الجزء الرابع: حي السحالي

120 11 4
                                    




كنت واقف أمام شقتها حينما عادت, تفاجئت في البداية, ثم أنفجرت وهي توبخني. لم أدر لها بالًا. أدارت المفتاح ودخلت ورائها بصمت. أتجهت للحمام بخطوات ثقيلة وخرجت منه بخطوات عازمة على تمزيقي لأشلاء. أشغلت نفسي بقراءة إحدى كتب لينين خاصتها, لم أفهم منه شيء.

وقفت أمامي مصفرّة الوجه منزوعة الروح, بدت مغرية بشعرها المنثور والمبلل من الأمام. حتى ملابسها الرسمية السوداء بدت أجمل عليها تحت إضاءة الشقة الباهتة عمّا كانت في ذلك المطعم النتن. نهضت ورميت الكتاب على الأرض بغير إكتراث. تأفأفت سهاد وأتت ناحيتي, غاضبة. عندما أنحنت لتلتقطه أمسكتها من شعرها وضيّقت يدي حول خدها اليسار, قبلتها على شفتيها الشاحبتين. أفترستها, نزعت عنها قميصها ودفعتها على الأريكة التي أصدرت صوتًا غريبًا حالما فعلت, بدا وكأن شيء ما بها تحطم من الداخل. بكت سهاد في بادئ الأمر لكنها أحتضنتني وسايرتني حتى حدث ما حدث. تلك الليلة تحطم هيكل الأريكة وشيء فيّ أيضًا.


غفيت بين ذراعيها, حلمت بمونرو وأحذية نوني اللامعة وأستيقظت مذعورًا, لم أذكر تفاصيل الحلم, القشعريرة التي تلبستني أجبرت ذهني المتعب على النسيان. بكيت على صدرها وزممت شفتاي خوفًا أن تهرب تنهيدة ما, ثم شعرت بالشفقة على نفسي وسخرت مما أفعله. نهضت حينما ابتدأت الغرفة تضاء بألوان الفجر. غسلت خيط الدموع عن وجهي بالماء البارد, لم أرد البقاء, ولم أرد الرحيل. لم أقدر على التحرك من أمام الباب لعدّة دقائق, واقف دون معرفة كيف أتخذ الخطوة التالية. حينما سمعت صوت الأريكة يأن بتشنج, خشيت أن تكون سهاد قد أستيقظت. ألتقطت معطفي وخرجت.


ضربني الهواء البارد وأختفى النعاس من عيني, كنت وحدي في الشارع, أسير بلا هدف. فطرت على سيجارتي التي أدفئت داخلي وأرهقته بعد حين عندما تلبستني نوبة من السعال, تذكرت أول سيجارة دخنتها, كنت أبيع العلكة في إحدى الحدائق العامة ووجدت علبة مهجورة بها عدّة سجائر وأعواد كبريت. دخنت خلف شجرة, كنت قد بلغت الخامسة عشر عشر منذ أيام. لسعت لساني بمرارتها, وحينما أستنشقت الدخان أتتني نوبة سعال أبكتني. بعدها, تملكني شعور لا يوصف. كنت قد حلقت, شعرت بالدوار والسعادة, قدماي لم تثبتا على الأرض وكل مشاغل الدنيا نُزعت عن كتفيّ. لم أترك التدخين من حينها.


أول من أكتشفني كانت نوني, رأتني من نافذة غرفتها أخذ آخر أنفاس السيجارة قبل أن أهمّ لزيارتهم. علمت أنها رأتني, وعلمت أنها أخبرت مونرو بالأمر والذي جرني بعد أيام للباحة الخلفية ووبخني. غضبت, لم أعتد على التوبيخ فدفعته من صدره ووقع على الأرض.

لم أتوقع أن يسقط بهذه السهولة فخفت مما قد يفعله. صحيح أنه كان مسالم وطويل الصبر لكنّي رأيته حينما يغضب, عدّة مرات, خاصةً حين يوقعه أحد الأولاد عن قصد عند لعب الكرة. وفعل بي مثلما يفعل معهم عادةً. زحف على ركبتيه ككلبٍ مسعور وسحبني من قدمي فسقطت على مؤخرتي. وقبل أن يتسلق عليّ زحفت بيداي للخلف هاربًا رغم ألم أسفلي.

أستطاع اللحاق بي, جلس على معدتي وأمسكني من ياقة قميصي, خفت, لم أخف من أبي بحياتي كلها, لكنّي خفت من مونرو ولحظات عصبيته. زمجر أسنانه أمام وجهي وأمرني أن أخرج العلبة.

لم أفعل. ألتزمت السكوت, لا أذكر إن كان الخوف هو سببًا أم رغبتي بإغاضته. صاح بأسمي لكن ليس بصوت عالٍ حتى لا يسمعنا أحد. كان غاضب لكن لم يفقد ذكاءه, هذا كان مونرو. وما لم يكن عليه, هو ما فعله بي بعدها. فتش جيوب بنطالي ورفع قميصي عني كي يبحث عن العلبة, لم أره مستميتًا للتدخل بأمر لا يعنيه بتاتًا من قبل. كنت منزوع الطاقة لذا أمتنعت عن المقاومة وأستسلمت له. حين وجدها, بكيت بشهقة وغطيت وجهي بيداي الملطختان بالحشيش والطين اليابس. لم أشعر بتلك الكمية من الإهانة والوهن بآنٍ واحد في حياتي كلها, السابقة والحاضرة.

أخبرني بعدها أنه أراد أن يسحق كل سيجارة بيده لكنه أمتنع حينما رآني أبكي. عانقني وتدحرجنا على الحشيش, أخبرني بشيء مبتذل عن أضرار التدخين وجدت نفسي أضحك على أثره. ضحك معي ثم راقبنا السماء بهدوء, بدون أي كلمة.


أتدري سهاد أن أول من وقعت بحبه كان الفتى مونرو؟




أمتنعت عن ملاقاة سهاد لعدّة أيام بلا سبب ملموس سوى تلك التي صنعتها برأسي, كنت أفكر بها وهي تحاول البحث عن إجابة لإختفائي وتجاهلي لمكالماتها على منزلي. دربت أختي على إجابة الهاتف لإخبارها أنّي نائم أو أستحم. أستمر الحال لخمسة أيام, قضيت معظمه في بيت جاري عامر الذي أمتلك طاولة بليارد في كراج منزلهم. كان شباب الحي يكونون فرق كي نلعب لعدّة أيام متواصلة, تأهل فريقي للبطولة لكنّي لم أزرهم بعدها, سمعت من أحد الشباب أن فريقي خسر. شعرت بالسوء ونسيت سبب إمتناعي عن الذهاب.


في طريقي للعودة, وجدت سهاد واقفة أمام منزلي بغير صبر, كانت الساعة السابعة ليلًا. أرتدت فستان طويل تحت الركبة أرجواني اللون, بينما أنسدل شعرها الأسود على كتفيها بطريقة آخذة للنفس. بدت جميلة حتى وهي من بعيد. لم أصدق أنها تبلغ الثلاثين. ركضت نحوها ويداي في جيبي, تجنبتها عيني بحرج, لم أقدر على مواجهتها في بيئتي. حالما رأتني, سددت ضربة على وجهي بحقيبتها, لم ألحق الدفاع عن نفسي ولم أرد أن أثير جلبة في منتصف المساء وخشيت أن أدعوها للداخل. لا أعلم لم أتت.

"أغلقت شقيقتك الباب في وجهي دون كلمة لتُقال-"

سحبتها من يدها كي نبتعد عن الحي, "لا يجب عليكِ التواجد هنا, سيخرج شباب بعد قليل من ذاك المنزل"

"أهولاء هم من تقصد بالسحالي طوال هذا الوقت إذًا؟ لا أذكر أنّي رأيت سحلية حقيقية واحدة هنا"

شددت على معصمها حتى وصلنا للشارع العام. لم تضف سهاد أي تعليق آخر. أوقفت سيارة أجرة, دخلت هي أولًا.

"ألن تأتي؟"

لم أجب, أغلقت الباب خلفها وأخرجت محفظتي كي أدفع للسائق. أخذت نظرة أخيرة لها, عبِست وأدمعت عينيها.

"لا أريد رؤيتكِ بعد الآن"

تحركت السيارة وأختفت في الأفق البعيد. للآن لا أعلم لِم قلت ما قلت.

Thieves & Olive Treesحيث تعيش القصص. اكتشف الآن