كنتُ أعرف أن هذا اليوم لن ينتهيَ على خيرٍ بعد البداية اللعينة التي مررتُ بها صباحًا، ورغم أنني جرجرتُ خبر اختفاء بائع الموز وراء ظهري كمذنبةٍ من القرن الثامن عشر، إلا أنني لم أجد مقصلةً بانتظاري أمام السكن، بل ما هو أسوأ، أمي.
ازدردتُ ريقي حين رأيتُها واقفةً أمام مبنى السكن، ترتدي حجابًا مخططًا كنت آلفهُ عليها، بدا وكأنها تنتظرني، لكنني لم أكن في مزاجٍ ملائمٍ للإنصات لمحاضراتها الطويلة.
- ألن أسمع مساء الخير؟ ألم تشتاقي لأمك؟
سألتني مُستنكرةً تباطئي وتخاذلي وعيني المُتهدِّلَتين من التعب والتململ، ثم قلتُ لها بجفاء: مساء الخير، لمَ أتيتِ؟ كان بإمكانكِ تحويل المال أو إرساله مع حنان.
حاولتُ إخفاء امتعاضي من تلك الزيارة المُفاجئة، التي لا تحمل سوى الغم والنكد كالعادة، لم يسمح لها الحارس بالصعود إلى غُرفَتي طبعًا، يا للقانون الغبي.
- أنا أمكِ، يحق لي زيارتكِ في أي وقت أشاء!
أعلَنت بحدةٍ مُذكرةً إياي، فعضضتُ على باطن خدي بضيقٍ مُتعاظِم، وقررتُ مُجاراتها بسذاجةٍ مُفتعلة: فعلًا، يحق لكِ زيارتي وقتما تشائين، واختيار تخصصي وأين أعيش ومتى أنام، كل شيءٍ كما تريدينه!
تحمحمت دون أن تُجيب، ثم لاحظَ بصرها المتأخر حقيبةَ أغراضي والمعطف المرمي على ذراعي والعرق الذي تفصد جبيني، فلانت وهي تُجيب انفعالي: يجب أن تكوني سعيدةً بكل هذه الأشياء، لكن اصعدي إلى المنزل وارتاحي الآن، ولنتحدث عندما تُنهين اختباراتكِ وتكونين أهدأ.
لا طاقة لي بجدالها، فأومأتُ موافقة، علاقتي معها ليست أفضل ما أملك، منذ سافرنا وكلتانا في شجارٍ مُستمر، على أمورٍ تافهة، خطيرة، عادية، نفتعل الشجارات من لا شيء أحيانًا، من رسالةٍ متأخرة، أو ثيابٍ مرمية بعبثيةٍ على الأرض، وحين قلّبت ذكرياتي لحظةً، لم أستطع أن أجد فيها متى كانت آخر مرةٍ ضحكتُ مع أمي.
برَقَت نجاة في ذهني مع أمها العطوف، التي على الأرجح تتشاجر معهم وتضربهم بنعلها وتهددهم بترك المنزل حين لا يسمعون الكلام، لكنها ما زالت تطهو لهم وتنتظرهم كي تغدقهم بكلامها الحنون.
- هل تناولتِ غداءكِ؟ أردتُ تناول وجبةٍ معكِ لكنكِ تأخرتِ كثيرًا.
أردتُ لهذه اللحظة أن تنتهي، فقلتُ لها بما تبقى من قواي: أخبرتكِ أنني أعود متأخرةً في الآونة الأخيرة، لندعها في المرة المقبلة، انتبهي لنفسكِ وأنتِ عائدةٌ إلى المنزل.
اعتلت شفتاها شبه ابتسامةٍ خجول، سرعان ما ذابت مع الشمس الساطعة، وضعت نظاراتها الشمسية، التي بدأت تضعها في الآونة الأخيرة، لاحظتُ وجهها الأنيق ومساحيق تجميلها، شعرتُ أنها مختلفة. أخبرتني أن أتصل بها إن احتاجت أي شيء، وألا شددت: إياكِ والحديث معه بتلك الطريقة مرةً أخرى، هل كلامي واضح؟ سنفترق بالحُسنى وينتهي كل شيء.
أنت تقرأ
المغضوب عليها
Misterio / Suspensoإذا لم تعرف إلى أين ستذهب، فالأجدر أن تُدرِك من أين أتيت. حين تخوض في معترك الحياة دون أحلامٍ أو أمنيات، فلا تتعجب كثيرًا مما ستفعله الحياة بك، ولا تعترض عاليًا حين تُقحِمك في ما لا تُطيق. نورة لم تعرف أيًّا من هذا، نورة لم تعرف أكثر من شيءٍ واحد،...