للشفافية والوضوح.. أصف هذه المراجعة بـ «المراجعة العمياء»، يصعب الانسحاب من تأثير هذه الرواية! لقد أحببتها، وأحببت كل جزء فيها على حاله، وهذا ما يبعد هذه المراجعة عن الحيادية، ولأن الكلمات لا تكفي، ولأن ما يجول في البال تسقطه الذكريات، فإن هذه المراجعة بعيدة عن الشمولية أيضًا.تأخذنا إيلينا فيرانتي إلى نابولي، إلى ذلك الحي المتهالك على أطرافها، وتفتح لنا أبوابه المطلة على الصغيرتين لينو وليلا، شرارة علاقتهما.. التي ستتحول فيما بعد إلى نار مضرمة في قلبيهما، تحرق أحلامهما.. ثم تنير أحلامًا أخرى، وهما يكبران في ظلام الحي، وبرده الذي يسلب روح الحياة من أجساد قاطنيه.
إن رحلتنا إلى نابولي.. رحلتنا عبر صداقة الفتاتين.. مهلكة، يتماهى القارئ مع هذه الرواية وشخصياتها، ويسقط المشاعر على تجاربه، فتتجلى حقيقة العلاقة بين الصديقتين، فينفصل عنوة عنها، لا.. لم تكن علاقة صحية.. لم تكن علاقة سليمة أصلًا، وهذا يتناسق مع الحي الفاسد، إن انتظار علاقة ودية ودافئة أمر بعيد عن الواقع الروائي، وهو ما التزمت إيلينا بتقديمه لنا، كما قدمت لنا حضورًا نسويًا ونسائيًا مسيطرًا، من كثرة الشخصيات النسائية إلى كثرة الأراء والقضايا التي طرحتها إيلينا، في ظل حضور ذكوري خافت يحرك مجرى حياة الحي ونسائه بالنزوات وردود الأفعال التي يكبتها حالهم وتاريخهم الاجتماعي والسياسي السيء، متمثلين بآباء كدهم العيش، وصبية أعماهم الطيش، وشباب تقودهم الأموال.. والتوجهات السياسية.. ومشاعر الحب والهيام.
بما أن رأيي بعيد عن الحيادية.. فكذلك السرد، إذ أننا نرى ونسمع ونشعر كما لينو، إن نابولي التي نراها، هي نابولي لينو، وليلا التي نتحدث عنها هي ليلا لينو، وهكذا فإننا نحكم على الشخصيات والأحداث كما تحكم عليها، بعبع الدون آخيل آخر السلم، ودوامة الأم العرجاء التي تنتظرها عند الفشل، وصناديق الثراء التي بشرت نفسها بها.. إلخ، وهذا ما يدعونا للتسائل عن الصورة الكاملة، والجوانب الأخرى للشخصيات، تلك التي غابت عن أنظارنا ما دامت لينو لم تنقلها إلى الورق، كما يغيبنا عن تنبؤ الأحداث القادمة.
لقد فتحت الكاتبة أمامنا أبواب من الإبداع والتقدير السليم، فحبكة هذا العمل تجرك نحو إكماله فقرة وراء فقرة، صفحة وراء صفحة، وفصلًا وراء فصل، تصيبك بالعطش والجوع، فلا يعود بإمكانك إلا إشباع حاجاتك الروائية، وتحصيل متعة القراءة حتى تصل إلى ذروة الأحداث، ولا تكتفي بهذا وحسب.. بل تخط نهاية مفعمة بالمفاجآت.. تنذر بالشؤم، فتقودك نحو أجزاء أخرى من هذه السلسلة، جزء آخر من مراحل حياة الصديقتين.
أسفي الوحيد -مجددًا- هو إمكانية تهذيب الرواية، تحفظي المعتاد، لكن هذه المرة من دون عتب😂 ومع ذلك، تظل هذه الرواية أكثر من رائعة، وأعزو إليها عودتي إلى مرحلة التهام الكتب، من بعد فترة طويلة من البرود.