أتذكر الموت كشجرة زيتون, كبلبل أبيض الخدين وكسحابة في ديسمبر.وافاني الأجل في أواخر هذه السنة بعد أن أستقليت على متن آخر طائرة ذهاب من مطار العاصمة. وفي نهاية التسعينات عندما طارحت سهاد الفراش لآخر مرة. وقبل واحد وعشرون سنة، في عيد ميلادي السادس عشر.
لا شيء يحدث, لم يحدث شيء. أعيش شيئًا ليس واضحًا, ما الذي أعيشه وعلام أعيش؟ كما قال غاوستن, حياتي مجرد طفولة وموت لا شيء بينهما سوى الظلام والصمت، وللسامع الحق ان يعد هذا الحديث هراء.
بداية علاقتي مع سهاد كانت تتضمن أجمل أيام حياتي وأكثرها إضطرابًا. لم أتخيل أنّي سأسعد يومًا قرب امرأة. لطالما أسعدتني القطط مثلًا, خاصةً عندما أناديها وتأتي ملبية دعوتي وتُلاعب ذيلها ضد ساقي, تلك هي قمة الوجدانية بالنسبة لي. لكن سهاد لم تكتفي هنا فقط, كانت تقدر على إرباكي وتهييج أعصابي بالسهولة ذاتها.
حال دخولها حياتي, أمضيت أيامي بقلب منزوع القلق, بالضبط كشعوري مع القطط. لكن بعد مدّة يأتي الشك طارقًا أبوابي, في البداية كان طرقًا خفيفًا يكاد لا يسمع, ثم تأخذ الطرقات بالزيادة مع مرور الأيام.لم يخف حبي لها على الإطلاق, بل فقط قلّت ثقتي بنفسي. ومن لا يثق بنفسه, لا يقدر على الثقة بالآخرين.
على الرغم من كوني خبير بإفساد علاقاتي الإجتماعية مستندًا على أسباب وهمية يختلقها رأسي المشاكس, حاولت هذه المرة أن أتجاهل مكتب الشكاوي المعلق بين أذناي. لذلك أعتزمت التمسك بخلوتي لعدّة أيام أراجع تصرفاتي معها وما أفهمه من ردود أفعالها في مفكرة صغيرة, ثم أعود إليها كجروٍ ضائع كأن شيئًا لم يحدث. في البداية أستغربت من سباتي القصير المتقطع لكنّي أختلقت تبريرات من هنا وهناك. كنت أبتكر أساليب تعافي جديدة كل مرة حتى توقف الشك عن الطرق لفترة من الزمن. كان شعوري حينها كإختفاء آمر السجن وتحرري من زنزانة مألوفة.
نزهاتنا القصيرة ترأستها سهاد مدردشة عن طبيعة عملها والنوادي التي تنضم ثم تُطرد منها بسبب سخريتها من أيًا ما كانوا يفعلونه هناك. كل ما تحدثت به هو الحاضر, ونظرًا لما كنت أسمعه يوميًا, أشك أنها مرت بيوم واحد ممل.
ترددت من تلبية طلبها بالقدوم لمسكنها, فضلنا أرتياد الأزقة الفارغة أو المقاهي البعيدة, في مواعيدنا المتفق عليها أنتظرها لتخرج من المبنى الذي تعمل به أمام موقف السيارات كأنها مسؤولية نُزِلت عليّ من السماء ثم نسير مبتعدين عن منتصف المدينة كي نشبع أعيننا ببعض. لم أشئ أن تلطخ رائحتي مكانها, كنت أخاف من شيء أجهله, إلا أنها شرحت لي مرات عدّة عدم ممانعتها بمجيئي وألحت على أن أتذوق قهوتها المنزلية, وافقت أخيرًا, كنت أرجو أن ثلاث أشهر من الدردشة والنزهات الطويلة على الأقدام ستكون كفيلة بجعلها تثق بي, ووثقت كفاية على ما يبدو.
ليس وكأنّي قد أفعل أي شيء سيء لها إن فعلت, كنت فقط لا أفهم كيف تعمل العلاقات خاصةً مع امرأة أكثر إستقرارًا مني من الناحية العاطفية، وكيف تُبنى الثقة من الصفر مع شخص بالكاد تعرفه.صحيح أن اليوم الذي أظهرت به فحولتي في مقهى الوردة وجلست مقابلًا لها رغمًا عن الجميع كان خطوة جريئة مني لم أتخيل يومًا أني قد أخطوها، لكن لي أسبابي الخاصة.
عندما زرت شقتها لأول مرة, واجهتني رفوف عديدة تواجه باب المدخل الأمامية, مليئة بالكتب المكدّسة فوق بعضها والأسطوانات ذات الأغلفة المهترئة في الأدراج التحتية. كانت تستمع للموسيقى الكلاسيكية بكثرة وبارعة في التفريق بين كل أعزوفة وبأي مفتاح تُلعب على الرغم من عدم ممارستها أي أداة للعزف أو معلومة قوية بخصوص نظرية الموسيقى.
"أنا متأكد هذه المرة! أنها لبيتهوفن لا محالة" قلت بثقة بينما راقبت عيناي القرص البلاستيكي الذي يدورحول نفسه.
"كلا, ليزت!"
أعتادت على نزعتي المتبلّدة عند سماع موسيقى كلاسيكية, حالما تبدأ أقول أنها لبيتهوفن -لأنّي لا أعرف غيره- وهي تضحك كل مرة وجسدها يأخذ بالإنحناء للأمام كغصن فتي أخضر وقلبي يمتلئ بهجة, كنت أفتخر بجهلي لأنه كان على الأقل يُضحكها.
"هذه الشقة تبدو كمكان قد يرغب تروتسكي بالإختباء به" سخرت منها بعد تفقدي عناوين كتبها لكافة المفكرين والسياسيين الإشتراكيين منهم والشيوعيين.
"يا ليته يأتي فقط, سأعد له القهوة يوميًا وأقضي أيامي أناقشه وأمشط شعره وشاربه" أخذت تلعب بشعرها وتدّعي الخجل الذي لم يلق بها على الأطلاق.
"حينها سأخبر ستالين بمكانكما وسيرسل كلًا منكما لسيبيريا لأجل صناعة سكة حديد لا طائل لها"
"سأنهي بنائها بأسرع وقت وأوجّه آخر محطة إليك"
"ماذا عن تروتسكي؟"
"فاليعد إلى الأرجنتين, أو ليذهب للجحيم"
قبلتها لأول في ذلك اليوم.مع الوقت, طلبت مني أن أريها منزلي من الخارج, ترددت في البداية, من قد يرغب برؤية حي السحالي؟ قصصت لها أساطير عن المكان محاولًا تخويفها, عن السحالي التي تملئه والبيت المسكون في نهاية شارع منزلنا, تحمست عند ذكري للأخير.
"صدقيني لا يسمونه حي السحالي إعتباطًا, هنالك العديد منها, أحيانًا تكونين منسجمة بالحديث مع أيًا من تسيرين معه فجأة تحل محله سحلية ضخمة قد تقدم لكِ نصيحة بشأن قصة الشعر التي تليق بكِ"
"إستشارة مجانية إذًا"
"لكن تكاليف العلاج النفسي لن تكون مجانية. تعالي وسينتهي بكِ الحال كحالي"
"يا لسعادتي"
أخذتها لـ حي السحالي. لا أذكر تفاصيل ذلك اليوم لأنّي كنت منزعج من حقيقة أنها ستنام وهي تعرف أين أسكن, وأنا لم أنم ليلتها لأنها عرفت. علام الإنزعاج والقلق؟ لم أدري. شعرت كأن جزء من جسدي تكشف ولن أقدر على تغطيته بأي قطعة قماش كانت. هنالك أشياء غبية كالأسرار نبنيها كي تحد الخطر عنّا لأطول فترة ممكنة, سهاد لم تنتوي على إختراق قلاع أسراري وإسقاطها على رأسي, أنا أعلم. لكن ذلك الفتى فعلها, وما أخرجه من قلعتي أماتني لأول مرّة.
أنت تقرأ
Thieves & Olive Trees
Roman d'amourتائه بين الماضي والحاضر وكالأرض العطشى التي تنتظر المطر، يدخل زيد بعلاقة مع امرأة تكبره سنًا ثم مع شاب أثر نزوة لا يجيد الهرب منها، وبين إضطراباته بين العلاقتين يحاول أن يبرر مشاعر تلازمه منذ عشر سنين لصديق مراهقته الذي أختفى وأضنى فؤاده.