2. الوفاق الوهمي

405 10 0
                                    


لحقت به الى السيارة , وهي لا تزال متضايقة جدا من سرعة وسهولة تقبّله رفضها القاطع والجازم لأقتراحه بأجراء مصالحة صورية مؤقتة , وما أن خرجت من الظل حتى شعرت بأن الضوء الساطع يكاد يعمي أبصارها والحرارة تلسع جسمها.
أستدار بيار حول السيارة ليفتح باب السائق ويجلس وراء المقود , فقررت أيلاين أغتنام الفرصة والتخلص من جوربيها الطويلين الممزقين , تأكدت من عدم وجود أي سيارة أخرى على الطريق , ثم رفعت فستانها وخلعت الجوارب بخفة ورشاقة.
" هل أصبحت مستعدة الآن للذهاب؟".
رفعت رأسها نحوه بحدة وأنفعال بالغين , لأدراكها أنه كان يراقبها ,وقالت:
"سأكون مستعدة عندما أنتهي من تسريح شعري".
" يمكننا القيام بذلك ونحن في طريقنا الى القصر, أذ يكفينا التأخير الذي حصل حتى الآن , ستظن أمي أننا تعرضنا لحادث, أو وقعنا في مشكلة".

تحمست للرد عليه بأنها ليست مسؤولة عن التأخير , وبأنها غير مهتمة أطلاقا بقلق أمه أو عدم قلقها ,ولكن نظرة واحدة الى عينيه القاسيتين أقنعتها بعدم جدوى هذه المحاولة ,جلست قربه بأنزعاج شديد, وبخاصة عندما تذكرت المرات القليلة التي تخاصما فيها خلال الأشهر الأربعة لوجودهما معا , قد يتصور الكثيرون أن البريطانية باردة هادئة والفرنسي أنفعالي حاد الطباع , ولكن تصرفاتهما بدت عكس ذلك تماما , كان يدعها تصب جام غضبها عليه , دون أزعاج نفسه حتى بالرد عليها , وما أن تنتهي من هجومها , أو تتوقف لحظة لألتقاط أنفاسها ,حتى كان يقول لها كلاما هادئا ومنطقيا عن موضوع مختلف, لم يبال مرة بالدفاع عن نفسه أو بمهاجمتها ,وكان يجعلها تشعر دائما بأنها أرهقت أعصابها وصوتها ... دون فائدة , وعندما أدركت أنها غير قادرة على أغضابه , أو حتى على جرّه الى أي مشادة كلامية , بدأت تخاف منه الى حد ما.
أخرجت مرآة صغيرة من حقيبة اليد الصغيرة , فهالها منظرها الكئيب المرعب , لا , لن تسمح لمارجريت سان فيران برؤيتها على هذا النحو المزعج! تناست أنفعالها وأرتباكها ,وركزت كافةأهتمامها على تجميل نفسها بالقدر الذي تسمح به المستحضرات القليلة الموجودة معها.
نزلت من السيارة في باحة القصر, وهي تشعر ببعض الأرتياح النفسي والمعنوي , فها هي في كامل أناقتها وزينتها , وها هي رائحة الورود العطرة تعبق في أجواء القصر الجميل ... الذي تحبه منذ طفولتها, فتحت بوابة القصر على مصراعيها , وخرج منها رجل أشيب الشعر تغطى نصف وجهه الذي يضج صحة وعافية أبتسامة عريضة صادقة

أقترب منها جاك وهو كبير الخدم في قصر شامبورتن منذ سنوات عديدة
ورحب بها قائلا:
" أسعد الله أوقاتك يا سيدتي , وأهلا وسهلا بك , كنا بدأنا نظن بأن شيئا أعاق وصولك ,دعني أحمل الحقيبة عنك , يا سيد بيار , سآخذها الى غرفتك, يا سيدتي , السيدة سان فيران موجودة في قاعة الأستقبال , وأبلغتني بأنها تود مقابلتك فور وصولك".
دخلت القصر , فأحست كأنها تدخل عالما آخر .... وكأنما هذه الجدران التي تحمي القصر من الحرارة الشديدة , تحميه أيضا من ضجيج العصر الحديث وضوضائه , شقت طريقها بسهولة نحو قاعة الأستقبال , وهي تشعر بأن بيار وراءها.
لدى دخولها القاعة الكبيرة ,أستدارت نحوها السيدة المسنة الهادئة التي كانت واقفة أمام أحدى النوافذ ....
وفتحت ذراعيها قائلة:
"أيلاين , حبيبتي, أهلا بك".
طوقتها الذراعان النحيلتان , فأحست أيلاين بالدموع تحرق عينيها , هذا هو أحد الأمور الذي لم يتغير او يتبدل أبدا.... طريقة ترحيب مارغريت بها, بحرارة وأخلاص , أبعدتها السيدة المسنة عنها قليلا لتتمكن من تأملها بعينيها الزرقاوين الجميلتين , اللتين أورثتهما لأبنها
ثم قالت لها بلهفة وهي لا تزال ممسك بكتفيها:
"كم أنت نحيلة وشاحبة الوجه , وكم تبدين متعبة ومرهقة أيضا! ولكننا سنغير كل هذه الأشياء قريبا بطعامنا الجيد وطبيعتنا الجميلة الدافئة , لقد حان وقت عودتك الى البيت , يا عزيزتي , لتتنشقي الهواء النقي وتتمتعي بحرارة الشمس , أشتقنا لك يا أيلاين ".
ثم نظرت الى أبنها الواقف وراء زوجته ,وسألته بهدوء:
" هل تحدثت معها , يا بيار؟".
أجابها ببرودة وأيجاز:
" نعم , تحدثنا ".
تطلعت اليه والى ايلاين مستفسرة , ثم سألته:
" والنتيجة؟".
" النتيجة أنها لا تزال عنيدة ومعاكسة كما نعرفها".
ثم أستدار نحو الباب قائلا :
" أعذراني الآن , لأنني مضطر للذهاب".
نادته أمه بصوت هادىء:
"أنتظر يا بيار , يريد أرمون رؤيتكما أنت وأيلاين معا في وقت لاحق , سوف يستيقظ في وقت لاحق , سوف يستيقظ على الأرجح حوالي الخامسة والنصف , فأرجوك أن تحضر الى غرفته في ذلك الموعد".
هز رأسه موافقا , وغادر القاعة , تطلعت مارجريت حولها
ثم قالت لأيلاين وهي تشير الى قطع الأثاث الأنيقة النادرة:
" ألا تعتقدين أنه من الأفضل لنا شرب الشاي في مكان لا يغلب عليه طابع الجدية والرسميات كهذه القاعة ؟ هيا بنا الى غرفة المكتبة".
سارتا في ممر طويل بأتجاه قاعة الدخول , ثم تحولتا نحو غرفة أصغر حجما تضم مجموعة كبيرة من الكتب القيمة وعددا لا بأس به من القطع والتحف الرائعة التي جمعها رامون سان فيران خلال جولاته الخارجية المتعددة , أنها الغرفة التي كانت أيلاين تفضلها دائما , بسبب الجو العائلي الدافىء الذي يخيم عليها , كل شيء يعجبها هنا... المقاعد الوثيرة المريحة , الكتب الموسيقى , واللوحات الفنية التي تغطي معظم الجدران.... والتي رسمها الفنان الموهوب والمرهف الأحاسيس أرمون سان فيران في شبابه , تفاعلت في نفسها مشاعر العودة الى .....البيت , على الرغم من تناقضها مع مشاعر الأزدراء التي تكنها لبيار.
جلست في نفس المكان الذي كانت تختاره دائما, وراحت تتأمل الطاولة الخشبية الرائعة التي أحضرها أرمون قبل سنوات عديدة من الهند , وما هي ألا لحظات وجيزة ,حتى دخلت خادمة شابة ووضعت صينية الشاي على تلك الطاولة , قالت مارجريت للخادمة
التي أبتسمت لأيلاين بتهذيب وأحترام:
" ماري, هذه هي السيدة دوروشيه , أذهبي الآن الى الغرفة التي ستنام فيها , وأخرجب ثيابها من الحقيبة ثم علقيها في خزانة الملابس :
" سمعا وطاعة , يا سيدتي".
فتحت مارجريت غطاء الأبريق الفضي الأنيق وهزت رأسها بشيء من الحدة قائلة:
" آمل في أن يكون الماء حارا بشكل كاف , لم يعد بأمكاننا هذه الأيام الحصول على خدم يبقون معنا لفترة طويلة , عيّنت ماري لمجرد أنها أبنة أحد العمال , فهي ليست ذكية أبدا ,ولديها ذاكرة ضعيفة للغاية , لم نشرب الشاي منذ ذهابك ,ولكنني أعلم أنك تحبينه في مثل هذا الوقت من النهار ... تماما كجدتك , هل أضع لك , كالعادة, قليلا من الحليب؟".
" نعم , شكرا".
صبت لها الشاي وأضافت اليه الكمية المطلوبة من الحليب , ثم سألتها وهي تعطيها الفنجان:
"أخبريني الآن عما كنت تفعلين في لندن, طوال هذه الأشهر التسعة؟".
" أفضّل أن تخبريني أنت عن الخال أرمون , أخبرني بيار أن حالته تحسنت بعض الشيء".
"نعم , هذا صحيح, فهو أقل كآبة وحزنا عما كان عليه خلال الأشهر القليلة الماضية , آه لو رأيت كيف أنفرجت أساريره ولمعت عيناه بهجة وأرتياحا , عندما قرأت له رسالتك عن موعد مجيئك وأحتمال مصالحتك مع بيار , كان ذلك النبأ السار كافيا جيدا لرفع معنوياته , وتحسين أوضاعه بشكل ملفت للنظر , لقد قلق كثيرا لأجلك ,يا أيلاين , فهو يشعر بأنه كان من واجبه التدخل لتأخير زواجك بعض الشيء , كي يعتاد كل منكما على الآخر , ويشعر أيضا بأنه لم يساعدك بما فيه الكفاية , للتأقلم مع طبيعة الحياة في الريف , بأختصار , يعتبر أرمون نفسه مسؤولا الى حد كبير عن مغادرتك شامبورتن".
أحتجت أيلاين على ذلك بالقول:
" لا! يجب ألا يقلق أبدا , فالأمر لم يكن متعلقا به!".
"ستقولين له ذلك بنفسك , وعندما يكون هذا التأكيد صادرا عنك شخصيا , سيشعر بمزيد من الراحة النفسية , سنذهب اليه بعد قليل ومعنا بيار , ليحس بأن الماضي مضى والأمور عادت الى طبيعتها".
وجهت اليها مارجريت نظرة فاحصة , ثم مضت الى القول:
" لا تخيبي أملي , يا عزيزتي ... أرجوك! فسعادته تعتمد كثيرا على تأكده من أنكما ستعيشان هنا بعد وفاته بسعادة وهناء , مع بعضكما ... ومع أولادكما , ثم... أليس من العدل والأنصاف أيضا أن يموت أنسان طيب حنون مثل أرمون , قرير العين مرتاح الباب؟".
"نعم ... طبعا , ولكن بيار وأنا........".
" أوه , أعرف أنكما تواجهان بعض المشاكل , ولكن, هل ثمة زواج لا يواجه عددا من المصاعب والعراقيل في سنواته الأولى ... وبخاصة عندما يكون الزوجان من بيئتين وطبيعتين مختلفتين مثلكما؟ أنا خبرت جزءا من هذه المشكلة بنفسي , فزوجي الآول جان , كان فلاحا ملتصقا بالأرض والتربة , كان رجلا بسيطا في ذوقه وعاداته وقويا كالصخرة التي تحمل عائلته أسمها , في حين كنت أنا من الطبقة
المتوسطة في أعلى درجاتها الأجتماعية , كان والدي أستاذا ناجحا ,ووالدتي أبنة عائلة من التجار المرموقين , هل تريدين مزيدا من الشاي؟ قطعة حلوى ؟ هيا , هيا , أيتها العزيزة , يجب زيادة وزنك قليلا , أعتقد أنك كنت تتضورين جوعا في لندن".
وضعت أيلاين فنجانها على الطاولة وهي تقول:
" لا , شكرا أيتها السيدة ... الخالة مارجريت.... أوه, لم أعرف أبدا كيف يتحتم علي مناداتك".
أبتسمت السيدة المسنة , وقالت:
" أفضل كلمة خالتي أكثر من أي شيء آخر , فمنذ كانت جدتك تحضرك الى هنا ,وأنا أشعر نحوك كخالة حقيقية وليس كزوجة خال والدك ,ماذا كنت تودين قوله, أيتها العزيزة؟".
" أرتكبت خطأ كبيرا , يا .... خالتي مارجريت , عندما قرأت رسالتي للخال أرمون".
" حقا؟ هل أخطأت في قراءة موعد وصولك الى المطار؟ هل وصلت الطائرة بعد الموعد الذي كنت أتصوره؟ ألهذا السبب تأخرتما ؟ أوه , كم شعرت بالقلق عليكما! يا للأفكار السوداء التي أزعجتني وأرعبتني ! تصورت أنكما تعرضتما لحادث بسبب تهور بيار في القيادة , وأنك أصبت ولم يعد بأمكانك الحضور الى هنا! لا شك في أن ذلك كان سيقضي بالتأكيد على أرمون ,ويودي بحياته!".
"لا , لم يكن التأخير نتيجة ذلك , فقد وصلت الطائرة في موعدها المقرر ,ولكنني لم أجد أحدا بأنتظاري بسبب تأخر بيار بعض الوقت , أستأجرت سيارة وقدتها بنفسي , ولم يلحق بي بيار ألا في القرية ببضعة كيلومترات , الموضوع هو...".

روايات عبير/ احلام - أطياف بلا وجوهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن