يشعر طلاب الطب الجدد بالنشوة و الانتصار في أول تربص لهم في المستشفى .
يتمسكون بمعاطفهم البيضاء و يأخذون أقل نظرة أو همس على أنها إعجاب .
يتجولون حاملين سماعات طبية لامعة لن تُستعمل قبل وقت طويل و جيوبهم محشوة بدفاتر ملاحظات يسهون عن استخدامها معظم الوقت .
لم يكن ذلك ما تشعر به آليس تحديدا .
لم تكن واثقة من أنها في المكان المناسب للمرة المائة.
ذكرت نفسها مرارا و تكرارا في السنوات الثلاثة الماضية بأنها ستكون بخير و ستجد ضالتها في نهاية المسار .
و هاهي الآن في منتصفه و تشعر أنه ملتو و يأخذها في انحدارات شديدة لا تروقها .
كانت تقف مع ثلاث فتيات في قاعة الفحص إلى جانب طبيبة ممتلئة تفحص سيدة عجوز و يساعدها طالبي سنة سادسة مرهقان .
أربعتهن بدون في غاية الأناقة ذلك الصباح .
لكن حماس البدايات بدأ يتلاشى و شرف ارتداء المعطف الأبيض لم يعد مثيرا و آلام الوقوف لساعات طويلة أصبحت أكثر وضوحا و لم يعد اللحاق بالأطباء هنا و هناك و تأمل عملهم في صمت ممتعا كما تصورن .
و على انعكاس الكرسي المعدني لقاعة الفحص ، ظهرت أربع وجوه متهجمة تبتسم بتصنع و تعد الدقائق و اللحظات لتخرج من الغرفة الخانقة برائحة الكحول الطبي.
كانت أقصرهن ، تدعى رايفن ، ملامحها عادية و لكن إن دققت النظر سترى تلك المسحة من الخبث في نظراتها الحادة .
هي أول من كسرت الصمت و الارتباك الذي ساد بينهن و دفعتهن للتعارف.
و في الأسبوع الثالث من تربصهن ، شجعتهن على التسلل من قسم أمراض الدم أين كن يقضين واجبهن رغم صرامة الرقابة عليهن .
لم تكن آليس متحمسة للفكرة ، نظرا لطبيعتها المتحفظة و خوفها من مخالفة القوانين .
لكنها وافقت على أي حال .
لم تشئ أن تكون ذلك الشخص الممل و البليد في كل مجموعة.
و راحت كل من آليس و رايفن و صوفي و أوليفيا يتجولن في الأروقة التي تفتقد إلى الإضاءة الكافية.
كان المعطف الأبيض بمثابة تصريح دخول لكل مكان في المستشفى .
فرحن يقتحمن القسم تلو الآخر باحثات أن أي شيء يستحق أن يُرى .
و باستثناء قسم الأشعة المزدحم ، لم ينزعج أي شخص من وجودهن .
لمست أحذيتهن المريحة أرضية كل طابق من طوابق المشفى القديم .
و حين وصلن إلى الطابق السادس ، أخذن المصعد إلى الطابق الأرضي ليخرجن إلى الحديقة و يحصلن على بعض الصور التذكارية لإغاضة صديقاتهن المزيفات اللواتي لسن طالبات طب على الانستغرام .
كانت الجولة المرهقة لتمضي على ما يرام .
لو لم تشر أوليفيا إلى اللافتة الزرقاء الصدئة في ذلك الرواق المظلم .
كان الطابق الأرضي واسعا و كبيرا و مشرقا و مليئا بالحياة مقارنة بالطوابق فوقه .
و لكن في تلك الزاوية ، أين تتناقص الإضاءة تدريجيا لتختفي كليا خلف اللافتة .
توجد مشرحة الجثث .
كانت رايفن صاحبة الفكرة .
"هل لديكن الشجاعة الكافية للذهاب إلى هناك ؟"
تحمست الفتيات للفكرة باستثناء آليس .
(صوفي ): لا توجد كاميرات مراقبة هناك ،أشارت بذقنها
انظري ، ليس هناك من يحرصها حتى .
(رايفن): رحلة قصيرة و ينتهي الأمر.
(أوليفيا). : لا تكوني مملة .
و أمام إصرارهن و هوسهن ، وافقت آليس على مضض.
لم تكن فكرة الموتى المجمدين داخل ما يشبه الدرج هي ما يقلقها.
لو دخلت و وجدت رجلا مقطوع الرأس يحاول سحبها إلى زنزانته الباردة ما كنت لتهلع قدر هلعها من فكرة أن يمسك بها والدها تقدم على فعلة حمقاء كهذه .
كان طبيبا ، جراح أعصاب على وجه التحديد و يعمل في نفس المكان و لو تم ضبطها و عرف عن الأمر ، كانت سيصلبها على خازوق.
لطالما أراد أن يراها طبيبة ناجحة محترمة و لو كلفه ذلك تحطيم كل عظمة في جسدها ، نوع من الحب المغلف بالأسلاك الشائكة .
تقدمت رايفن و صوفي أولا ، تشابكت أيديهن في إشارة إلى صداقة حميمة قادمة .
أرسلت أوليفيا تشجيعاتها همسا ، بينما وقفت آليس كإحدى اللافتات الصدئة.
فتحت رايفن الأبواب الرمادية التي تتوسطها نافذة بحاجة إلى تنظيف عميق ، بثقة مبالغ فيها .
كانت المشرحة فارغة ، فارغة من أي شخص حي قد يتساءل عن سبب وجودهن هناك على الأقل .
تقدمت رايفن و يدها الصغيرة الماكرة تجر صوفي إلى الأمام .
سرعان ما لحقت بهن أوليفيا و صارعت آليس آخر أفكارها المُحذرة قبل أن تنضم هي الأخرى.
اقتحمت رائحة الفورمالين أنفوهن ، استغرقن وقتا قبل أن تتعود عيونهن على الإضاءة الفلورية .
لم توحي المشرحة بأي انشراح ، على مساحتها الضيقة وقفت ثلاثة جدران تحمل الكثير من البرادات .
و على الجدار الرابع، استندت خزانة متهالكة تحوي بعض المعدات اللواتي لم يكن يعرفن ماهيتها و فوقها ظهرت علب لأعضاء مختلفة تسبح في سائل كثيف .
أخذت طاولة العمل المعدنية مكانها في منتصف القاعة ، بينما انتشرت بعض الكراسي على مقربة منها .
و حين ركزن بصرهن و تناقصت دهشتهن انتبهن إلى الكيس الصامت فوق الطاولة .
تسللت يد متغضنة ينقصها إصبع من الحافة.
بالكاد تمكنت آليس من كتم صراخها ، غمرتها موجة من الشعور بالذنب كما لو حفرت قبرا و أخرجت تلك الجثة بنفسها .
و مثل جراح محترف تقدمت رايفن بأصابع ثابتة نحو الجسد المنكمش.
جذبت السحاب بعيون متقدة .
شيء ما في نظرتها جعل آليس تعتقد أنها قادرة على قتل أيا من كان داخل الكيس إن ما زال حيا .
ظهر الشعر الرمادي الطويل أولا ، تكوم على وجه المرأة الشاحب و منحها هالة الغرقى .
تحسست رايفن جلدها المترهل ، رفعت بخجل مزيف الرداء الداكن للميتة ، لم تكن الجثة مفتوحة .
أشارت إلى أوليفيا فتقدمت لتلقي نظرة متألمة و سرعان ما سألت :
"يحتفظون بالموتى خارج الثلاجة؟ هل هذا أمر عادي ؟"
(رايفن) : إنها محظوظة لأنهم لم يلقوا بها إلى الكلاب . تجاهلت نظراتهن المستنكرة و أكملت :
جلدها هش كرقائق البطاطا ، لن تصمد تحت المشرط"
"تبدين خبيرة حقا " قالت صوفي قبل أن تقاوم غثيانها و تتفحص الجثة.
تساءلت آليس التي ظهر طعم مر في حلقها إن كن يزيفن شجاعتهن .
بدت ملامح رايفن خالية من أي تعبير ، تألمت أوليفيا لأنها أدركت أن هذا جزء من عمل الأطباء و لم تهتم أبدا للمرأة بينما أظهرت صوفي هوسا بلمس الأطراف المتيبسة بأصابعها العارية .
دفعت آليس فطورها إلى معدتها مجددا قبل أن تتقيأ ، حاولت أن تتظاهر أن الوضع طبيعي ، ستشارك في الفحص و تبتسم للتعليقات الساخرة و سيغلقن السحاب مجددا و يخرجن من هنا .
قصة طريفة أرويها ذات يوم على العشاء ، شجعت نفسها.
مدت يدها نحو البطاقة الملتصقة بالكيس .
"جاين دو" صاحت رايفن قبل أن تتمكن آليس من قراءة ما كُتب " يعني أنها جثة مجهولة الهوية ، قذف أحدهم بها في عرض البحر و ترك العجوز الخرفة تغرق ، على الأرجح حفيد متلهف لثروة الجدة" ردت خصلة من شعرها إلى الخلف قبل أن تواصل" و لكن ، كنت لأختار وسيلة عملية أكثر لإنهاء الأمر ، وسادة مثلا أو أحد أدوية القلب "
قاطعتها صوفي متجاهلة تفكير زميلتها الإجرامي " و لكن لا يوجد أي علامات على الاختناق ، لاحظي شفتيها ، زهرية كالقرنفل ، لا ازرقاق "
"أنت تدرسين و تبحثين بجد إذن " رمقتها رايفن بحدة
" أخبرتني أنك تقضين الكثير من الوقت مع سام و لا تجدين متسعا للمذاكرة"
أطلقت صوفي ضحكة تنم عن الضيق و واصلت فحص الأظافر " اكتسبت المعلومة من أحد الأفلام"
قد يعود الموتى إلى الحياة و قد يتحدث الأحياء مع الموتى ، لكن لن يخبرك أي طالب طب الحقيقة عن خططه و مذاكرته.
"يجدر بنا المغادرة " نبهتهن آليس إلى الوقت ، كانت نوبتهن قد انتهت رسميا الآن .
" لم نحظى بأي متعة بعد " جذبت رايفن مقعدا و منحت ساقيها القصيرتين بعض الراحة.
أصرت آليس " قد يأتون في أي لحظة لبدء عملهم " واصلت النظر إلى الباب " ليس لدينا أي حق في التواجد هنا ، الطب الشرعي ليس من ضمن مساقاتنا ، سنقع في ورطة كبيرة "
" نحن مجرد طلاب طب فضوليون " جلست صوفي أيضا"تتصرفين و كأننا سنسرق أعضاء الموتى "
(رايفن ) : ومن قال أننا لن نفعل ؟
(أوليفيا) : إلى ماذا تشيرين ؟
(رايفن) : لنترك علامات على جسدها ، شيء ما يجعلهم يتعاملون بجدية أكبر مع قضيتها .
( آليس) : و لمَ قد نفعل شيئا متهورا و خطيرا كهذا ؟
(رايفن) : ضعي نفسك مكانها و لا تكوني أنانية ، ألا تريدين شخصا يدافع عنك لو قُتلت و تُركت وحيدة ؟
لم تتخيل آليس نفسها ميتة من قبل ، لم تفكر في جسدها الشاب الغض الآن كقطعة لحم مقددة باردة جافة ، هل يمكن أن تصبح عروقها النابضة بالحياة أرجوانية جامدة يترسب الدم فيها ؟ و أن يحيل بياض عيونها الناصع إلى نظرة فارغة متلبدة ببقع سوداء ؟
شحنت ما استطاعت من عواطف ، لم يكن هناك ما يكفي لتقدم على التنكيل بجثة هذه السيدة المحترمة مدعية أنها تساعدها .
( آليس ) : لا أريد أن أكون جزءا من أي تصرف غير إنساني ستقومين به .
( رايفن ) : حسنا ، لكن لا تجرؤي على المغادرة قبلنا، قفي هناك و قومي بالحراسة ، شيء مفيد لتفعليه غير التذمر .
أردات آليس أن تركض ، بكل ما لديها من غضب و شعور بالازدراء ، لكنها لم تفعل ، لا يمكنها أن تلعب دور البطولة فجأة و هي التي قضت حياتها خاضعة لآراء الآخرين و أهواءهم ، وقفت هناك في الزاوية كحارس أخرس ، لم تكن تعتقد أن أحدا سيأتي لكنها لم تزح عينيها عن المدخل ، تجاهلت الرعشة التي تسللت إلى أطرافها و هي تسمع الفتيات خلفها يعبثن بالأدوات الحادة ، لم تكن تعلم أن قطع جلد شخص ميت أصعب بكثير من قطع جلد شخص حي ، كانت قد شهدت الكثير من العمليات على الأحياء برفقة والدها و لكن لم يصل اضطرابها و تقلصات بطنها إلى هذا الحد من قبل .
اختلست نظرة ، لم يكن هناك أي دم ، إن كان قد بقي في الجسد الميت أي منه ، لم ترى أي جروح ، كانت بعض المعدات قد أُخرجت من الخزانة ، لكن لم يتم استعمال أي منها بعد .
انكبت الفتيات على المرأة و رحن يتهامسن .
أرادت أن تسكت فضولها و تسألهن عما سيفعلن ، لن يكون ذلك في صالحها لاحقا ، ستحدث مشكلة هي متأكدة من ذلك و لذا ستأخذ حذرها، يقول والدها أنه من المستحيل أن يتم ضبطها عندما ترتكب خطأ لأول مرة ، لا تنطبق هذه القاعدة عليها أبدا ، لم تحصل على هذا القدر من الحظ .
"ليس هناك تعفن أو تفسخ " قالت صوفي بصوت مسموع " لا تتعفن الجثة قبل 48 ساعة في حرارة هذا الوقت من السنة"
شجعتها رايفن على مواصلة استعراض معلوماتها رغم الغيرة الخفية التي كانت تملئ الهواء .
"ترسب الدم على الجزء السفلي من الجسد ، هذا يعني أنها كانت ملقاة لفترة معتبرة على ظهرها " دفعت صوفي جذع المرأة برفق " اللون الأرجواني لجلدها يشير إلى أنها لم تكن في الهواء الطلق و لم تتسمم بغاز الكربون ، لو حدث ذلك كنا لنرى لونا زهريا "
(رايفن) : حسنا يا دكتور داڤنشي، أريد معلومة مفيدة ، متى ماتت و كيف ماتت ؟
(صوفي) : لا يمكنني أن أعرف ، ليس بحوزتي مقياس للحرارة يمكنني استخدامه ، لكن الكدمة خلف ذقنها ، تشير إلى أنها اصطدمت بحافة شيء صلب .
(أوليفيا) : تقصدين تلقت ضربة من الخلف ؟
( صوفي) : كلا ، أترين هذا الجرح الصغير هنا ؟ يذكرني بتلك المرة التي تعثرت فيها و أصبت فيها ركبتي بحافة طاولة خشب ، أشبه بحفرة مستقيمة غير عميقة في الجلد .
(رايفن) : أحدهم دفع الليدي الثرية من السلم و يجب أن ينال عقابه .
تنهدت صوفي ، كانت خيبة الأمل واضحة في صوتها
" أشك في ذلك ، أعتقد أن وفاتها كانت حادثة مألوفة و ليس هناك شيء مثير حولها"
(رايفن) : هل انتقلت إليكم عدوى الضجر من آليس ؟ لا بأس باستعمال مخيلاتكم قليلا .
حملقت آليس بهن إثر العبارة الساخرة التي قيلت في حقها لكنهن تجاهلنها .
( أوليفيا ) : صوفي محقة ، ليس هناك شيء لنفعله هنا و رائحة الفورمالين بدأت تخنقني .
(رايفن): على الأقل لنمنحها مكانا لترتاح فيه قبل أن نذهب .
فتحت إحدى البرادات السفلية التي كانت فارغة بالصدفة و رمقت آليس بنظرة متكبرة ، كان يجب عليها مساعدتهن في نقل الجثة إلى البراد .
و رغم نبرة اللطف المزيفة التي تشبه مداعبة الجزار للشاة قبل أن يذبحها في صوت رايفن و رغم هذا القرار الذي لا يحق لهن اتخاذه ، كانت آليس مستعدة للمشاركة إن كانت هذه هي النهاية التي ترضي غرور رايفن و تسمح لهن بالابتعاد عن هذا المكان المشؤوم .
أزالت رايفن الكيس عن الجسد بإهمال ، صرت آليس على أسنانها و هي ترى زميلتها عاجزة عن تقديم ذرة احترام للميتة ، حملتها صوفي و رايفن من المقدمة بينما أمسكت أوليفيا وسطها و تلخص دور آليس في توجيه أطرافها السفلية بطريقة صحيحة نحو الدرج المعدني و كان لديها إحساس بأنهن يحملنها بطريقة خاطئة إذ من المفترض أن يدخل رأسها أولا ، لكنها تغاضت عن الانتقاد ، أرادت أن ترحل و حسب ، الميت لن يهتم بالاتجاه الذي وضُع فيه .
كان وزنها خفيفا إلى حد مريب ، تراخى الجسد بهدوء فوق السطح المعدني للدرج ، أصبحت ملامح المرأة أكثر وداعة الآن أو هذا ما خُيل إلى آليس و هي تصلح غطاءها الداكن الذي كان من المفترض أن يكون أبيضا .
لم تشعر بنفسها إلا و هي تشهق عندما دفعت رايفن الجثة إلى الداخل و أغلقت الباب بعنف ، سُمع صوت ارتطام و للحظة ظنت آليس أن يدها تحطمت ، ذكرها الصوت بقرمشة رقائق البطاطس ، و لكن حين تراجع لون الحياة من وجه رايفن و سلطت نظراتها الفزعة إلى جانبها الأيسر، رأت يدا شاحبة بأظافر مشققة و أربع أصابع تطل من تحت طاولة العمل .
لم تكن تعرف حتى إن كان هذا منطقيا ؟ هل أطراف الموتى بهذه الهشاشة حقا ؟ هل كانت رايفن تحاول كسر يدها هي ؟
وقفت الفتيات معا و قد غزاهن الارتباك و الدهشة الصامتة.
كانت هذه هي فرصتها الوحيدة ، ستهرب الآن و تصعد إلى الطابق الثاني ، ستعثر على ذلك الممرض الذي اعتنى بها حين أصيبت بالتهاب رئوي ، هو رجل حكيم و يمكنها الاعتماد عليه ، ستخبره بالحقيقة كاملة و سيتفهمها و ينقذها من ورطة قد تصيب والدها بسكتة قلبية .
ابنتي أنا تلهو في المشرحة و تكسر عظام الموتى ؟
تخيلت ما سيقوله والدها بكلماته و نبرته و ملامح وجهه المحتقنة .
و كما لو أن رايفن قرأت ما يدور في بالها ، انقضت عليها و دفعتها إلى الخلف .
بالكاد تمكنت آليس من الحفاظ على توازنها ، تشبثت يدها بباب براد ففتحته ، كان يخفي داخله جثة ضئيلة الحجم ، لطفل صغير على الأرجح .
وقفت من جديد و تفادت صفعة أو لكمة أو أيا ما كانت تحاول رايفن أن تفعله و صرخت إلى أن شعرت بلسعة في حلقها.
تدخلت صوفي لتسكتها ، أمسكتها من الخلف .
" اهدئي يا آليس ، سوف نقع في ورطة "
"دعيني و شأني " قاومت و هي لا تزال تصرخ ، بدت كأنها في نوبة هيستيريا .
تقدمت نحوها رايفن و لكمتها في بطنها ، تأوهت آليس من الألم و تقلص جسدها و قبل أن ترفع رأسها لترى دموع أوليفيا دفعتها يد من الخلف نحو البراد المفتوح و ما هي إلا ثوان حتى ساد صمت كئيب و استولى الظلام على عينيها .
شعرت بالدوار ، اجتاحها شعور بالخدر ، أرادت أن يغمى عليها ، تمنت ذلك بشدة ، لكن البرودة اللاذعة أيقظت حواسها ، سمعت الهمهمات و البكاء في الخارج و أسفل جسدها ، انحشر الجسد الضئيل المجمد مسببا لها ألما فظيعا ، حاولت أن تتحرك ، لم تصمم هذه الأدراج لينام ساكنوها داخلها بارتياح ، لم تستطع تغيير وضعيتها ، أزاحت جثة الطفل بيديها بعيدا عنها ، رغبت في رفسه بقدميها حتى يصبح كعجينة لا قوام لها لتحظى بمزيد من المساحة .
سالت دموع حارقة على وجنتيها ، كانت لتنتحب و تبكي لو لم يؤلمها حلقها .
كيف يمكنها أن تفعل ذلك بي .
كانت رايفن خبيثة و سيئة الطباع و قد لاحظن جميعهن ذلك ، لكن أن تكون وحشا ؟ مجنونة بلا رادع أخلاقي أو إنساني .
ضربت الباب بكعب حذائها ، موصد بإحكام ، لم تحدث أي ضجيج ، هل يكون مبطنا؟
دعت بصمت أن تفتح أوليفيا الدرج و تخرجها الآن ، تعلقت كل آمالها بها ، لم تشعر بأي ميل نحوها في السابق لكنها اعتبرت بكاءها كنوع من التعاطف النادر الذي قد ينقذها.
انتبهت إلى السائل المتدفق من أعلى جبهتها ، كان من المستحيل أن ينتج جسمها عرقا في هذا الصقيع و لذا لا بد أنها تنزف ، لم تشعر بأي ألم مع ذلك ، هل تضررت أعصابها بهذه السرعة ؟
خفتت الأصوات في الخارج تدريجيا و اعتبرتها آليس إشارة حسنة ، سيصلحن الفوضى التي سببنها و سيخرجنها و ستعتذر رايفن طويلا منها و ستتظاهر بأن كل شيء على ما يرام لكنها ستذهب إلى أقرب قسم شرطة ما إن تتحرر من هنا .
سترفع شكوى إلى عميد الكلية و ستحرص على أن لا تحصل رايفن على أي فرصة لتصبح طبيبة ، هذه الفتاة القذرة عديمة الرحمة ، سيكون مصيرها سيئا ، ستندم لما فعلته بها إلى الأبد .
استرسلت آليس في التخطيط لانتقامها ، الوقت يمضي ببطء حين تكون محبوسا ، هي تعرف ذلك ، و تعرف أيضا أنها يجب أن تكون ممتنة لهذا الارتجاف الذي يجتاح عضلاتها ، أقل إشارة على شعورها بالدفء يعني أنها اقتربت من مرحلة اللاعودة ، تتذكر هذا الدرس جيدا ، كانت المحاضرة قبل أشهر ، جلست وحيدة و دونت ملاحظاتها ، فكرت في الأشخاص الذي يموتون في الصقيع و العواصف الثلجية و أولئك الحمقى الذين يتسلقون قمة إفرست ، قال الطبيب المحاضر أن لديهم من 15 دقيقة إلى 30 دقيقة ، حين تكون درجة الحرارة صفرا .
تتساءل عن مدى برودة المشرحة ، لا بد أن تكون منخفضة و لكن ليس إلى حد أن تقتلها ، سيخرجنها من هنا ، هن حمقاوات مغرورات لكنهن لسن مجرمات ، لن تبقى هنا طويلا ، ستفكر في أشياء إيجابية ، أشياء رائعة ، لكن ليس دافئة ، لا يجب أن تستسلم للدفء الوهمي الذي قد تشعر به ، ستقاوم و ستخرج و سينتهي الأمر .
خلف الباب الحديدي المغلق للبراد ، وقفت رايفن بأعين ملتهبة ، كانت تخوض جدالا حادا مع أوليفيا ، و بدت الدقائق القليلة ساعات بالنسبة لهما .
( رايفن) : سنعيد الجثة إلى مكانها و سنضع اليد معها و نغلق الكيس قبل أن نتصرف مع آليس .
(أوليفيا ) : هل فقدت عقلك ؟ إنك تدفيننها حية ، ستموت من الرعب ، أخرجيها الآن .
(رايفن) : كلا ، ستذهب الجروة المدللة إلى والدها و ستشي بنا جميعا ، ليس لدينا من يقف في صفنا ، هل تريدين أن تطردي من الكلية يا أوليفيا أخبريني هل تريدين العودة إلى بيتك و إخبارك عائلتك أنك طردت و أن مستقبلك المشرق الذي كانوا يطمحون إليه انتهى ؟
دارت أوليفيا حول نفسها ، كانت رايفن محقة ، لا يمكنها مواجهة عائلتها أبدا ، لا تستطيع إخبارهم حتى عن رسوبها في مقياس ما ، لكن من الخطأ تعذيب آليس بهذه الطريقة .
"سنتفاهم معها ، سنتفق على حل"
ردت عليها صوفي التي بدأت تشعر بالضيق " تخطي حساسيتك الزائدة ، سنعيد كل شيء إلى مكانه و سنخرجها ثم نفترق ، ساعدينا أو غادري"
كانت رايفن مترددة بشأن السماح لها بالذهاب ، لكنها ستحصل على بعض الهدوء لتصلح ما حدث و لذا تركتها .
غادرت أوليفيا و ذهنها محمل بصور عن الموتى ، داهمتها هلاوس عن صراخ آليس و استنجادها ، تمسكت بمعطفها و خرجت مباشرة من المشفى دون أن تعود لقسم أمراض الدم أين تركت أغراضها .
أعادت رايفن الأدوات إلى مكانها و حملت اليد المقطوعة بمنديل قبل أن تعيدها إلى حيث تنتمي ثم بمساعدة صوفي وضعت الجسد في الكيس و حملنه إلى الطاولة ، بدى أثقل بكثير عن المرة الأولى .
عدلت مكان الكراسي و مسحت كل ما لمسنه ، أغلقت البراد المفتوح و تفقدت الأرضية في حال وقع منهن شيء ما .
تنفست عميقا قبل أن تفتح البراد أين كانت آليس .
توقعت هجوما مضادا أو شتائم صاخبة ، لكن آليس ظلت هادئة ، تحدق في الفراغ ، كما لو أنها اعتادت الظلام بالفعل و لم تعد تبصر في النور ، بينما جثة الطفل متكورة بين ساقيها و تدفق خط رفيع من الدم على جبهتها .
تخلت رايفن عن صلابتها و هرعت تفحص مؤشراتها الحيوية ، كان نبضها ضعيفا و شفاهها بنفسجية ، كذلك أظافرها فقدت لونها .
حملنها نحو الطاولة ، نزعت صوفي معطفها و لفته حولها ، محاولة ساذجة لتدفئتها .
تبادلن نظرة صامتة فيما بينهما ، لم تكن آليس تستجيب لأي صوت أو لمس ، حتى النبض الذي تحسسنه بدى أقرب إلى اختلاق صنعه خيالهن حتى لا يصبن بالرعب.
(رايفن): هل من الممكن أن تدخل في غيبوبة بهذه السرعة ؟
(صوفي) : قضيت وقتا طويلا تتجادلين مع أوليفيا ، و إن كانت درجة حرارة البرادات أقل من الصفر ، فالنتيجة منطقية.
(رايفن) : هل تقولين أنه خطئي .
(صوفي ): أنا فقط أجيب على سؤالك .
لم يكن هناك داعي لتسألها رايفن ما الذي سيفعلنه لاحقا ، لم يكن من الممكن فعل شيء لا يدمر حياتهن ، استرجعت صوفي معطفها و قامت رايفن بمزيد من المسح بمنديلها بعد أن تحققت من غلق جميع الأدراج.
تسللن بحذر لم يكن معهن عندما دخلن ، عدن إلى قسم أمراض الدم ، غيرن ثيابهن و حملن حقائبهن ، تساءلت إحدى الممرضات عن غيابهن ، انتهزت رايفن الفرصة و قالت أن أوليفيا تشعر بتوعك شديد و آليس برفقتها الآن ، حدجتها الممرضة الخبيرة بنظرة شك و ابتسمت .
سارت رايفن و صوفي بصمت ، لم يكن هناك ما يقال ، كن يعرفن جيدا ما الذي سيحدث ، شعرت رايفن بالامتنان لهذا التناغم بينها و بين صوفي رغم علاقتهما قصيرة العمر، و حتى لو لم يتوقف جسدها عن الارتعاش ، اعتقدت أنها بأمان ، ليست متورطة وحدها و إن وشت إحداهن فستنال ما يقع على الأخريات أيضا ، بينما فكرت صوفي في حل يجعل اللوم يقع على رايفن وحدها ، و كانت أوليفيا ستقف بصفها بعد خطاب عاطفي قصير و عزمت على الاتصال بها ما إن تفترق عن رايفن .
مضت الأيام و عُثر على آليس ميتة .
اطلعت رايفن على جميع الأخبار و التقارير ، رأت انهيار والد آليس أمام الكاميرا و هو الذي بدى رجلا باردا عديم الإحساس ، أصابها هوس بكل ما يُقال عن الحادثة و لم تستطع الخروج من المنزل ، كانت تتصل ليل نهار بصوفي و أوليفيا لكنهن لم يجبن أبدا ، رأت بعض الرسائل في مجموعة الطلاب ، كانت هناك ضجة و تساؤلات عن هوية هؤلاء الذين قابلوا الشرطة بعد نهاية الدوام ، ازدادت حالتها سوءا ، لم تعرها زوجة أبيها أي انتباه ، و لم يكن والدها يستحق لقب أب ، انعزلت و توقفت عن الأكل و الشرب ، أصبح الليل أسوأ ما تواجهه يوميا ، لا يزورها النوم و لا تغادرها الأحلام ، و كلما حل الظلام ، رأت خيالا لامرأة بيد واحدة تطرق النافذة .
أنت تقرأ
قصة بعد منتصف الليل
Mistério / Suspenseعشر قصص قصيرة. مزيج من الجرائم ، الاضطرابات النفسية و الرعب .