دموع (4)
صدى خريرِ الحزنِ عمَّ المكان، ارتسمَ الشجنُ على وجوهِ الجميع؛ لفقدهم العمّةَ، لقد كانتْ ذات شخصيةٍ حكيمةٍ، قوية، حنونة، محبوبة، ومحطَّ ثقةِ الكثيرِ من المُقربين منها..
عادتْ دموعٌ مع زوجِ عمّتِها وهي تنظرُ إلى كُلِّ جزءٍ من البيت، هُنا في هذا المكانِ جلستْ.. هنا نامتْ.. هُنا علا صوتُ ضحكاتهم.. هنا سقطتْ دموعُهم حُزنًا، حتى خلف الأبوابِ العتيقةِ تُحلِّقُ ذكرياتُها..
كانتِ الأُمَّ والأبَ اللذين فقدتهما، كهفَها الذي التجأتْ إليه، هَوَتْ على فراشها، تشمُّ أريجَ عطرِ عمّتِها المُميّز، فاضتْ عينُها بالدموعِ الحارقة، وأغرقتْ وسادتها، لم تعُدْ تقوى على النوحِ ولا الحراكِ كأنّها فارقتْ قلبَها النابض.
- لماذا رحلتِ يا عمّتي قبلَ الأوان؟
أمّا زوجُ عمّتِها فلم يكنْ أفضلَ حالٍ منها، لقد كانتْ له زوجةً مُخلصة، عاشَ معها أجملَ لحظاتِ حياته، ولم تتخلَّ عنه رغمَ أنّها كانتْ تعلمُ بأنّه من المستحيلِ أنْ يكونَ لهما طفل؛ لأنّ الأطباءَ جميعَهم أخبروها أنّه عقيم.
أعدَّ العشاء، جلسَ بقُربِ دموع ووضعه على المائدة، رفضتْ أنْ تأكل، أصرَّ عليها، أخذَ قطعةً من رغيفِ الخبز ووضعَ فيه قطعًا من الدجاجِ المُتبّلِ ووضعه في فمِها، وبينما كانا يأكلان رنَّ جرسُ الباب، ذهبَ العمُّ ليفتحَ الباب..
سمعتْ دموع صوتَ شجارٍ بينَ زوجِ عمّتِها وصوتِ رجلٍ لا تعرفه، لكنّها لم تسمعْ ما دارَ بينهما، وبعدَ فترةٍ دخلَ العمُّ سألته بصوتٍ يرتجفُ من القلق:
- ماذا حدثَ يا عمّي؟
- لا شيءَ يا ابنتي.
سكتَ هنيئةً ثم قال:
- لكن هناك خبرٌ سيُفرِحُكِ.
- ما هو يا عمّي؟
- سيأتي وسامٌ للعيشِ معنا.
- حقًّا؟
- نعم يا ابنتي.
فرحتْ دموع؛ فلقد أحبّتْ أخاها لأنّه كانَ البوابةَ التي تطلُّ على عائلتِها المجهولة، لم يبقَ لها في الدنيا سواه.
كان لقاؤها بوسامٍ أشبهَ بسمكةٍ عادتْ إلى الماء بعدَ أنْ كادتْ تلفظ أنفاسَها الأخيرة، احتضنته وبكيا طويلًا، فلم يكُنْ هناك داعٍ للكلام؛ فكلاهما كانَ يشعرُ بألمِ الآخر.
- أختي لن أجعلَ أحدًا يؤذيكِ مهما كان.
- شكرًا يا أخي..
وسام أريدُ أنْ أطلبَ منكَ طلبًا.
- اطلبي يا دموع.
- أريدُ أنْ أكتبَ رسالةً ﻷبي.
ارتبكَ وسامٌ ونظرَ إلى زوجِ عمّته الذي كانَ يقفُ أمامَه ويُحدِّقُ بهما ودموعُه تنهمرُ في أخدودِ تجاعيدِ وجهه، لما يدورُ من حوارٍ بينهما.
أشارَ إلى وسامٍ بالموافقة.
- حسنًا.. اكتبي يا أختي، وسأرسلها إلى أبي.
أمّا ما حدثَ للعمّ عندما فتحَ البابَ ومع من كانَ يتحدّث...
- من.
- أنا أبو عصام.
- كيفَ حالك؟
- بخير.
- سأرسلُ أحدًا غدًا ليأخذها إلى إحدى أقاربِنا لتعيشَ معهم.
- ماذا؟
ألم توصيكَ أختك بأنْ تعيشَ معكم.
- نعم.. ولكن ليس الآن.
أجابه العم بصوتٍ مُرتفع:
- لن أعطيك ابنتي لتربّيها في بيوتِ الغُرباء، لقد أوصتني زوجتي إنْ لم تأخذْها أنت لا أعطيها لأحدٍ مهما حدثَ؛ فأنا أبوها، وأنا من سيرعاها إلى أنْ أفارقَ الحياة.
- ليسَ من حقِّك.
- ماذا؟
أصبحتَ تتحدّثُ بالحقوقِ!
وهل من حقِّك أنْ تتركَ ابنتك وتبعدَها عن أمِّها طوالَ هذه السنين؟!
- اسمعْ أنت رجلٌ كبيرُ السنِّ، وأنا لا أريدُ أنْ أؤذيك، فأنتَ تعلمُ كم أُقدِّرُك وأحترمُك، لكنَّ كلامَ الناسِ لن يرحمك فإنّها ليستِ ابنتك ولا يُمكِنُ أنْ تعيشَ معك بعدَ الآن..
فرّتْ دموعُ العمِّ بلا اختيارٍ من عينيه المُتعبتين.
- الآنَ فكّرتَ بكلامِ الناس؟!
أتعتقدُ أنَّ الناسَ لم يتحدّثوا عنك في الفترةِ الماضية؟!
أرجوك لم يعُدْ لي أحدٌ في هذه الدنيا غيرها.
إنْ لم ترعها أنتَ فسأرعاها أنا..
تعاطفَ أبو عصامٍ مع العمِّ...
- حسنًا.. سأرسلُ وسامًا يأتي ليعيشَ معكما؛ لأنّي أعلمُ أنّه يُحِبُّها ولكنّي سآخذها في الوقتِ المُناسب.
- شكرًا لك على كُلِّ حالٍ.
هذا سيُفرِحُ زوجتي المرحومةَ..
أتمنّى أنْ أموتَ قبلَ أنْ تأخذَ ابنتي منّي.
ثم ودّعَه ورحل..
يتبع...
#بقلمي
#نرجسةالزمان
قناة التليغرام:
✅ https://t.me/turathalanbiaa_alkafeelblogصفحة الفيس بوك:
✅ facebook.com/alkafeelblogحساب الانستغرام:
✅ https://www.instagram.com/alkafeelblog/