جلس الأربعة على مائدة الطعام لتناول الإفطار، كانت عينا (حسام) داميتان من كثرة بكاءه في الليلة الماضية، سألته (ليلى) بصوتها الرقيق: مالك يا (حسام)؟ شكلك تعبان جدا.
رد عليها في اقتضاب: كنت سهران بذاكر.
مطت شفتيها وهزت كتفيها بعدم تصديق، وقالت مازحة: مذاكرة؟؟ أكيد بابا اتخانق معاك زي كل يوم عشان سايب مذاكرتك وبتلعب على الكمبيوتر.
كان واضحا أنها لم تسمع شيئا من حوار الليلة السابقة، كانت تتناول الطعام، وبدأت تقص عليهم ماحدث بينها وبين صديقاتها في المدرسة طوال الأسبوع..
كانوا يفطرون معا في عطلة الأسبوع، ويتحدثان عن كل مامروا به، كانت (ليلىن تتحدث وتضحك بلا انقطاع، ووالديها يبادلانها الحديث، كأن شيئا لم يحدث، بينما (حسام) ينقل بصره بينهم، والأفكار تتقاتل في رأسه..
ونظر (حسام) إلى (ليلى) كأنما يراها للمرة الأولى، كان شعرها عسليا مموجا وعيناها باللون الفيروزي، وبشرتها بيضاء، لأول مرة يشعر بالاختلاف الواضح بين ملامحهم، فقد كان ثلاثتهم يشتركون في بشرة قمحاوية، أما (حسام) فكانت عيناه باللون العسلي، وشعره بني ناعم، و (هدى( لها شعر أسود وعينان عسليتان، و(مجدي) شعره بني ناعم، وعيناه بنيتان..
كان يسمع أحيانا تساؤلات البعض عن اختلاف (ليلى) في الملامح عنهم، وكانت(هدى) في كل مرة تجيب ضاحكة: جدتي تركية و( ليلى) خدت الشبه منها، والعرق يمد لسابع جد..والحقيقة أن جدتها كانت تركية ولها ملامح جميلة، كان الحظ في صفهم لحد كبير..
الآن فهم تساؤلاتهم، وتفهم أيضا عندما سمع من( هدى) وهي تحدث صديقاتها أنها أخفت حملها في( ليلى) عن الناس لأنها اجهضت كثيرا قبلها، الآن فهم الصورة كاملة، وشعر بالخداع، ونقل بصره لوالديه، اللذان يبادلان طفلتهم الحديث، ويضحكان معها، ونظر ثانية تجاه (ليلى) وكانت عيناه تحمل الكثير من الشفقة والحزن والغضب..
هب واقفا وترك طعامه واستدار، عندما ناداه والده: حسام انت رايح فين؟؟ كمل فطارك.
نظر له (حسام)، قائلا: شبعت الحمد لله، هطلع أنام شوية عشان أعرف أكمل مذاكرتي..
قالت (ليلى) وهي تراه يذهب لغرفته: بابا، (حسام) غريب جدا النهاردة.
قال لها مطمئنا: حبيبتي، امتحاناته قربت، أكيد متوتر شوية.(هدى): أنا كمان شبعت الحمد لله، هقوم اهديه شوية واقعد جنبه لحد ماينام.
(ليلى): وأنا كمان جاية معاكي.
(هدى): لا، روحي انتي ذاكري عشان هسألك في دروسك.
قالت (ليلى) في استسلام: حاضر.
***
طرقت الأم باب غرفته ودخلت، اعتدل (حسام) وجلس على السرير، وجلست بجواره وربتت على كتفه قائلة: حبيبي، أنا عارفة كويس انك متضايق وزعلان ومصدوم، بس انسى كل اللي سمعته، مفيش حاجة اتغيرت، هي هتفضل أختك وبنتنا، وعايشة معانا.
نظر لها من بين دموعه: ازاي؟ وهي هتفضل مش عارفة كده لحد إمتى؟ انتو شايفين الموضوع سهل كده إزاي؟ ولو عرفت..
قاطعته :مش هتعرف.
-وإيه اللي يضمن؟ افرضي اتخانقتوا تاني وهي سمعت كلامكم وقتها هتعملوا إيه؟
-لا مش هنتخانق إن شاء الله، كنت متضايقة بس شوية، بس أنا بحبها زي بنتي، أنا عمري ما حسيت إنها غريبة عني، ومش هنتكلم تاني في الموضوع، أنا ووالدك وعدنا بعض بكده، عشان هي أهم عندنا من فلوس الدنيا كلها.
-وأنا؟؟
- انت إيه يا (حسام)؟
-أنا مش عارف اتعامل معاها إزاي؟ وانهمرت دموعه..
-طول عمري بحبها جدا وبخاف عليها، دلوقتي أكرهها يعني؟ ولا أعاملها كأنها مين؟ وهقدر اخبي عليها لحد امتى؟؟
نظرت له بحنان واحتنضته: هي أختك، حبها طبعا وخاف عليها، وخلي بالك منها، متفكرش كتير.
قال لها محاولا إنهاء الحوار: حاضر ياماما، اوعديني إنها متعرفش أبدا الحقيقة، عشان مش هتقدر تعيش بعدها.
-حاضر يا حبيبي، نام انت شوية، وريح نفسك من التفكير.
***
مر شهر تقريبا منذ علم (حسام) بالحقيقة، وظل معتكفا في غرفته أغلب الوقت معللا ذلك بالمذاكرة، وكان يتجنب (ليلى) قدر المستطاع، وإذا دار بينهم حديث، كان حديثا مقتضبا، وتحدث والده معه تارة، ووالدته تارة، يحاولان تخفيف وطأة الصدمة عليه، وينصحانه بالتعامل معها بشكل طبيعي، وفي كل مرة تكون اجابته واحدة :حاضر، أنا هاخد وقت لحد ما أتقبل الوضع، وهرجع أتعامل معاها عادي وانسى، أوعدكم.وانتهت الامتحانات، وقرر (مجدي) و(هدى) أخذ إجازة من عملهما، والسفر للإسكندرية، وكان للبحر أثره في قلب (حسام)، فقد نسى أو تناسى كل شيء، وظل يسبح في البحر أغلب ساعات النهار، ويقضي الليل على الشاطئ مع أسرته، يأكلون الآيس كريم والذرة الساخن، وكأنما نسي كل شيء، وكانت (ليلى) سعيدة بما رأته من رجوعه لسابق عهده، وضحكه ولعبه معها.
عندما رجعوا من الإسكندرية بعد انقضاء أسبوع، قرر (حسام) أن يتعامل معها كما اعتاد، فهي أخته التي أحبها وتربى معها، ولن يفرقهم شئ أبدا، وقد عاهد نفسه ألا يخبرها الحقيقة ويظل لها الأخ الأكبر وسندها وصديقها.
***
مرت ثماني سنوات، تغيرت فيها (ليلى) وغدت أكثر جمالا وحيوية، والمنزل يمتلئ بدعاباتها وضحكاتها الرقيقة..
وكانت (هدى) تحرص كل الحرص على الاعتناء بها، وتعطيها الكثير من الوقت وتسمعها، وتعطيها نصائح الأم لابنتها.
لم تشك لحظة واحدة أنها لا تنتمي لتلك الأسرة، كان الجميع يعاملها بشكل طبيعي، لكن (حسام) كان يغير عليها بشكل مبالغ فيه، كان يدقق في كل ماتلبسه، ويدقق معها في حديثها مع أي شاب أو رجل غريب، وكان ذلك يسبب الكثير من المشاكل بينهما.قالت غاضبة بعدما علق على الطقم الذي ترتديه وهي ذاهبة لصديقتها: (حسام)، انت مستفز بجد، بابا نفسه مش بيعمل معايا كده.
عقد حاجبيه في غضب: عشان انتي متدلعة، وهو مش بيقدر عليكي، بس أنا بقى بقدر.
ضحكت وقالت ببراءة : ماشي، أنا هغير الطقم مش عشان بخاف منك، بس عشان انت عارف كويس جدا أنا بحبك قد إيه.كل مرة يسمع منها تلك الكلمة يخفق قلبه بشدة، ويرتبك، كان يعلم أنها تحبه لأنه شقيقها، ولكن الكلمة تربكه..
قال لها وهو ينظر في الأرض: خلصي بسرعة، عشان أوصلك قبل ما أروح مشواري.
ظلت صورتها وضحكتها وهي تحدثه في رأسه وهو في طريقه لمقابلة صديقه (ياسر)، هز رأسه بعنف كأنما يريد أن يطرد كل تلك الأفكار من رأسه.
ظل شاردا وهو جالس مع صديقه، والأخير يسأله بإصرار مابه، اعتذر له (حسام) وقال أنه يشعر بالتعب، ومضطر للذهاب إلى المنزل.عاد (حسام) إلى المنزل، وطلب من والده أن يحضر (ليلى) بدلا منه..واندفع إلى غرفته ودفن رأسه بالوسادة.. وأخذت فكرة ترك المنزل تسيطر عليه، فقد كان مرعوبا من مشاعره التي بدأت تأخذ منحنى آخر..