أحيانا أتساءل من أين أتى كلُّ هذا الحزن؟ ومتى دبّت الكآبة في أوصالي؟ كلُّ ما أتذكره أنني وعيت عليها، وعيتُ على ارتداء حياتي ثوب العزاء، وعشت طوال عمري في حداد دون أن أعرف على من، فكانت التعاسة شبحًا يطوف في أركان عالمي، ويحفر في أتربته قبورًا وخسارات عدة، وما كان منّي سوى أن أنعاها بصمت جنائزي دون أن أعرف من دُفِن فيها قط.
كنتُ مثقلةً بالبؤس وكأنني أحمل على عاتقي كل عبوس اعترى محيا أحدهم يومًا، لكنني كلما أرحتُ رأسي على الوسادة، محاولة النبش في ذكرياتي عن ما قبل ذلك، والرجوع إلى الوقت الذي خلت دقائق أيامي فيه من الإضمحلال، أتعثر بمقتطفاتٍ لي هنا وهناك وأنا في الرابعة أو الثالثة وأحيانًا الثانية من عمري، حين لم يكن العالم الذي عشت فيه معتمًا بعد.. وكم بدت لي تلك السويعات القليلة التي تنفست فيها وكأنها مسروقةٌ من النعيم، فجميعها بيضاء ومشوشة وصافية، وكأنها تسجيلات مسربة من حياتي السابقة..
أيقنتُ حينها أننا لم نسقط من الجنة..
بل هي وُلدت فينا ومعنا، وعاشت في نبضات طفولتنا ثم ماتت راحلةً من دواخلنا حين كبرنا، وكأنها آثرت بذلك هجرنا قبل أن نفعل نحن.فلربما هروب الجنة من بواطننا هو الموت الذي أمضيت بقية حياتي ناعيةً إياه.