أمواج تتأرجح

140 18 16
                                    

اليوم الثاني..

قضى أغلب يومه في غرفة المكتب خاضعًا أمام حاسوبه، تلتهم عيناه الثلاثينية عنوان مقطع مثير ينحدر أسفل مربع المشاهدة:

"غضب د. مراد زاهي على الهواء وهروبه من أمام البث المباشر للحلقة بعد إحراجه…"

بعد هذه الحادثة مساء أمس، لم يكف عقله من عرض المشهد الشنيع مرارًا. دُعي إلى حلقة لأحد القنوات ذائعة الصيت ليجاوب على أسئلة  تؤرق المتفرجين، ولكن استضافته كانت لغرض دنيء من صاحب القناة بعد سقوط عدد المشاهدات وتأجج نيران منافسه.

تتابعت سيرورة الحلقة في عرض بارع وممتاز يرضي كلا الطرفين حتى قرر المذيع فك أسر الأفعى من جعبته ويلدغ ضيفه، فسأل:
- سيد مراد، يدّعي سائل مجهول الهوية صلتك بالفيروس المنتشر، وتواطؤك مع ديفيد كارلوس في ابتكاره.

اتسع ثغره وهو يومأ علامة النفي:
- يؤسفني بأن قناة بحجم قناتكم تعتمد في مصادرها على إشعاعات واجتهادات مجهولتي الهوية.

زمّ المذيع شفتيه ورفع حاجبه في شك لم يرق لمراد، فنوى الأخير تسليم دماغه إلى جانبه المدنس ليفضي دون اعتبار للرحمة:
- مثلًا يا عمر، لا يمكن أن نصمك بخيانة زوجتك بناء على رائحة عطر أنثوي يعبق ثيابك، أو لطخة طلاء أحمر شفاه لاحظتها على ياقتك بينما نتصافح.

وجم مراد فجأة ليتناول كوب ماء ويطلق العنان لعينيه تنهش ملامح فريسته، مرحبًا بك في نادي المدلسين. ابتسم عمر وأومأ برأسه مهزوم جولة أولى لأفعى أكثر سمًا، لم يعطف مراد عليه بفرصة واسترسل:
- سؤال بعيد عن محتوى البرنامج يستكمل الموعظة. تفحصت صفحتك على (إنستجرام) ولفت انتباهي تشابهك مع زوجتك في لون الشعر والوسامة، لكن يحيرني ما إذا كانت زوجتك ترتدي شعرًا مستعارًا؟ شدّ تركيزي خصلة صفراء ملتصقة في كم بذلتك الأنيقة.

استعرت نيران حارقة في جسد عمر لفضح أمره، جاهد على تغطية كلامه بضحكة حتى وإن فشل في دحض الاتهام غير المباشر:
- لم ينقص حس المرح عندك منذ زمن، لا زلت خفيف الظل كما أنت، صدقت أنّي كذلك.
- حتى أنا صدقت نفسي، فقط كنت أُهدي للمشاهد مثال ليحرّصوا من أكاذيب البعض.

لوح عمر بيده لطاقم العمل خلف الكاميرا ليبدأ تنفيذ الخطة، فلم يُمهل لمراد فرصة الحديث لتعرض الشاشة في الخلفية صورة تجمعه بالطبيب -أمريكي من أصل يهودي- المعني من الحديث.

ها هي ركلة قوية واتت مراد أسفل الحزام لم يخمنها، حاول رسم الثبات حتى وإن سكن الارتباك وجدانه. عزم على تفنيد الخبر بحنكة:
- ضريبة الشهرة مؤلمة، تدرك أني قد أصمم مثلها ولكن وأنت تقبّل دافيد؟ بفضل تطبيقات الويب ٢ مكّنت أي شخص من فبركة الصور.

ألقاها وغادر الحلقة من غير أن يعير أي أحد اهتمام، غفلوا مع من يلعبون! عبقري في الطب الحيوي وعلم المناعة، حاصد جائزة ألبرت لاسكر في الأبحاث الطبية، وعضو منظمة الصحة العالمية.

وصلت مراد رسالة بالإنجليزية على الحاسوب أجبرت خلايا تركيزه بأن تنشط، كان مفادها:
"لنا حديث بخصوص الحلقة مع العائلة، آمل أنك متسلّح بخطة قبل مجيئك."

استقام من كرسيه وأمسك بالحاسوب في غضبة أودت بتحطيمه إلى أجزاء، ثم عزم تنفيس باقي غضبه في الفازة.. واللوحات.. والكتب، لكن احتدامه توقف عند ثلاث كتب وبعض القصاصات رصّوا على طاولة بعيدة عن محيط انفعاله. تنهد في ارتياح وجلس إلى مكتبه يحدق الكتب ويفكّر.

على أثر الحطام وصوت التكسير أتت ريما فزعة من التهشيم، فدلفت في هدوء، واستدارت بنفس الحال خلفه محتوية هياجه، منحته عناق خلفي تصورت أنه مسكّن لكن ظنونها أخطأت، نفر منها وسلت رأسه كصبي عنيد. سألته خلال جلوسها:
-لم تسر الأمور كما يشتهي صاحبها؟

حرك رأسه نفيًا:
- مجرد إخفاق بسيط سأرممه.

غيّرت ريما نبرة صوتها وقررت تنفيذ ما جاءت من أجله، غير أن مراد يحفظ طرق طلبها للحب، لم تنطلِ حيلها، تشي لغة جسدها لمراد ما تريد..
نظرة عينيها الثاقبة المغلفة باهتمام مفتعل..
عرض فاتن لبضاعة عبر ثياب مثيرة للشهوة..
لكزة في ساقه..
حكة ناعمة…

فلتت منه قبل أن ينتصب من مكانه مغادرًا:
- عذرًا ريما لست رائق البال.. فيما بعد.

ديستوبياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن