عادت الإتصالات بين (حسام) و(ليلى) إلى حد ما، وكانا يتقابلان على فترات متباعدة، كانا يتشاجران أحيانا، بسبب أنها تخبره كلما تقدم إليها عريس، كانت تريد إثارة مشاعر الغيرة لديه، ولم تكن تعلم ما السبب الذي يدفعها لذلك.
هتف (حسام) في التيليفون:
-أنتِ لازم تضايقيني كل مرة؟
-مش قصدي أضايقك، لكن أنا بحكي لك، أنت عارف أنا كنت بحكي لك كل حاجة.
تنهد في غضب:
-اه بتحكي إن عريس اتقدملك، وأنا المفروض اجي اولع فيه يعني ولا اعمل إيه؟
-خلاص مش هحكي لك تاني.
صاح بغضب:
-يبقى أحسن.
ضحكت، قائلة:
-بتفضل تقولي احكي لي كل حاجة، وترجع تزعل.
-أيوة، عشان أنتِ عارفة مشاعري كويس، وكل أما افاتحك في الموضوع تقولي لي، أنا مش فاهمة نفسي، أنا مش عارفة أنا عاوزة إيه.
أرادت تغيير الموضوع، سألته:
-البنت المسهوكة زميلتك أخبارها إيه؟
-أنتِ بتغيري الموضوع ليه دلوقتي؟
وأردف في سرعة:
-بس ماشي هقولك، هي طلبت إيدي.
اتسعت عيناها في ذهول، وهتفت بصوت عالي:
-نعم؟
ضحك (حسام):
-أه، بتكلم جد، قالت لي معجبة بيا وعاوزة...
صرخت تقاطعه:
-يا سلاااااااااام؟ وأنت بقى قلت إيه ؟
صمت طويلا، فقالت بعصبية لم تفهم سببها:
-(حسام) قلت لها إيه؟ وافقت؟ شكلك وافقت، ماهو السكوت علامة الرضا.
انفجر ضاحكا، وقال:
-لأ، قلت لها هفكر.
قالت بعصبية:
-هو الحال اتقلب؟ زميلتك تطلب إيدك، وأنت اللي تقولها هفكر؟ ونقول مبروك امتى؟
حاول السيطرة على ضحكة كادت تفلت منه، وقال:
-أنا لسه بفكر.
قالت بعصبية زائدة:
-بس متنساش تبقى تعزمنا على الخطوبة، عشان نفسي اشوف المسهوكة دي.
كتم ضحكته، وقال:
-طبعا أنتِ أول واحدة معزومة، لكن أنتِ زعلانة ليه كده؟ بتغيري عليا؟
شعرت بالغضب الشديد وهمهمت بكلمات غاضبة، وأنهت المكالمة، وزفر هو بحرارة، وتمتم:
-الحقيقة إني قلت لها يومها إن فيه واحدة محفورة في قلبي.
* * *
استمر الشد والجذب بينهما طويلا، كان (حسام) يحاول نسيانها بكل الطرق، كان يحاول تقليل المكالمات والزيارات قدر المستطاع، وحاولت (ليلى) أيضا ألا تهاتفه كثيرا، أو تذهب إليهم، كانت تشعر بالتشتت كلما سمعت صوته أو رأته.
* * *
وفي إجازة السنة الدراسية الرابعة، أقيم حفل زفاف (سهام) في إحدى القاعات، يومها كانت (ليلى) ترتدي فستانا جميلا باللون النبيتي، وشعرها العسلي المموج منسدلا على كتفيها، وعيناها الفيروزيتان تلمعان بسعادة، ووضعت أحمر شفاه باللون الوردي الرقيق، كانت رائعة الجمال، وكانت تتابعها عيون كل شباب القاعة..
و(حسام) كان مرتديا بدلة باللون الكحلي تظهر جسده الممشوق، وقميصا أبيض، بدون ربطة عنق، وكانت تتهامس الفتيات وهي تراه، وتحاول بعضهن لفت انتباهه..
حتى صديقاتها (نانسي) و(مي) و(ياسمين) كانوا ينظرون إليه ويحسدون (ليلى)..
(نانسي):
-(حسام) بقى أكتر وسامة من الأول، والجيم عامل معاه شغل جامد.
(مي):
-هتفضلي سايباه كده لحد مايطير منك ولا إيه؟
تجاهلت (ليلى) كلامهم وظلت تبحث عنه في القاعة بعينيها،
كان قد اختفى عن الأنظار فجأة، وقالت:
-هو راح فين؟
(ياسمين):
-شفته من شوية خرج من القاعة، أكيد مضايق عشان أنتِ مش قاعدة معاهم.
قالت (ليلى):
-أنا عاوزة أبقى معاكم، هعقد معاهم أعمل إيه؟
نظرت(نانسي) في ساعة يدها، وقالت وهي تُقبل (ليلى):
-احنا هنمشي بقى يا (ليلى) عشان منتأخرش.
-فجأة كده ؟
(نانسي):
-مش فجأة ولاحاجة، بس الوقت جري بسرعة، مكنتش واخدة بالي خالص.
خرجت معهم (ليلى) إلى خارج القاعة، وجدت (حسام) يقطع الممر أمام القاعة ذهابا وإيابا بعصبية..
نظر لها أصدقاؤها نظرة ذات مغزى، وقالت (نانسي) وهي تلوح بيدها:
-مع السلامة يا (حسام)، وعقبالك.
حياهم (حسام):
-سلام يابنات.
اتجهت (ليلى) له بعدما ودعت أصدقاءها وقالت:
-مالك يا (حسام) واقف بره القاعة ليه؟
قال بصوت هامس:
-أنتِ جميلة جدا النهاردة، والغيرة هتموتني، ومش عاوز اتصرف تصرف يضايقك في يوم زي ده.
ضحكت، وقالت:
-فكرتني بيوم التاكسي.
زفر بقوة، قائلا:
-الغيرة دي غصب عني.
غمزت بعينيها، وقالت:
-البنات كمان مركزة معاك جدا في القاعة.
اقترب منها، وقال:
-لكن أنا عاوز واحدة بس اللي تركز معايا.
نظرت للأرض بخجل، وأرجعت خصلة من شعرها خلف أذنيها:
-أنا هدخل القاعة عشان....
قاطعها:
-(ليلى)..
نظرت له، ونسي ما يود قوله، قالت له والابتسامة تعلو وجهها: - أيوة يا (حسام).
قطب جبينه، وقال بصرامة:
-مش عاوز رقص، ولا عاوزك تقومي كل شوية من مكانك....
قاطعته وهي تضحك:
-أوامر طول الوقت، مش هتتغير أبدا.
-مش بحب حد يبص عليكِ بطريقة مش لطيفة، أنا بخاف عليكِ أكتر من أي حد.
-عارفة يا (حسام)، وعارفة إن اللي بتطلبه ده هو الصح.
وأردفت:
-ممكن ندخل بقى.
دلفا إلى القاعة وجلست (ليلى) مع والدتها وأسرة (حسام) على نفس الطاولة، كان (حسام) ينظر إليها معظم الوقت غير منتبه لوجود الناس، وأحيانا (ليلى) كانت تنظر إليه، فتجده يبتسم لها، فتبادله الابتسامة بخجل.
وبعد انتهاء الزفاف ودع الجميع العروسان، وبكت (فريدة) و(ليلى) وهما يودعان (سهام)، وركبت (ليلى) مع أقرباء والدتها، وظلت طوال الطريق تتذكر حديثها مع(حسام) وتبتسم، بينما هو كان شاردا طوال الطريق للمنزل، وقال له (مجدي) بدهاء:
-البنت (ليلى) كانت قمر النهاردة.
مرر (حسام) يديه في شعره، وقال بشرود:
-طول عمرها قمر.
قالت (هدى) بفخر:
-وأنت كمان يا حبيبي كنت عريس النهاردة، عقبال فرحك يا ابني.
(مجدي):
-ابنك مستني القمر يرد عليه.
قالت (هدى) بغضب:
-لحد امتى يعني؟ وهتفضل صابر كده لامتى؟ هو أنت قليل يعني عشان تفضل تلعب بيك كده؟
(مجدي):
-نسيتي ابنك أول ما عرف إنها مش أخته عمل إيه؟ كان متلخبط وماشي يكلم نفسه، عاوزاها بقى هي تتقبل كل ده وتتجوزه كمان؟
(هدى):
-على الأقل تقول له مش موافقة، وهو يشوف حاله.
(مجدي):
-قالت له كده، لكن ابنك مش شايف غيرها.
لم يستمع (حسام) لمحادثتهم، ولكنه كان شاردا يفكر..
يفكر في (ليلى).
* * *
حاولت (ندى) التقرب منها ثانية خلال سنوات الدراسة، حتى بعدما تخرجت (ندى) كانت مازالت تحاول ولكنها رفضت، فمن يتخلى عن صديقه مرة سيتخلى عنه مرات..
وقرأت ذات يوم على الفيس بوك عن زواج (تامر) من ابنة رجل أعمال شهير، وسفرهم معا لإحدى الدول الأوروبية، بعثت له برسالة تهنئة، ورد عليها، وأخبرها أنه مازال يكن لها كل احترام وتقدير، وأنه على استعداد لمساعدتها في أي وقت، شكرته كثيرا وتمنت له أن يكون في أحسن حال دوما.
وحاول العديد من الشباب في كليتها وخارجها التقرب منها وطلب يديها للزواج، لكنها لم تشعر بأن أيا منهم يناسبها.
* * *
وبعد انتهاء امتحانات السنة الخامسة والأخيرة، وكان قد مر مايقرب من " ٤ سنوات منذ عرفت (ليلى) بالحقيقة"..
كانت أحيانا تشعر أنها تفتقد (حسام) في حياتها، تفتقد رأيه، تفتقد غيرته، وشعرت (فريدة) أنها تفكر كثيرا في الآونة الأخيرة، وسألتها مرارا وتكرارا عن سبب رفضها لكل عريس.
-مش عارفة يا ماما، بس ولا واحد فيهم لمس قلبي، ولاحسيت أي حد فيهم مناسب يبقى جوزي.
غمزت والدتها، وقالت بخبث:
-فيه حد لمس قلبك طيب، لكن مجاش يتقدم لسه؟
شردت (ليلى) بتفكيرها وأخذت تفكر في كلام والدتها، (حسام) لم يتقدم بشكل رسمي حتى الآن، ولكن لم يشغلها ذلك؟ وهي التي طلبت منه ألا يضغط عليها ولا يحاول الحديث في الموضوع..
قالت (ليلى):
-مش عارفة يا ماما بجد مش عارفة، يمكن يكون فيه حد فعلا في دماغي، لكن أنا اللي مش فاهمة مشاعري ناحيته.
شعرت أنها تود محادثته في تلك اللحظة، استأذنت والدتها وقالت:
-بعد إذنك يا ماما هقوم اتكلم في التليفون.
طلبت رقمه مبررة لنفسها أنها تود أن تطمئن على أحواله، وكانت تعاتبه خلال المكالمة أنه لا يسأل عنها.
- أنتِ عارفة كويس إني عاوز اكلمك كل لحظة، لكن أنتِ بتتخانقي معايا كل مرة نتكلم فيها، وكل ما أقولك فهميني أنا بالنسبة ليكِ إيه، تقولي لي هفكر، ٤ سنين فاتوا، ولسه بتقولي هفكر، هتجاوبيني امتى؟ أما نبقى في سن المعاش؟ وهفضل عايش في العذاب ده لحد امتى؟
-عارفة، لكن....
-لكن إيه يا (ليلى)؟
-دماغي فيها مليون حاجة، لكن النتيجة تظهر، واوعدك هيكون فيه رد نهائي، سواء موافقة أو مش موافقة.
سمعته يتنهد بحرارة، وشعرت أن الهاتف سيحترق، وسألها بضيق:
-هي النتيجة هتبان امتى؟
قالت بحماس:
-هتظهر بكرة إن شاء الله.
-ناجحة طبعا بجدارة زي كل سنة.
نطقت اسمه فجأة:
-(حسام).
-أيوة يا (ليلى).
-كنت عاوزة أشكرك على كل حاجة عملتها معايا، وعلى وجودك في حياتي، على خوفك عليا، واهتمامك بكل حاجة كنت بطلبها منك، على كل وعد وعدتني بيه ونفذته، كنت نعمة كبيرة ربنا أنعم عليا بيها، مهما شكرتك مش هوفيك حقك، أنا عارفة إن كلامي ده متأخر جدا، وعارفة إني بدل ما أشكرك كنت بضايقك كل مرة.
قال (حسام) بجدية:
-أنتِ مش محتاجة تشكريني، أي حد مكاني كان هيعمل كده وزيادة.
-الحقيقة إن مفيش حد زيك، مفيش حد كان هيفضل صابر عليا كده، ولا هيفضل جنبي طول الوقت ده.
صمت (حسام) لم يجد كلاما يجيب به عليها، فبادرت هي وقالت:
-ممكن تيجي معايا بكرة وأنا بشوف النتيجة؟
صمت وبدا كأنه يفكر، وأغضبها أنه متردد، قال بعد فترة من الصمت:
-لو عرفت استأذن من الشغل بكرة، هعدي عليكي.
قالت في ضيق:
-ماشي.
* * *
أنهى حديثه معها وجلس مع والديه، كان يخبراه أن ينساها ويتزوج فقد قارب على الثلاثين من عمره، لكن الرفض كان هو الجواب.
-هستناها لآخر عمري.
(هدى):
-ماهي يا ابني شكلها مش موافقة هتفضل مستني ليه بقى؟
(مجدي):
-يا حبيبي كله في الآخر جواز، وحتى لو اتجوزت (ليلى)، فالحب الأفلاطوني ده هيروح بعد أسبوع.
نظرت له زوجته شذرا:
-سبحان الله، الراجل ده بيقدر يقلب كل حاجة هزار كده، وينسيك عاوز تقول إيه.
(مجدي):
-مش أحسن من النكد بتاعكم؟
ضحك ابنهم وقال:
-طالما كله جواز والنكد جاي جاي، خلاص استنى بقى اللي بحبها.
(مجدي):
-يا ابني، شوف حالك بقى وانساها.
-يا بابا أرجوك، الموضوع منتهي بالنسبة لي، لو مش هتجوز (ليلى)، أنا مش هتجوز خالص.
قالت (هدى):
-ابني طالع رومانسي زي مامته.
-خلي الرومانسية تنفعه، بكرة يتجوز ويندم.
ضحك (حسام) وقال:
-بابا أكتر واحد منطقي في الدنيا كلها، بيجيب من الآخر.
قال (مجدي):
-ياريتك طلعت زي باباك، ونظر لزوجته وأكمل:
-ولا بلاش أحسن فيه ناس بتزعل.
* * *
خرجت (ليلى) من الكلية بعد حصولها على النتيجة، ووجدت (حسام) ينتظرها على الباب، كان شعره البني الناعم مصففا بعناية، ومتأنقا كأنه يوم زفافه، كان وسيما جدا، وابتسم عندما رآها:
-نقول مبروك طبعا.
قالت بفرح:
-(حسام) متخيلتش إنك هتيجي النهاردة، كلامك إمبارح كان بيقول كده.
قال لها:
-لازم أكون أول واحد يهنيكِ بنجاحك، وكمان اوصلك بنفسي.
كادت تقفز من السعادة، كان قلبها يرقص فرحا، فتح لها باب السيارة وجلست في المقعد المجاور له، كانت تنظر له بسعادة غامرة، فقد مر وقت طويل منذ رأته، أصبح أكثر نضجا ووسامة، أدار محرك السيارة، وقالت بعد فترة من التردد:
-(حسام).... أنت لسه بتحبني ولا مشاعرك اتغيرت؟
أوقف سيارته على جانب الطريق، ونظر في عينيها، وقال بكل ما في قلبه من حب ولهفة:
-بحبك أكتر من الأول، وهفضل مستنيكي لآخر يوم في عمري.
تضرج وجهها خجلا، وقلبت كفيها في توتر، وقالت بصوت خافت من شدة الخجل:
-وأنا كمان بحبك.
هتف غير مصدق:
-بتقولي إيه؟ شكلي سمعت غلط.
نظرت له بعينيها الجميلتين وقالت:
-بحبك يا (حسام).
قال لها وهو يسند ذراعه على ظهر مقعدها، واقترب منها قليلا، ونظر في عينيها:
-عاوز إجابة لسؤالي حالًا.
قالت وهي تدير رأسها خجلا:
-سؤال إيه؟
صمت وظل ينظر إليها، حتى خُيل إليه أنها ستحترق من الخجل، كانت وجنتاها مصبوغة باللون الأحمر، وتعض على شفتيها، قالت بخفوت:
-(حسام)، ممكن ترجع مكانك؟
قال وهو يسمع دقات قلبه في أذنيه عاليا:
-مش قبل ما تجاوبيني.
قالت بصوت متلعثم:
-أنا مش عارفة السؤال.
اقترب من أذنيها، وسألها بلهفة:
-تتجوزيني؟
كاد قلبها يتوقف بسببه، فقالت وهي تشير بأصابعها المرتجفة: -مش هجاوبك إلا لو رجعت مكانك.
مط شفتيه، وعاد لمقعده وهو يتذمر، فابتسمت، وقالت له بحب:
-موافقة يا (حسام).
نظر إليها مبتسما، واقترب منها ثانية، وقبل رأسها بحنان، وقال بصوت دافئ:
-يلا نروح لمامتك دلوقتي اطلبك منها.
نظرت إليه بدهشة:
-دلوقتي؟
نظر في عينيها، ويده على ظهر مقعدها، واليد الأخرى على مقود السيارة، وقال بلهفة:
-أنا مستني من زمان، مش قادر استنى يوم كمان عشان اطلبك ليا.
عضت شفتيها في خجل، ومررت يدها في شعرها، وقالت برقة:
-اللي تشوفه.تمت بحمد الله.