3. الطريق طويل وصعب

373 11 0
                                    


أستيقظت أيلاين في وقت مبكر من صباح اليوم التالي , فتأكد لها قبل أن تفتح عينيها أنها موجودة في شامبورتن ...وفي جناح البرج بالذات...وذلك بمجرد سماعها هديل الحَمْام.
خدعها عقلها في تلك اللحظة الوجيزة من السرور والأبتهاج , فشعرت وكأن فترة أنفصالها عن بيار لمدة تسعة أشهر كاملة لم تحدث أطلاقا ... وأقنعت نفسها بأنها متزوجة منذ أربعة أشهر فقط ولا تزال غارقة في الحب حتى أذنيها , أبتسمت بأرتياح وسعادة , ثم حركت رجليها ومدت ذراعها لتطوق .... حبيبها!
أنتشلتها ملامسة الفراغ البارد من أحلام اليقظة , وأعادتها الى عالم الواقعية ... والمرارة ,فتحت عينيها وتطلعت نحو الجزء الآخر من االوسادة , فأدركت أنها وحدها طوال الليل! أغمضت عينيها الحزينتين بسرعة , للتخفيف من الآلام الناجمة عن خيبة الأمل العنيفة التي عصفت بها , كيف يمكنها تحمل هذا العذاب أياما وربما أسابيع؟ هل ستكون قادرة على السكن مع بيار تحت سقف واحد ,وتظل متحفظة عاطفيا أتجاهه ؟ كيف ستستيقظ في هذا السرير كل صباح , دون أن تتذكر عشرات المرات الأخرى التي كانت تجده فيها مستلقيا قربها بدفء وأرتياح ... وهي سعيدة بالسجن الذي بنته بحبها له؟
لماذا كل هذا الأهتمام والمبالاة به؟ لماذا تشعر كلما رأته أو سمعته بالحزن والأسى ؟ ألأن الحب الذي أقسما على أبقائه حيا ومشتعلا حتى يفرق الموت بينهما , لم يكن على ما يبدو موجودا منذ البداية؟
أذا أحبها فعلا , فمن المؤكد أنه لم يكن ليقدم على الخيانة الزوجية التي تدعي سولانج حصولها .لو أنه يحبها حقا , لما كان أمضى الليل مع سولانج في شقتها مرات عديدة ... كلما كان مفترضا به القيام برحلة عمل الى المنطقة التي تعيش فيها!
برزت صورة سولانج فجأة على شاشة خيالها وتفكيرها , فشاهدت أيلاين تلك المرأة الطويلة القامة النحيلة الجسم تنظر اليها بعينيها السوداوين الكبيرتين.....وتهز رأسها , سولانج فنانة في الثالثة والثلاثين من عمرها ,وتعرف بيتر منذ سن المراهقة , قالت لها مرة أنها كانت عائدة من أحدى جزر البحر الكاريبي حيث أمضت سنة كاملة في أعداد اللوحات الفنية , حين قررت زيارة شامبورتن لرؤية ..........حبيبها القديم.
وتذكرت أيلاين أن تلك الزيارة تمت بعد مرور أسبوع واحد على زواجهما , وقد بدا أن سولانج فوجئت بالأمر , أعترفت لها آنذاك بأنها لا تميل كثيرا الى فكرة الزواج ,وتفضل البقاء حرة طليقة ...
مضيفة بغنج ودلال:
" لماذا يزعج أي أنسان نفسه بالزواج , أن لم يكن ذلك بهدف الأولاد... أو تحقيق مكاسب مادية؟".
تضايقت أيلاين الى حد كبير في ذلك الوقت, ولكنها نسيت سولانج وأفكارها الغريبة بمجرد مرور بضعة أيتم على مغادرتها شامبورتن , كانت سعيدة جدا مع زوجها وحبيبها ,بحيث أنها لم تهتم أطلاقا بما حدث قبل زواجهما....ولم يخطر ببالها أبدا أنه يستغل المناسبات القليلة خارج شامبورتن لأهداف لا علاقة لها بعمله.
ذهبت أيلاين في أحد أيام الخريف الباردة الى بلدة أنجولام , لشراء بعض الحاجيات المنزلية الضرورية , أنهمر المطر فجأة , فدخلت متحف البلدة الذي كان في الماضي قصر الأسقف..........وألتقت سولانج , حيّتها الفنانة الفرنسية بمدة ظاهرة ,وعرضت عليها القيام بدور الدليل لتشرح لها عن المنحوتات الأفريقية التي كانت معروضة هناك ,وبعد الجولة القصيرة داخل المتحف , دعتها لزيارة محترفها القريب... قبلت أيلاين الدعوة دون تردد , تكررت زيارات المحترف الجميل مرات عديدة خلال الأسابيع الثلاثة التالية.........
تململت أيلاين في سريرها وهي تتذكر الزيارات ,وتمنت لو أنها لم تكن بريئة وغبية الى تلك الدرجة , فلو لم تتكر المقابلات , التي أدت الأحاديث خلالها الى أثارة شكوكها بالنسبة الى بيار , لما كانت الأمور ساءت على ذلك النحو وأرغمتها على التخلي عن زوجها , فبغض النظر عن الكيفية التي كانت تبدأ فيها احاديثهما العامة في ذلك المحترف اللعين , ألا أنها كانت تتحول دائما الى بيار ......الى مدى تعلق سولانج به أثناء فترتي المراهقة والشباب ...الى الأجازات الأسبوعية المتعدة التي كانا يمضيانها معا ... والى التلميحات الواضحة طوال الوقت بأن العلاقة بينهما لم تكن بريئة أو سطحية وتذكرت أيلاين بأنزعاج بالغ حوارا معينا , أثار أعصابها وقضّ مضجعها , قالت لها سولانج
وهي تهز كتفيها:
" أوه , أنا أعرف تماما أنني لم أكن الفتاة الوحيدة في حياته... ولكنه كان يعود الي دائما , وحتى مع زواجه الآن...".
وضعت يدها فجأة على فمها , ثم أضافت بصوت منخفض :
" رباه, ماذا أقول؟ أنني أنسى بأستمرار".
"ماذا تنسين, يا سولانج؟".
" أنسى أنك زوجته , أنت صغيرة وبريئة جدا , بحيث أجد صعوبة في تخيلك مع رجل قاس ومحنك مثل بيار , يمكنني تصورك بسهولة أكبر مع شاب طيب طري العود مثلك ......شاب بريطاني أشقر الشعر أزرق العينين يمسك يدك ويأخذك الى حفلة راقصة ويضحك بفرح وزهو كلما طوقك بذراعيه, أوه , أيلاين , لماذا تزوجت بيار؟".
"لأنني أحبه, يا عزيزتي".
لمعت عينا سولانج ببريق غريب أشبه بالشفقة الهازئة , أو التأثر الساخر , وقالت:
" طبعا , طبعا , أنت شابة رومنطقية تؤمنين بالحب , وتعتقدين أنه تزوجك لسبب مماثل ,ولكن زواج أبناء العائلات الميسورة أو الثرية كان , حتى نصف قرن مضى , يتم بموجب ترتيبات أجتماعية أو مادية معينة , لم يكن للحب أي مكان داخل هذه الترتيبات , ألا أذا لعب الحظ دورا كبيرا في حياة الزوجين وتعلما كيف يحبان بعضهما بصدق وأخلاص , أما في أيامنا هذه , فأحتمالات زواج العاشقين من بعضهما متاحة بشكل أوسع وأفضل,ولكن بيار......سيورث الكثير عن أمه مارجريت دوروشيه".
" لا أفهم ماذا تعنين بهذا الكلام؟".
"حالت الظروف الأجتماعية والعقلية الطبقية المتحجرة دون زواج مارجريت من أرمون سان فيران , فأقدمت على أفضل خطوة بديلة , تزوجت من جان دوروشيه, الشاب القوي الذكي الطموح الذي يعمل في خدمة سيد القصر , كان جميع الناس هنا يعرفون أن مارجريت لم تتزوج جان بدافع حبها له , بل لتتواجد قرب رامون بصورة دائمة تقريبا وتصبح قادرة على التحكم بالقصر .....وبمن فيه , وعندما مات زوجها , تزوجت أبن الخامسة والستين وحققت حلمها القديم بحمل أسم سان فيران".
" أذا أقدمت مارجريت على الزواج بدافع المصلحة ولتحقيق مكاسب أجتماعية أو مادية , فهذا لا يعني أن بيار تزوجني أنا بدوافع مماثلة , لم يعد الناس هكذا في عصرنا الحالي , يا سولانج".
" يا لك من فتاة ساذجة! لا شك أن بيار وجد سهولة فائقة في أغرائك وأغوائك , أستغل سحره وجاذبيته , وخبرته الطويلة في الأثارة , فأقتنعت بأنه يحبك , أختلط عليك الأمر , كمعظم الصغيرات السخيفات مثلك , فلم تعرفي الفرق بين الحب الحقيقي والمشوة الآنية".
تذكرت أيلاين مدى الصدمة التي أصابتها لدى سماعها تلك الكلمات الجارحة في صراحتها
وكيف تحاملت على نفسها للأحتجاج مرة أخرى بالقول:
" ما هي المكاسب التي يمكنه تحقيقها من زواجه مني ؟ أنا فتاة عادية لا تملك جاها أو ثروة".
" هذا صحيح في الوقت الراهن ,ولكن المستقبل القريب قد يحمل لك الكثير , فأنت , بالنسبة لأرمون , الأنسان الوحيد الذي يحق له وراثة شامبورتن بعد وفاته...نظرا لروابط الدم , لا أستبعد أبدا أن تكون مارجريت أحست بهذا الأمر , وشجعت أبنها على الزواج منك , ولا أشك كثيرا أنها أقنعت أرمون بذلك , على أساس أن بيار هو أبن زوجته والمرشح الأمثل لمشاركة حفيدة شقيقته في وراثة شامبورتن ... بخاصة لأن الفتاة التي يعتبرها كأبنته تحب بيار! "
 " أوه , يا له من كلام سخيف وتافه! من أين أتتك هذه الفكرة الجهنمية المذهلة ؟".
" من أين يا عزيزتي ؟! من بيار ذاته, من زوجك.......وحبيبك , هل تظنين أن الزواج كان سيتم بينكما , لو لم يوافق أرمون على شرط بيار بتغيير وصيته وجعله الوريث المشارك؟".
" لا, لا أصدقك أبدا ! لم يتزوجني بيار ألا لأنه يحبني , أنا متأكدة من ذلك".
"حقا ؟ أسأليه أذن عن سبب حضوره الى هنا , أسأليه عن الليالي العديدة التي أمضاها معي في هذه الشقة بالذات , منذ عودتي الى فرنسا , أسأليه لماذا كان هنا الليلة الماضية , ولماذا ترك قفازيه وقداحته ,هل تصرين بعد الآن , على الأعتقاد بأنه تزوجك بدافع الحب؟ أنا أعرف أنه لم يفعل ذلك , فهو أنسان هادىء عملي يخطط للمستقبل البعيد بحكمة وذكاء ... مثل أمه ,كان يتطلع قدما لزواج ملائم يحسن أوضاعه الأجتماعية والمالية , ووجد فيك الضحية المناسبة , أما بالنسبة للحب , فهو يحبني أنا دون سواي , لقد أحبني دائما , وسيظل يحبني حتى.....".
لم تنتظر أيلاين سماع بقية تلك الجملة التي قلبت حياتها رأسا على عقب, أذ أنها خرجت بسرعة من المحترف الواقع على سطح بناية عالية ونزلت راكضة على درجاتها المئة كشخص فقد عقله.....وليس قلبه فقط.
رمت بنفسها وراء مقود السيارة التي أخذتها من خالها أرمون للحضور الى هذه البلدة , وحاولت جاهدة السيطرة على أرتجاف جسمها الناجم عن الصدمة القوية التي أنزلتها بها سولانج , ولكن وقع المصيبة كان كبيرا جدا, بحيث أنها لم تنتبه الى ما يجري حولها ألا بعد حلول الظلام.
غادرت البلدة المشؤومة , وهي تشعر بوحدة قاتلة وعذاب لا يقاوم ,وفي الطريق أحست بأنها غير قادرة على العودة الى شامبورتن , توجهت الى بواتيه , فوصلتها منهكة القوى ومرهقة الأعصاب , أخذت غرفة في أحد الفنادق الصغيرة , ولكنها ظلت مستيقظة طوال الليل... لا تعرف كيف تحد من ألمها وغيظها.
قادت سيارة خالها صباح اليوم التالي الى أقرب محطة وقود , ثم أستقلت أول قطار متجه الى باريس ,ومن العاصمة البعيدة, التي لا يمكن لأحد في منطقة شامبورتن أو المقاطعات المجاورة الوصول اليها بسرعة , أتصلت بالقصر وطلبت من جاك أبلاغ بيار لدى عودته بأنها ذاهبة الى لندن لزيارة أبن عم والدها.......وسوف تكتب له من هناك.
قررت أيلاين لدى وصولها الى العاصمة البريطانية ألا تذهب مباشرة الى منزل عمها في آشلي , بل أمضت بضعة أيام مع صديقة تعرفها منذ أيام الدراسة , كانت تود البقاء منعزلة في هذه الشقة الصغيرة الى أجل غير مسنى , ولكن وضعها النفسي أقلق صديقتها الى درجة كبيرة , فأتصلت بتشارلز وجيني وأبلغتهما عما جرى , ونتيجة لذلك , حضرت جيني بعد ظهر اليوم الثالث للأتصال الهاتفي وأخذت ايلاين الى آشلي.
كانا طيبين جدا معها ,ولم يعلقا بشيء على قولها أنها تركت بيار ولن تعود اليه أبدا , وظّفها تشارلز في مكاتب الشركة ,وفي الدائرة التي يرأسها جيرالد مورتون , كتبت رساة لبيار أبلغته فيها أنها أدركت الآن الخطأ الذي أرتكبته بقبولها الزواج منه بمثل تلك السرعة , وأنها بحاجة الى بعض الوقت لتفكر بموضوع علاقتهما , جاءها الرد على تلك الرسالة من خالها أرمون , الذي حثّها على العودة الى زوجها , أما بيار , فلم يكتب لها ألا بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على عودتها الى لندن
قال لها بأيجاز:
" أعتبر أن هذه الفترة كافية للتفكير والتحليل , أرجو أعلامي بموعد عودتك".
أعادت الغطرسة الباردة فتح جروحها و لو أنه اتى ال لندن وطالبها بالعودة اليه ...ولو أنه قال لها في رسالته تلك أنه يحبها ويريدها , لكانت عادت دون تردد ولكن سياسة اللامبالاة وعدم الأكتراث ظلت مهيمنة على تصرفاته وردود فعله , فأقنعتها برودته بأنه فعلا لم يتزوجها بدافع الحب والهيام , بعثت له برسالة قالت فيها أنها قررت البقاء في لندن ,وأنها تأمل في توصلهما قريبا الى اعداد الترتيبات اللازمة لطلاقهما , لم يكتب لها بعد ذلك أي رسالة على الأطلاق.
تقلبت في سريرها أكثر من مرة , ثم نامت على ظهرها وراحت تحدق في السقف , يا لسخرية الأقدار! ها هي الآن في المكان الذي أقسمت على ألا تأتي اليه أبدا , والجميع يظنون أنها عادت الى.......زوجها , لا يعرف الحقيقة المرة ألا شخصان ... هي وبيار , لقد أوقعت نفسها في الرمال المتحركة للأدعاء الخطر , ووضعت حاضرها ومستقبلها على كف عفريت ,ولكن ...
سمعت طرقة خفيفة على الباب , ثم رأته يفتح بهدوء ليطل منه وجه بيار , هبت جالسة في سريرها بسرعة وتحفز
فأبتسم بنعومة:
" هل يمكنني الدخول؟".
"نعم".
دخل وأغلق الباب وراءه , فتمنت لو أنها لم تتسرع في الجلوس , وقع الغطاء من يدها وكشف عنها أمام عينيه اللتين كانتا تتفحصانها بدقة وروية , حاولت ألا تظهر أنفعالها أو خجلها , فرفعت ركبتيها وضمتهما بذراعيها ثم سألته ببرودة:
" ماذا تريد؟".
" حذاء العمل".
أقترب من السرير ومضى الى القول:
" لا بد لي منة شكرك على نقل أمتعتي الى الغرفة الأخرى ,ولكنك نسيت لسوء الحظ , الحذاء الذي أحتاجه لهذا اليوم , أرجو تقبل أعتذاري على دخولي في هذا الوقت المبكر , فأنا مضطر لأخذه ".
أذهلها تهذيبه الفائق الى درجة الصدمة و فأرتعش جسمها وأحست بالبرد على الرغم من دفء الغرفة
قالت له متمتمة:
" طبعا".
فتح بيار الخزانة وأخرج الحذاء , ثم جلس قربها على السرير , حاولت التسلل بهدوء وعلى نحو طبيعي الى الجانب الآخر من السرير , ولكنها لاحظت أنه يجلس على جزء من قميص النوم الذي ترتديه , وضع قدمه في الحذاء , وسألها بتلك اللهجة المهذبة ذاتها:
" هل نمت جيدا؟".
أجابته وهي تشعر بتوتر شديد في أعصابها , نتيجة لأقترابه منها بهذا الشكل المثير:
"نعم , شكرا ,وأنت؟".
أدخل القدم الأخرى , وقال:
"نمت بأرتياح بالغ".
تأملت وجهه الأسمر المتوتر , الذي تبدو عليه ملامح التعب , فأحست بتأنيب الضمير لأصرارها على الأنفراد بهذا السرير الكبير وأرغامه على النوم في حجرة مخصصة للأطفال , قالت له بعفوية واضحة:
" أنا آسفة , من المؤكد أن ذلك السرير ليس مريحا أطلاقا... فهو ضيق وصغير جدا".
"ربما".
وقف بيار , فأحست أيلاين بالراحة النفسية , سار نحو النافذة وفتحها على مصراعيها , فتدفقت أشعة الشمس لتنير الغرفة شبه المظلمة ,ثم أضاف قائلا بهدوء:
" لم أنم فيه , وعليه فلست قادرا على أعطاء أي رأي ثابت عنه , ".
سألته بسرعة , ودون تردد:
" أين نمت أذن؟".
كان بيار لا يزال واقفا قرب النافذة , يتطلع الى شيء ما في باحة القصر , فبدت أحدى وجنتيه وكأنها مغطاة بقناع ذهبي , أستدار نحوها باسما , فتحطم ذلك القناع الجميل لأن الوجه لم يعد معرضا لأشعة الشمس , قال لها بأستفزاز رقيق ناعم أغرق تفكيرها في دوامة مزعجة من التساؤلات والأفتراضات :
" عليك أنت معرفة المكان بنفسك".
علقت على كلامه بشيء من البرودة , والتظاهر بعدم الأهتمام :
" قد يكون من الأفضل أن أنام أنا في الحجرة الثانية".
تأملها جيدا ,وقال:
" هذا حل واحد للمشكلة , ولكنني لا أعتبره الحل الأفضل ".
أبتعد عن النافذة ,وبدأ يتجه نحو باب الغرفة , أصطدمت قدمه برجل الطاولة التي كانت أيلاين تكتب عليها في الليلة السابقة , فوقعت رسالتها الى جيرالد على الأرض , أنحنى لألتقاطها وأعادتها الى مكانها ,وما أن لمح الكلمات الأولى , حتى رفع حاجبيه وبدأ يقرأ بصوت عال .... مشددا على لكنته الفرنسية:
" عزيزي جيرالد , وصلت اليوم الى شامبورتن دون أي عناء يذكر , قابلت خالي , فتمنى علي البقاء قريبة منه لبعض الوقت ".
رمت أيلاين الغطاء عنها وقفزت نحو بيار
وهي تمد يدها لأستعادة الرسالة وتقول له بحدة بالغة:
" كيف تجرؤ على قراءة رسالتي!".
لم تتمكن من أخذ الورقة الصغيرة من يده , لأنه رفعها عاليا فوق رأسه وراح يلوح بها مستفزا أياها, وبسبب أندفاعها بقوة نحوه وفشلها في الأمساك بيده , لم تتمكن من السيطرة على سرعة تحركها , فهوت عليه , مد ذراعه الأخرى كلمح البصر وطوق جسمها , فوجدت نفسها مرة ثانية قريبة منه , حاولت التخلص من قبضته القوية الشريرة
صارخة بوجهه:
" أتركني! أتركني! أعطني رسالتي!".
قال لها بهدوء زاد من عذابها وألمها:
" لن أعطيك أياها , ألا عندما أعرف من هو جيرالد هذا ".
شهقت بأنفعال , قائلة:
" بيار , أنك تؤلمني!".
" لا , أنت مخطئة كثيرا , أذا توقفت عن الحركة , فلن تشعري بأي أوجاع أو آلام , ستشعرين دائما بالأذى والضرر , نتيجة لطيشك وعنف أندفاعك , قليلا من الهدوء , أيتها الحبيبة ,وسيكون كل شيء على ما يرام".
أرغمتها القوة الواضحة في جملته الأخيرة ,وقبضته الضاغطة عليها بطريقة لا تعرف الشفقة على التوقف عن محاولاتها الفاشلة.... فيما كان صدرها يعلة ويهبط بشكل أنفعالي متوتر ,وهي تحاول ألتقاط أنفاسها
سألها بلهجة حازمة وصارمة:
" هل هو حبيبك؟".
أنتفض رأسها بعصبية بالغة, ونظرت اليه متحدية متمردة ثم قالت:
" لست مضطرة لأبلاغك أي شيء على الأطلاق".
" بلى , فمن حقي الأطلاع على مثل هذه الأمور".
ضحكت بحنق وأستهزاء ,وقالت:
" أوه , أنت وحقوقك! أنا أيضا لدي حقوق! أليس من حقي معرفة المكان الذي نمت فيه ليلة أمس؟".
" نمت على الأريكة الموجودة في غرفة المكتبة".
أربكها جوابه الرصين , فأسندت ظهرها الى ذراعه القوية وحدقت به... لتدرس عينيه وتحاول قراءة ما يجول فيهما ووراءهما , بادلها تلك النظرا الفاحصة بالمثل, فتحول نظرها بهدوء الى شفتيه الجذابتين الباسمتين بسخرية ... وقالت له بلهجة جافة جدا:
" لا أصدقك".
نظر اليها شزرا , وقال لها بصوت يرتجف حنقا وسخطا:
" حسنا , سأحاول مرة ثانية , نمت في سرير أمرأة أخرى... ستصدقين هذا الأمر بالتأكيد , ودون تردد!".
ضغط على خصرها قليلا ,ومضى الى القل:
" حدثيني الآن عن المدعو جيرالد , هل هو سبب مطالبتك بالطلاق؟".
وضعت أيلاين يديها على صدره وحاولت دفعه عنها , ولكنها فوجئت بذراعه الأخرى التي كانت حتى لحظات خلت فوق رأسه... تنزل بسرعة وتنضم الى أختها في عملية التطويق المحكمة
حاولت تجنب الموضوع بقولها:
" أوه , لا يمكنني بحث أي مسألة معك ,وأنت تعصرني على هذا الشكل".
" وكيف تريدينني أن أعصرك أذن؟".
" لا... أعني... أنني.".
لم ينفع أحتجاجها بشيء , أذ ذكّرها بأيام السعادة والهناء , أشتعلت الرغبات المكبوتة في داخلها ,وثارت أحاسيسها ومشاعرها طالبة المزيد , نظرت اليه بعينين شبه مغمضتين , فرأت عينيه تحومان فوق وجهها كنسرين على وشك الأنقضاض , تأوهت وتمنت لو أنه يحملها الآن بعيدا عن العالم , وما هي ألا لحظة وجيزة , حتى أحست به يعانقها ... أوه! ذابت بين يديه ,وشعرت بالدماء الحارة تغلي في عروقها رفعت ذراعيها لتطوق عنقه ولكن الباب فتح فجأة وسمعت ماري تقول بصوت يغلب عليه التلعثم والتردد... والخوف:
" أوه , عفوا , سيدي , سيدتي!".
أبتعد بيار عن أيلاين وألتفتا معا نحو الخادمة الشابة التي كادت الدماء تتدفق من وجنتيها خجلا وحياء , سألها بيار بصوت رقيق ناعم , كيلا يزيد أضطرابها وخوفها:
" ماذا تريدين يا ماري؟".
كانت الفتاة ترتجف بقوة نتيجة الصدمة التي أصيبت بها , فلم يصدر عنها سوى أصوات مبهمة , ثم خرجت بسرعة , لتعود بعد لحظة حاملة صينية عليها سلة من الخبز الطازج وصحن من الحلويات وأبريق قهوة , وضعتها على الطاولة , وقالت:
" هذه... هذه... للسيدة".
" شكرا , شكرا جزيلا يا ماري".
خرجت الفتاة دون تردد , فألتفت بيار نحو أيلاين وقال:
" أوه! الفطور في الغرفة! يبدو أن أحدا , في هذا البيت يحاول أقناعك بالبقاء".
خرج من الغرفة وأغلق الباب وراءه , دون أن يضيف شيئا أو ينتظر جوابا , صبت فنجانا من القهوة الشهية الطعم والرائحة , وهي لا تزال تفكر بجملته وتحاول تحليلها , لا شك في أن مارجريت هي التي طلبت من ماري أحضار الفطور الى غرفة النوم , في محاولة لتدليل كنتها كما كانت تفعل قبل سنوات عديدة.....عندما لم تكن أيلاين آنذاك سوى طفلة صغيرة ,وحفيدة شقيقة زوجها , رفعت فنجان القهوة الى شفتيها , فشاهدت قربه وردة حمراء ذكية الرائحة رائعة الجمال... كعنوان بارز للترحيب الحار.
ولكن بيار لا يريدها أن تبقى في شامبورتن , وقد بدأ هذا الأمر يتأكيد لها أكثر فأكثر وساعة بعد ساعة ,ويمارس معها شتى الأساليب السلبية القاسية , لحملها على مغادرة القصر , تبا لها ولضعفها أمامه! كيف سمحت لنفسها بالتصرف معه بتلك الطريقة الأستسلامية الوضيعة , لا بد أنه يضحك عليها الآن , ألم تقل له قبل أقل من أربع وعشرين ساعة فقط , أنه لا يمكنها النوم في سرير واحد.... أو حتى في غرفة واحدة ....مع شخص لا تحبه ؟ فماذا فعلت قبل دقائق؟ تحول جسمها , بمجرد تطويقها بذراعيه وضمها اليه بقوة , الى كتلة من نار.... لو لم تدخل ماري في تلك اللحظة , لكانت...لا, لن تسمح لنفسها حتى بتخيّل ذلك! يتحتم عليها تجنب تكرار مثل هذه الأمور , وألا فأنها..
تناولت فطورها ثم أرتدت ثيابا صيفية رقيقة , ولكنها محتشمة كالعادة, وتوجهت الى المطبخ لتعيد الصينية , شاهدت مارجريت هناك , فألقت عليها تحية الصباح , أبتسمت السيدة الهادئة
ورحبت بها قائلة:
" أسعدت صباحا , يا أيلاين , كيف حالك اليوم؟".
"لا بأس".
لاحظت أيلاين آثار التعب والأرهاق والقلق على وجه مارجريت , فسألتها:
" كيف حال الخال أرمون هذا الصباح؟ هل نام جيدا؟".
"لا! كان أرقا ومتململا جدا , وأصر على التحدث مع بيار في وقت متأخر من الليل , لحسن الحظ ,كان بيار لا يزال مستيقظا , أوه , أنا آسفة لأنك تضايقت الى هذه الدرجة في الليلة الأولى لعودتك الى البيت , مسكين بيار أيضا... فقد ظل جالسا قرب أرمون حتى الرابعة من صباح هذا اليوم".
" أنا لم أكن متضايقة , ولكنني لم أعرف أنه بقي مع خالي معظم الليل ,لم يقل لي شيئا من هذا القبيل".
" وعليه فأنك تفترضين أنه ليس من النوع القادر على القيام بمثل هذه الأعمال الرقيقة الكريمة , أليس كذلك؟ لا يا عزيزتي, فبيار رجل طيب جدا كما كان والده من قبله. .....وأنا أتمنى له دائما أن يكون سعيدا".
" أليس بيار سعيدا؟".
" لا أعتقد ذلك , مع أنه لا يتحدث أبدا عن هذه المواضيع , فهو ليس من النوع المتذمر المتباكي , أو الذي يحب أطلاع القاصي والداني على حقيقة مشاعره وعواطفه, ولكنني أشعر أحيانا بأنه متشائم ويحس بالأسى والكرب, وأميل بالتالي الى ألقاء اللوم عليك وتحميلك مسؤولية هذه التطورات السلبية في حياته".
" أنا؟.............. أنا؟".
"نعم! فأنت لم تكوني زوجة طيبة معه ,وأتساءل أحيانا عما أذا كان يشعر بالندم لزواجه منك".
أخذ جسم أيلاين يرتجف كورقة خريفية في يوم عاصف , فيما كان الغضب الساخط في داخلها يكاد يحرق أعصابها ومشاعرها , ثمة سبب واحد فقط لأحتمال ندمه , وهو رغبته في الزواج من سولانج , هل تخبر أمه عن علاقته مع تلك المرأة , وعما قالته سولانج عن مارجريت وأبنها؟ هل تقول لها أنها كانت مستعدة تماما للطلاق منه فورا ودون تردد , لأنه بعيد كل البعد عن كونه الزوج الصالح المثالي ؟
تذكرت أنه يفترض بها التظاهر بعودة المياه الى مجاريها الطبيعية مع بيار , وأدركت فجأة أن مارجريت تدلي فقط برأيها التقليدي فيما يتعلق بالزواج , فمهمة الزواج , حسب أعتقادها ونظريتها , أسعاد زوجها وأنجاب الأطفال والأهتمام بعائلتها , لن تتمكن هذه السيدة المسنة , ولو بعد مئة عام , من تفهم نقطة بالغة الأهمية ......وهي أن الزواج لا يعني بالضرورة أرغام المرأة على التضحية بقلبها وكرامتها وكافة حقوقها , لن تجادل مارجريت وتجرح شعورها!
قالت لها وهي تشير الى الصينية والوردة:
" تمتعت كثيرا بهذا الفطور الرائع , وبلفتة الترحيب الكريمة".
" أنا أرحب بك دائما , أيتها العزيزة , ولكنني لم أقل لماري أي شيء عن أضافة وردة حمراء , أتركي الصينية في مكانها , فسوف تهتم بها ماري في وقت لاحق , أخبريني الآن.... هل تحبين القيام بأمور معينة؟".
لم تسمعها أيلاين ,بسبب تركيز أهتمامها بكامله على تلك الوردة الجميلة ,من وضعها أو أمر بوضعها , يا ترى؟ بيار؟ لا , لا يمكن! أخذت الوردة ووضعتها في صدرها ,ثم أدارت وجهها نحو الباب , وهمّت بالخروج , كررت مارجريت سؤالها بصوت أعلى , يغلب عليه طابع المرح والأرتياح
فأفاقت أيلاين من ذهولها وقالت:
" أريد مساعدتك, هل يمكنني الجلوس مع الخال أرموت لمعاونته والأهتمام به؟".
" ربما في وقت لاحق , على أي حال , فهو سيطلب مقابلتك في وقت ما قبل الظهر , لماذا لا تقومين الآن بنزهة في الحديقة , طالما أن الطقس يسمح بذلك؟ ستشتد الحرارة خلال فترة قصيرة".
سارت أيلاين في الحديقة لبعض الوقت , ثم توجهت الى النهر على طريق ترابية ضيقة تحيط بها وتظللها كروم العنب وأشجار السرو , وفي نهاية الممر الطويل , شاهدت الزورقين شبه المسطحين اللذين كانا يستخدمان لنقل الأنتاج الزراعي والحيواني الى أقرب الأسواق التجارية , سرت أيلاين كثيرا , لأنها تذكرت الرحلات النهرية التي كانت تقوم بها أثناء كل فصل صيف كانت تمضيه في شامبورتن, نزلت الى أحدهما وفكت الحبل الذي يربطه بالرصيف الخشبي القديم , فأنساب الزورق بهدوء مع مياه النهر , أنحنت لألتقاط المجذاف من المكان الذي يوجد فيه عادة , فلم تجده! أصيبت بدهشة قوية , تحولت خلال لحظات الى تأنيب ذاتي بسبب التسرع والأهمال ,وما أن أستفاقت من ذهولها وصدمتها , حتى تبين لها أنها لم تعد قادرة على القفز الى حافة الرصيف أو الى نقطة أخرى على ضفة النهر.
وضعت يديها حول فمها ونادت بأعلى صوتها , لجذب أنتباه أحد الرجال العاملين في الكروم والحقول المجاورة .....فلم يسمعها أحد, كان الطقس جيدا , والجو دافئا , ومياه النهر تبدو هادئة ساكنة ....فلم تشعر أيلاين بالخوف أو القلق , تمددت على الزورق ووضعت يديها تحت رأسها , علّ وجهها الشاحب يكسب بعض النضارة والأحمرار.

روايات عبير/ احلام - أطياف بلا وجوهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن