موتٌ يافِع

3 0 0
                                    

إن صدقتك القول يا عزيزي، فإنّي لأود أن أوقف حياتي هُنا.. لا أن أُنهيها بالضرورة، بل أن أجمّدها. فأنا لستُ مستعدةً لأن أتخرج بعد، لستُ مستعدةً للخروج من فقاعة المؤسسات التعليمية التي أوتني لإثنا عشرة عامًا، لستُ مستعدةً للتوقف عن اعتبار هموم الغد أمرًا بعيدًا عن متناول يدي، أمرًا ما يزال أمامه طريقٌ طويل للوصول إلي، أو التوقف عن الإلقاء بأقداري على عاتق الغد.. دون أن أواجهها أو أتفق معها على أي مسارٍ سأتخذه.

أريد أن أبقى هُناك.. تحت جناح الطفولة، لوقتٍ أطول فحسب. تحت ظلّها الذي يُتيح لك الحوم في أرجاء هذا العالم مجانًا وبخفاء، ذلك العمر الذي تُعفى فيه من عواقب أفعالك، ولا تدين لأحدهم فيه باللباقة أو الإعتذار، عمرٌ لم تعرف فيه ألسنتنا كيفية التملق بعد، فمن كان يدري أيُّ نعمةٍ تلك التي تكمن في عدم أخذ أحدهم لك على محمل الجدية، بل عدم أخذ الحياة بحد ذاتها لك على محمل الجدية! تضيع في زحام أيامها دون أن تتكبد تعلّم معانيها.

فكان العالم مُبهم المعالم.. لا أراه وإن فعلتُ لا أفهمه، يحدثُ أمامي ولا أكون فيه، يسير بي كمن يُحاوط سلةً بيده، لكنه لا يُعبّئها، ولا يُقحمها في مشاغله، قد يتلو لها بعضًا من أزماته، لكنه يُبقيها بعيدًا عن متناول الحياة، ويرمقها في كل حين وآخر بنظراتٍ متلهفة، وكأنه يتوعدها بكون هذه محض إجازةٍ مؤقتة، وأنه غدًا سيُحمّلها مثاقل النضج حتى تمتلئ وتطفح.

غريبٌ هو الأمس.. يُلقي عليكَ عباءةً تُخفيك عن أعين الوجود، تجعلك لا مرئيا.. فتداهمك حشود الناس في كل يومٍ ولا تراك، لكنها لا تدوس عليك أو تتخبط بك، بل تتخطاك، وتشعر بك بما يكفي لتتجاهلك. لذلك حين نولد كأطفال لا نكون أحياءً بعد، فنحن نولد مرتان في هذا العالم.. في الأولى نُشاهده، وفي الثانية نعيشه. وأنا لا أريد أن أُغادر أحضان هذا الموت اليافع بعد.. أوليس من التعيس أن نخسر القدرة عن إخفاء قصر قامتنا وراء جثة أمنا كلما سأل أحدهم عن اسمنا؟ أن لا نتمكن من ردع تلك البادرات الفضولية، التي تكشف عن وجودنا أمام مرأى الجميع؟ أن نكتفي بالحصول على مولدٍ واحدٍ فحسب؟ ‏لكنني تأخرت بالفعل على مولدي الثاني، مُتمرّدة على تيار زمانه.. سابحةً عكس نهره، مُصرةً على أنه أتى أبكر مما ينبغي، فها أنا ذا أجول بين الناضجين كطفلٍ حائر. 

وفي خضم ادّاعاءاتي هذه حين أشكو.. ثمة مُبرِّرٌ قد يعلل لك تعلقي الشديد بما آن أوان رحيله. إذ أنّ الزمان لطالما كان أسرع منّي دومًا بخطوتين، فكانت أيامي تجيء وتذهب دون أن أعيشها إلا مُتأخّرًا.. غشيمٌة عن متى بدأت وكيف انتهت، لقد اعتدتُ أن أؤجل مباهج حياتي إلى الغد..  حتى أصبحت سنين عمري أمرًا مستقبليًا، أسمع عنه ولا أراه، فأشعر كما لو أن حياتي تكبرني بعدة سنوات، وكأن جسدي يشيخ في كل عامٍ مرّّة وروحي لا تنضج، وكأنني في سباقٍ أبدي مع عمري.. لا ألحق بسنينه ظافرةً لكنني لا أتكبد خسارةً تُعجزني عن الركض في أيامه.

جَنازَتيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن