اليوم الثالث..
أخبار الجرائد:
"سرطان التربة يتفشّى في المحاصيل الزراعية… والعالم على أعتاب مجاعة ضخمة…"
"هياج بعوض الأرض على البشر.. وظهوره بكميات هائلة..."
"الدكتور أحمد الغافقي: أُصمم على رأيي… المنظمات الماسونية خلف النكبة العالمية… موارد العالم تحت سطوهم…"
"إحالة الكثير من الأرواح لعزرائيل… الانتحار غدا صيحة شبابية ذات إقبال عال بين شباب العشوائيات…"
تفحّص العجوز مكبّر الصوت الذي علّقه حول رقبته وتأكد مما أراد قبل أن يستأنف تأمّل المارين، فدار في الشارع الواسع بعينيه ينقّب عن مثير يحدث استجابة بحجم ما يأمل، حتى لمح على مرمى البصر سيارة قادمة بسرعة تطوي الأرض طيًا. فتهيأ جيدًا، وأخذ نفسًا عميقًا يشحذه بجرأة هو في أمس العوز إليها، فحثّ السير حتى يتركّز أمام السيارة ويعطل حركة السائق عن عمد، وكان له ما رجا. فما إن أحس السائق باقترابه من رقعة الخطر، وإحالة نفس إلى الفناء ضغط على المكابح بسرعة، فعوى صرير احتكاك إطارات السيارة ملفتًا أعناق السائرين في ذعر.
طلّ سائق السيارة برأسه ولوّح بيده في الهواء قبل أن يتسرّب منه وابل من الشتائم، وقلبه ينبض برتم فوق التقليدي يسابق صوت تنفسه العالي.
تمثال مهمل نسى صاحبه أنه نحته، كانت هذه حالة العجوز، متحجّر يرسم ابتسامة ساخرة في وجه السائق.
صعد للمرحلة الثانية من خطته فلم يعره انتباهًا بوجوده، فارتقى مقدمة السيارة في رشاقة غير مألوفة على عجوز نحيل يتكئ على عصا كعصي راعي غنم. عدّل من وقفته ليبدو مستقيم الصدر حتى وإن بان عليه تقوس ظهر صارخ، ثم أشار للناس بالاقتراب وهو يدبدب بعصاه على هيكل السيارة أمام أبصارهم، بدأ في الاسترسال محاولًا ترصيف أفكاره وترتيبها حسب الأولوية:
- منذ آلاف السنين والمماطلة تعشش في عقول ابن آدم، تهزم تفكيره وتخضعه لتصرفها فتراه عبدًا صالحًا لإله وهمي يدعى جهله. مضى من قبل قوم نوح على نفس النسق التقليدية، واصرّوا العصيان حتى أبيدوا عن الوجود، كذلك قوم لوط وغيرهم، قاسم مشترك في فطرة البشر. وها الآن قد ظلل بلاء السماء العالم واستبدّ منا، وما ذلك إلا قشة في كومة عظيمة، رب العباد يمتحن عباده، يختبر مدى تحملهم لخلافة الأرض.توقّف ليلفظ أنفاسه ويستعيد جرعة من التركيز قبل أن يفجّر المفاجأة أمام أذهان منصتة:
- بين قيعان الظلم العميق، ومن مهد الظلام، يُولد نور ناصع بصفات فيزيائية روحانية، وكما أهدى الله لكل قوم فرصة قبل هلاك محتوم، سنحت لكم الفرصة لتنجوا كعصبة نوح عليه السلام. لقد دنا الأوان الذي تتوحّد فيه الديانات ونصير عصبة واحدة، لقد بُعثت إليكم لأُخرجكم من التيه كبني إسرائيل، وأخذكم لبر الأمان. وفدتُ هنا اليوم لأكون فنارًا يشق عماكم ويهدي من التعجرف إلى الصلاح، أنا نبي آخر الزمان، الخالد بن قيس النقزاوي.سكب بن قيس الكيروسين بكثرة على النار في آخر عباراته، فتهيجت عليه الجموع وصرخوا فيه استنكارًا:
- اهبط أيها العجوز الخرف وإلا أنزلتك بمعرفتي.امرأة تصطحب طفلًا:
- العقل زينة ربنا يهديه.سائق السيارة:
- وإلا دهستك أسفل عجلاتي.تراكمت عليه التعليقات ونبتت من زوايا عدّة، فتزامنت مع ازدياد عدد الجماهير أمامه ليقمع احتجاج الناس مضيفًا:
- ﴿وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ وَيُجَـٰدِلُ ٱلَّذِينَ ڪَفَرُواْ بِٱلۡبَـٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ﴾. تفكّروا، تدبّروا في ما قدمت، ما نفْعة عجوز مثلي في ادّعاء نبوته بهتانًا! كنز؟ غنى؟ صيت ذائع؟ أسوقكم إلى هلاك جماعي؟ بيني وبينكم الله وهو أعلى وأعلم بأنّ غايتي ما هي إلا انتشالكم من فم الضلال.شذ رجل من بين الصفوف فتجرأ وتقدم إليه:
- وما أدرانا أنك صادق! ربما تكون كاذب وغايتك رغبة أخرى بعيدة عن الأنظار، اعرض لنا فقرة من فقراتك يا ساحر أو أخرج أرنب من عباءتك كدليل.انتهى من كلامه وضحك ضحكة ساخرة موزّعًا نظراته حوله، ثم أكمل:
- قدم لي معجزة كي أومن بك، هيّا بالله دون خجل.تبسم بن قيس ابتسامة جانبية ذات مغزى بعيد عن عقولهم:
- لك ما تشاء يا مرح.نزل من فوق السيارة قفزًا وتقدم خطواته من الشاب حتى أمسى في محاذاة صدره، قبل أن يرفع يده اليمنى عن مكانها لترتكن أعلى جبهة الشاب، كانت بداية طقوس غريبة همّ بتأديتها وسط نظرات مستغربة الموقف، الكل متوجس من نتائج ثقة العجوز، يطالعون تحركاته في تركيز فائق.
ما زال العجوز يزاول التودد بابتسامة واسعة، ثم أضاف غمضة عين نحو السماء وإنشاد تراتيل بصوت باهت غير مسموع على الشاب.
دقيقة.. دقيقتان.. لا أحد يجزم الوقت بالتحديد، الزمن يمر ببطء والعجوز كذلك يرتل ببطء حتى أنهى حالة الخزعبلات التي بدأها وما لبث أن كشف سراح جفنيه حتى ضرب الشاب في ساقه بالعصا، فتأوه الأخير بخفوت من المباغتة ليس على أثر الخبطة.
ماذا حدث؟
لا شيء فوق المألوف حتى الآن، لم يتحول إلى قرد كأهل السبت، أو يأتي طير ليرجموه كأبرهة الحبشي.تقهقر الشاب خطوتين إلى الخلف واستشعر هشاشة في ساقه وكأنها تحولت إلى هلام، فهوى على ركبتيه جاثيًا عاجزًا عن الوقوف، تقدّم العجوز منه فأمره بالنهوض، حاول، لكنه فشل وطُرح أرضًا، شحذ الهمّة وحاول مرارًا وتكرارًا لكن كل محاولاته باءت بالفشل حتى ارتبك وتسرب خيط خفيف من الشك.
شهقت الصدور فزعًا وخشية مما شاهدوه حتى ارتابت قلوب البعض وعجزت عن التحليل. كرر العجوز أمره في سخرية بعثت في نفس الشاب الخوف، فصاح في رجاء:
- بالله عليك كفى، قدماي تخوناني لا أتمكن من الارتقاء، رجّع الأمور بالله عليك إلى مجاريها، صدقت يا الخالد.ابتعد الناس عن العجوز للوراء وانحصروا على بعضهم كقطيع خراف مرعوبين. تقدّم صوب الشاب الملقى أرضًا وضرب على ساقه بالعصا وقال في نبرة آمرة:
- قم بإرادة ربّك القدير.في هذه المرة نهض الشاب بسرعة دون إخفاق أمام كل الناظرين، القلب يخفق والعقل محموم بحيرة.
أيعقل؟
صدق العجوز!
جاء المخلص؟
زوال البلاء قريب!كانت هذه أسئلة يهتف بها بعض الناس، لقد آمن قلة من الواقفين وخطوا إلى العجوز ليبايعوه ويستقوا من تعاليمه، فكان أولهم الشاب صاحب المعجزة.
أنت تقرأ
ديستوبيا
Ciencia Ficciónالعالم.. معمل مغري لعرض نظريات عالم مخبول، وإخضاع وجهة نظره للتجربة العملية، تصدّقًا على البشرية بفرصة للنجاة. وأنثى حسناء تثير شهوة فيروس يتطفل على أجساد الكائنات، ويستقر قرب عائله، معمرًا جثث الأحياء. ومسرح مهيب يقدم فرص سانحة لمدعي نبوة يروّج لس...