. ولكن ما أعلمه جيدًا أن مراد تحفّز ونهض من موضعه بعدما دخلا عليه بطريقة مبهمة.

صوّب مراد الطلقات المتتالية عليهم، فخرجت سريعة ونافذة في الباب تاركة ثقوب دون أن تلامس كيانهم، تهيّجت مشاعر القلق وطل منه التوجس صائحًا:
- من أنتم؟ وكيف لم تصيبكما طلقاتي؟

تجاهله العجوز في وقاحة متعمدة مشهرًا ساعة رملية تبقى حبيبات قليلة في أعلاها. قال العجوز:
- ساعة مراد زاهي، أكبر غبي في التاريخ، الحالم دون أهداف واقعية، دمية الكيان الصهيوني، ها قد حان وقتك.

بهت تفكير مراد في ذهول، جهل ما يرمي إليه بالضبط بآخر عبارات:
- ماذا تقصد بدمية الكيان الصهيوني؟

تفوه الصبي:
- ألم يقل لك أنك غبي؟ زعمت أنك على دراية بكل شيء وأنت جاهل بكل شيء، أردت تطبيق نظرية توماس مالتوس -مصيدة مالتوس- وإبادة القليل من البشر حتى يكفي غذاء الأرض ويصير الكون أفضل، تقلّد ثانوس.

أخرس مراد الصبي بصياح:
- هذا هو الحل الوحيد في ظل زيادة النمو السكاني، السكان يتضخموا الأوس التربيعي في حين أن الغذاء يرتفع في متوالية حسابية. انقطعت الحروب وانقرضت أمراض وتقدم الطب، فخرجت هندسة الأنسجة والصناعات الجذعية لأي عضو تالف، فلا موت سريع. من حقي أن أطمح ببناء يوتوبيا كأفلاطون، دولة فاضلة تحكم العقول الحكيمة الشهوة والشجاعة، أنا سيدها، يوتوبيا هي الحلم.

صرّح العجوز بالمفاجأة مسترسل:
- أبله ولا زلت أبله حتى في آخر أيامك، المنظمة التي تبنت فكرتك رأت أنك أصلح شخص لتكون دمية تطيح بالناس وتعجّل من يوم القيامة، الصهاينة يتريثون يوم نزول المسيح المخلص ليعيشوا في سلام، وكيف يفعلوا ذلك بهويتهم؟ جاء مراد العربي على طبق من ذهب لينفذ المؤامرة الكبرى، يوتوبيا مجرد سراب في عقلك، البشرية على المحك خطوة وتجرف إلى خانق الفناء.

صخبت ضوضاء قادمة من الفناء الخارجي، خطوات غفيرة تقتحم القصر، ثواني وغدت الخطوات خبطات على الباب. حينئذٍ تناول الصبي الحديث ليكمله بعد العجوز:
- نهايتك وشيكة، موتة مبهرة.

ابتسم مراد في غرور لا أعرف مصدره، وشد أجزاء البندقية ليحشيها بطلقات:
- لن أقضي نحبي بمفردي.. سأخذ الكثير معي.

تمتم العجوز في أسى وهو يمسك الساعة الرملية التي نفدت حباتها العلوية أمام نظرات مراد المترقبة.

لم يحدث شيء!
ولا زال الخبط والطرقات في الخارج!
لم يدنوا الناس منه!

سخر مراد منهما قائلًا:
- تنحيا أيها الأحمقان جانبًا عندي شعب يحتاج لتهذيب، رعاع تترقّب سوط سيدها.

اختلطت صوتها مع طرقات الباب فلم ينتبه أحد للوحش القابع أسفل صاحبه في تهيج. ثمة نصيحة أبدية عليك الأخذ بها، إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح.

شق نصل السكين سطح جلد مراد واخترقه إلى الداخل، فلم يرأف به وضغط القاتل أكثر حتى تأكد بأنها طعنة قاتلة. فما كان من مراد إلا أنه تأوّه في البداية حتى جثا، اعترته نوبة ضحك لا مبرر لها قبل أن يدنو من الأرض وتسيل دماءه مكونة بركة، تلاشت علاماته الحيوية وتلاشى معها حلم يوتوبيا قبل أن يصعد إلى النور.

ابتسم قاتله ومسح عيناها من الدموع بقماشة مشبعة بالدماء لفّها حول كفه ليكتم نزيف الدم، تلك المرة اختلطت مساحيق تجميل ريما بالدمامل التي صارت أبرز عن ذي قبل، أردفت محدقة إلى جثة مراد في غلٍّ بادي في نبرتها:
- من المفترض أن تكون العبارة إن لم يقدر لي النجاة فلن ينالها خنزير مثلك.

🎉 لقد انتهيت من قراءة ديستوبيا 🎉
ديستوبياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن