أومأت برأسها مطمئنة عندما استقبلتني.
كانت عيناها ذكيتان وأسنانها الخزفية البيضاء تطل بخجل عندما تتكلم .
مررت لسانها على أحمر شفاهها القرمزي وتنهدت .
قلت "أنا أعلم" يدي ترتجف الآن " تعتقدين أنني مجنونة ، لكن عليك أن تصدقيني ،لقد رأيت ذلك ! "
يأخذ صوتي نغمة عالية ، تضع يدها بهدوء على ركبتي ، كان هناك خاتم فضي براق على إصبعها ، وهو يحتك بساقي. شيء ما عنها يبدو مألوفًا بشكل غامض ، لكن لا أتذكر مقابلتها أبدًا.
أنا أسرع إلى استنتاج أنها لا تصدقني.
بعد توجيه ما يكفي من الاتهامات و تلقي ما يكفي من الاقتراحات للتحدث مع شخص ما ، تفترض أنك ستقضي بقية حياتك تبحث عن الشخص الذي سيصدق قصتك .
أما البقية ، سيهزون رؤسهم و يبتسمون ببرود و يتغاضون عنك .
مثل أصدقائي ، الذين لم يكلفوا نفسهم عناء زيارتي ، معظمهم أرسل بطاقات سخيفة بسعر رخيص .
حتى والدتي ، أرسلت زهورا مائية مزيفة في وعاء أزرق ، عليه كتابة منحنية تتمنى لي الشفاء العاجل .
لم تكتب أي ملاحظة ، وبدلاً من ذلك كتبت اسمها وقلبًا صغيرًا بجانبه.
التفكير في ذلك يجعل نوبات غضبي تتصاعد .
أنا لست مريضة ، شهدت على جريمة قتل ، لكن لا أحد يصدقني و هذا ما يجعلني أرغب في تمزيق شعري من الإحباط.
"ماذا كنت تفعلين وسط المدينة بعد حلول الظلام؟"
كان صوتها حلوًا كأنه محقون بالعسل.
جعلني أشعر أنها نحلة طنانة مستعدة للسع ، جاهزة للبحث عن الثغرات في ذاكرتي و أي تناقض فيما سأقول ،لكني أحفظ التفاصيل كاملة و كيف أنسى؟
أخذت نفسا عميقا قبل الانطلاق في تكرار نفس الكلمات للمرة الألف.
"دعتني صديقي شايلا إلى مطعم في وسط المدينة ، لم أرد أن أعلق في زحام السير و لذا ركبت الحافلة بدلا عن سيارتي و تناولنا العشاء".
أدير عيني نحوها فأجدها تدوّن بعض الأشياء على دفتر ملاحظاتها المبطّن .
كتابتها أنيقة، على عكس الصورة النمطية السيئة لخط يد الطبيب.
"ماذا تكتبين هناك يا دكتورة؟" أسأل ، ممسكة بجانب أريكتها الجلدية .
نظرت إليّ ، ودفعت نظارتها لأعلى لتمنعها من الانزلاق على أنفها.
"أنا أنصت إليك و أحاول أن أفهمك" تقول"وظيفتي ليست التقليل من شأنك يا دافني ، إنها معرفة ما رأيتِ."
"لكنك لا تصدقين أنني رأيت ذلك." الكلمات تركت شفتي بدون إذن.
" ليس لدي أدلة كافية لإصدار حكم حتى الآن، هذا اللقاء لا يزال مستمرا ، أليس كذلك؟ " تبتسم .
وعلى الرغم من أن الكلمات التي تغادر فمها تعزيني ، فإن شيئًا ما حولها يتركني على حافة الهاوية.
قدرتها على المجاملة مخيفة .
"نعم " أتذمر ، وأحرك ساقيَّ ،الأريكة غير مريحة وصلبة ، ويبدو من المستحيل الاسترخاء فيها ، ليس الأمر كما لو أنني هنا لأسترخي على أريكتي في نهاية يوم طويل.
أنا أتعامل مع الذكريات القاسية ، لذا فمن المناسب مناقشة المواضيع الصعبة على أرائك صلبة.
"أخبريني بما قلته للشرطة ، وكيف ردوا عليك." صوتها صارم الآن ، كأن هذا السؤال أهم من البقية.
أغمض عيني للحظة ، أحاول أن أتذكر ما يوجد وراء الرعب الذي يطمس ذاكرتي.
خرجت من الزقاق أبكي ، على ما أذكر ، سترتي مبللة بالمخاط و القيء ، أتعثر في الطريق الرئيسي ،أنارت أضواء الشوارع فوقي وأخذت تغمرني بإحساس كئيب ،بحلول ذلك الوقت ، كانت الشرطة قد وصلت ، سيارة واحدة.
كان أول رجل يقترب مني شابًا ،شاربه ضخم و حاد عند الأطراف ، قام بلعق إصبعه قبل أن يقلب الأوراق المثبتة في حافظته ، الأمر الذي كان غالبًا ما يستفزني ، لكنني كنت مذهولة جدًا لفعل أي شيء آخر غير التحديق.
"اسمك؟" سأل ، وهو يمضغ العلكة بصوت عالٍ مزعج ،نقر على قلمه مرتين قبل أن يؤكد قدرته على الكتابة.
أجبت: "دافني جوردن" وصوتي يرتعش ، لكن ليس من لدغة الريح الباردة.
صرخت "أنا ، هم فقط -" ، لم أكن قادرة على إنهاء جملتي.
كيف يمكنهم الحصول على معلومات من فتاة مخنوقة لا تستطيع الكلام؟
لم يبذل أي جهد لطمأنتي ، وبدلاً من ذلك ، أرشدني ضابط أكبر سنًا إلى السيارة من كتفي ، كانت يده لطيفة لكنها قوية ، ساعدتني في ركوب سيارة الشرطة.
في تلك اللحظة ، لم أهتم للآثار طويلة المدى للصدمة ، لم أكن أفكر في تحقيق الشرطة و فكرة عدم العثور على دليل لم تكن تخطر ببالي.
انشغلت أفكاري بشايلا و هي تموت .
راح ذهني يعرض صورا للسكين في يدي المهاجم و هي تلمع في ضوء القمر.
ضربتني الذكرى بموجة من القوة ، ومثل العديد من المرات التي رويت فيها هذه القصة، تسربت أحاسيس الماضي إلي من جديد .
أشعر أنني أنظر إلى نفسي من أعلى ، و لكني غير منفصلة عن الذكرى .
أتذكر جيدا صوت صراصير الليل والسيارات التي تمر ، و كم كانت تسريحة ذيل الحصان مؤلمة على فروة رأسي ، مشاعري ملموسة.
لا أتذكر أي شيء آخر حول حياتي بطريقة أفضل من هذه.
جذبتني شايلا إلى الزقاق ، يمكنني سماع صوتها الصاخب في ذهني ، يتردد صدى كلامها بين المباني الرديئة التي نمر بها .
"إنها مظلمة وقذرة ، لماذا نمر هنا؟" أسألها كلما ذهبنا أعمق ، و كلما ابتعدنا عن حماية إنارة الشوارع.
"لأن المسار أقصر ، يا حمقاء ، لا تقولي لي أنك تخافين من الظلام " صوتها مرح وخالٍ من الهموم .
أريد بشدة أن أمسكها وأديرها نحو الاتجاه الآخر ، لكن عقلي الحالي لا يتحكم في جسدي السابق.
أشاهدنا بلا حول ولا قوة ونحن نغمس أنفسنا في الظلام ، بينما تضيق رؤيتي حتى أن كل ما يمكنني رؤيته هو ضوء شبحي ينعكس على وجه شايلا.
"أنا لست كذلك ، إنه فقط لا أشعر -" لا يمكنني إنهاء الجملة أبدًا.
صرخة مريعة ، أسوأ من أي شيء سمعته من قبل ، تخرج منها بطريقة ما.
تستدير نحوي ، ملامحها مذعورة.
تمسك بي ، يائسة ، أصابعها لا ترقى أبدًا إلى حيث يمكنها ترك بصماتها .
تعكس الشفرة الفضية ضوء القمر البعيد قبل أن يتم دفعها إلى ظهرها ، أحاول و أفشل في حجب أصوات الغرغرة المؤلمة لآخر أنفاسها التي تسبب المزيد من الغثيان.
أركض كالريح ، أمسك بهاتفي الخلوي وأتصل بالشرطة و أنا ممتلئة بالأدرينالين ،أدفع رجلا متكئا على جدار أول متجر أصادفه وأتجاهل النظرات الفضولية.
لا أتوقف حتى أختبئ و أنتظر الشرطة بصمت .
يتلاشى الفلاش باك ، وأجد نفسي جامدة وأحدق بوقاحة في المعالجة لفترة طويلة .
مطت فمها في عبوس و نفد صبرها .
نظرت نحو الساعة المعلقة عدة مرات قبل أن تدرك أني فهمت تلميحها.
"ماذا قالت لك الشرطة بعد التحقيق؟"
تحدثت بسرعة ،لاحظت اللون في خديها.
هل هي متوترة؟ عيناها الزرقاوان تحدقان في وجهي باهتمام ، ونظراتها ترسل رعشات جليدية أسفل ظهري.
قلت بمرارة: "لم يجدوا أي شيء". "قالوا إن ذلك كان نوعا من الهلوسة ، وجعلوني أجري اختبار المخدرات."
"و هل كنت تتعاطين المخدرات؟" سؤال تعلم إجابته مسبقا ، مهما أنكرت ، تحليل دمي يقول الحقيقة .
أشعر أني عديمة الأهمية الآن و يتضاءل حضوري.
تميل إلى الأمام و تقترب مني .
الآن هي قريبة بما يكفي لكي أشم بقايا العلكة بنكهة النعناع في أنفاسها.
كسرت الهدوء "رأيت ما رأيت ،لم أتخيل ذلك ".
"لم تجد الشرطة شيئًا و لا أحد تعرف على صديقتك شايلا و لم يكن هناك أي أثر حقيقي لها ".
تتسع عيناها و هي تكتب بسرعة .
يمر القلم عبر الصفحة كما لو أنه يكتب من تلقاء نفسه.
لم تفعل الكثير خلال لقائنا من غير الكتابة.
"كنت تسخرين مني" أتمتم " أبلغتك الشرطة بالتقارير ، أليس كذلك؟ لماذا طلبت لقائي إذن؟ "
صبري ينفد ، أنا غاضبة من ردود فعلها الجافة.
رغم أني كنت قبل عشر دقائق فقط محرجة بسبب حلاوتها المفرطة.
أين ذهبت الطبيبة النفسية اللطيفة ؟
"شكرا على وقتك ، دافني" تحمل المفكرة الخاصة بها وتقف بسرعة .
"انتظري ، هذا كل شيء؟ هل ترفضين كلامي باعتباره هلوسة و أشياء من هذا القبيل؟ " كلماتي مختلطة ومرتبكة. "أليس من المفترض أن تساعديني؟"
تفتح الباب و تكاد تدفعني خارجا.
"لقد أصبتِ بالهلوسة ، وتعانين الآن من اضطراب ما بعد الصدمة ،أفضل علاج نتبعه هو الابتعاد عن أي شيء متعلق بهذه الذكرى والتظاهر بأنها لم تحدث أبدًا"
تتوقف ثم تنظر في عيني مباشرة بنبرة بدت مهددة أكثر منها مواسية " لأن ما رأيته يا دافني ، لم يكن حقيقيا "
كلماتها لاذعة. "حقا؟ كل هذه التفاصيل و تقولين أنني اختلقت الأمر؟ "
يرتجف صوتي مرة أخرى ، وأنا أحارب الرغبة في صفعها. أحتاج أن أفعل شيئًا ، وأن أركض ، وأطرد غضبي وأتوقف عن الشعور بالطاقة الجامحة التي تمر عبر عروقي ،المصحة تحتجزني كالسجين وتخنقني وهي تحاصرني داخل جدرانها الفولاذية.
لم تستجب ، وبدلاً من ذلك طلبت من إحدى الممرضات أن ترافقني إلى الساحة لأستنشق بعض الهواء المنعش.
ابتسامتها عذبة مرة أخرى ، مزاجية مثل شخصيتها تتأرجح و تتغير باستمرار.
يسيل إحساس بالوخز على ظهري ، ويمكنني أن أشعر بنظراتها تخترقني و أنا أمشي .
***
"دافني! لقد تأخر الوقت، هل كنت تنوين التسلل خارجا في الظلام ، يبدو أنني أمسك بك في الوقت المناسب" يأتي صوت أنثوي مفعم بالحيوية من جانبي ، مصحوبًا بصوت وقع أقدام على الإسمنت ، استدرت نحو المرأة ، وشعرت على الفور بالدفء.
سحبت شعرها إلى كعكة فوضوية وطلاء أظافرها متشقق قليلاً ،تضيء ابتسامة اعتذارية وجهها ، وهي تتقدم نحوي .
"هل أنت..." ألقي نظرة خاطفة عليها فأدرك أنها الطبيبة النفسية التي تحدثت إليها سابقًا .
أتساءل بصمت لماذا لم أتعرف عليها بسهولة.
تقف أمامي الآن و تحجب عني الأشجار التي كنت أتأملها.
" دكتورة يورك ، لكن يمكنك مناداتي هانا ، هل أنت ِ بخير؟" نظراتها قلقة حقًا ، أستطيع أن أرى انعكاس ملامحها على الوجه الحديدي لمقعدي .
وفجأة أتذكر لماذا شعرت أنها مألوفة بشكل غامض.
ظل في الليل ، يقف في الزقاق الضيق بين بنايتين ، ونظراته تخترق ذعري.
"يا إلهي ..." أصيح، وعندما أرفع نظري ،تختفي المرأة ذات أحمر الشفاه القرمزي مثل الشبح .
كما لو كانت موجودة فقط في مخيلتي ، لكنها كانت هناك ، وقد أثبتت لي بالضبط ما أحتاج إلى معرفته.
أنت تقرأ
قصة بعد منتصف الليل
Mystère / Thrillerعشر قصص قصيرة. مزيج من الجرائم ، الاضطرابات النفسية و الرعب .