عندما وصلت ڤكتوريا إلى الإسطبل كانت الأميرة تمسك بلجام فرسها الأسود تظاهرت أنها لم تلاحظ وصولها، ظلت تمسح على رأس ذاك الفرس..
قالت حينها ڤكتوريا:
مرحبا.. لقد وصلت.
لم ألحظك، حسبتك إحدى جاريات القصر، عذرًا.. ولكن ملابسك مبالغٌ بها، نحن لسنا ذاهبتين إلى حفلة، نحن ذاهبتان لجولة في المدينة، كيف ستصعدين على ظهر الفرس وأنتِ بهذا الفستان؟!
عذراً، ولكن هذا ما أحضره زوجي عند قدومه.
إذاً سنضطر إلى أن نبدل ما ترتدينه، لا أريد أن يقول عامة الشعب انظروا إلى مدى غباء تلك المرأة بجوار الأميرة.
لا يهمني ما سيقوله عامة الشعب.
إن كنتِ معي فأنتِ مجبرة بأن تهتمي.
رائع أذاً فأنا أعتذر منك ولكن لا يمكنني الذهاب، ماذا سيقول عنكِ الشعب؟ الأميرة ترافق امرأة ترتدي فستاناً!!
ضحكت ڤكتوريا قائلة:
هكذا هم الفنانون كبرياؤهم يمنعهم من التفكير حتى.
معذرةً، ولكن ألا تشعرين أنكِ بدأتِ تتسلطين عليّ بالكلام.
سأعتبر نفسي لم أسمع ما قلته.
همس لها كبير حرسها:
لستِ مضطرة لسماع ما تقوله حتى، هذه الشابة المتعجرفة، وإن أردتِ أن نطردها أو إن نؤجل الجولة.
لا تتعجل، دعنا نلعب معها، ماذا سنخسر وبصراحة أريد أن أستمتع قليلاً.
رد عيلها: - كما تريدين يا أميرة.
اسمعي ڤكتوريا سأصطحبكِ إلى القصر أولاً لتغيري زيّ النبلاء شديد البهرحة هذا الذي ترتدينه وتلبسي من ملابس سكان هذا القصر.
شعرت ڤكتوريا بسعادة عارمة عند سماع ما قالته الأميرة، فقد كانت تحلم منذ صغرها أن تكون أميرة، لم تُرِد أن تضيع فرصة رؤية القصر، ولكن هي بطبيعتها عنيدة وعصية.
أردفت قائلة:
وإن رفضت؟
ردت الأميرة:
صدقيني لن ترفضي.
كانت فلوريندا علّامة في قراءة الأفكار، مدرسة القصر لا تعلم القراءة والكتابة فحسب؛ إنها تعلم أهم ما قد يتعلمه المرء ألا وهي علوم الحياة، أنه الفوز الحقيقي، أن تبرع بلعبة محتويك.
حدّقت فلوريندا بڤكتوريا لوهلة، وانطلقت متجهةً إلى القصر، أدارت بعدها ڤكتوريا عينيها، وتظاهرت بضجر ولحقت بها وقد سبقها فضولها إلى ذلك القصر...
حينما وصلتا إلى عتبة سلالم القصر، توقفت حاشية الأميرة فلوريندا، عندها ظنت ڤكتوريا أن عليها الوقوف أيضاً فوقفت تبسمت فلوريندا وقالت:
لا عليكِ، تقدمي وامشِ معي فحسب.
وهذا ما فعلته ڤكتوريا، لحقتها وبدأتا تصعدان على تلك السلالم القليلة الحجرية، وحالما اقتربتا من باب القصر فُتحت أبوابه، وانحنى حارسي القصر لهما، وتقدمتا عبر ذلك الباب العظيم نحو القصر، حبست ڤكتوريا أنفاسها لهول جمال ما رأته، كان حتماً عظيماً؛ بل أعظم شيء قد يراه إنسان..
قالت فلوريندا:
أنتِ محظوظة للغاية، هناك الكثيرون ممن يتمنون الدخول إلى قصرنا.
لم تأبه ڤكتوريا كثيراً لما قالته الأميرة، كانت منهمكة في حفظ تفاصيل تلك التحفة المعمارية الفنية العظيمة، أروقته العتيقة ذات الأسقف شاهقة الارتفاع وكأنها مساكن العمالقة..
تزينها تلك القباب المزخرفة التي رُسمت فيها بطولات وأمجاد تلك العائلة، وأخرى تصوّر المآسي، بينما يتناثر الأناس شبه العاريين، هنا وهناك يتمايلون بأجسادهم، أمٌّ تحاول التقاط صغيرها ببطء.. وآخرون يصورن أنفسهم كرمز الخلود الثابت، وأخرى حتما ستحرك مشاعرك، فقط إن تأملت في تفاصيلها غير المملة، أضف على ذلك تلك المنحوتات المعلقة لأطفال عاريين، وكأنهم يتأرجحون بعيداً عن المارة..
ومنحوتات بشر آخرين بعضهم قد استلقى على الآخر، وآخر يستند بظهره على آخر، وذلك الرجل العملاق الذي ينتصب عارياً ليُظهر مدى رجولته ويستعرض قوّته، يلفت أنظار النساء في الأسفل شامخاً عالية هامته، وآخر يبدو ككاهن أو فيلسوف يرتدي ذلك اللباس المتطاير ويمسك عصى في يمينه، كأنه رمزٌ للحكمة والزهد..
كانت تلك الثُريات العملاقة تضيء المكان في الأعلى وكأنه علمٌ آخر لهُ وقاره، وكأن ساكنيه هم الملائكة، يحاذيها ذلك الزجاج الملون منقوش عليه صورٌ ليسوع ولمريم، وكأنك ترى من نافذة صغيرة نحو الملكوت الأعلى..
وإن أنزلت ناظريك قليلاً.. فسترى تلك البورتريهات لملوك وأفراد العائلة المالكة التي تلاشت أجزاؤهم وبقيت أشكالهم محفوظة على تلك الجدران الخالدة.
وكلّما مددتَ ناظريك كنت ترى تلك الأعمدة الحجرية المهولة التي تحمل تلكم الشعلات النارية التي تفني عمرها في إضاءة الأعمدة لإبراز عظمتها..
وما إن ترمي ناظريك للأسفل حتى ترى تلك التماثيل متوسطة الحجم التي تصور امرأة ذات رداء فضفاض تمسك بشمعدانٍ وقد سالت بضع دمعات من الشموع على أكفها الذي طالما أضاءت المكان في الأسفل، لا يبدو عليها آثار الإرهاق، تستمتع بوقوفها هنالك.. تستعرض مدى بريقها لا سيما أنها مطلية بالذهب تستعرض بذخ صانعها.
أما تلك النوافذ شاهقة الطول التي تطل على الحدائق الشاسعة التي أبدع مزارعوها في تصميمها..
تحفة نباتية تبعث على الهدوء، في مكان يُحكم منه أكثر الأماكن إثارةً للضجة، انظر إلى قدميك لترى أنك تدوس بها على تحفة أخرى، بلاطٌ شاسع زخرف عليه بأكف فنانين لا بد أنهم أدموا في فنهم.
بعد هذا صعدت ڤكتوريا على تلكم السلالم المتراصة، التي نُحتت من الحجر الجيري الأبيض، في الأسفل كان السجاد الأحمر، هو سيد المشهد، يدك تلمس تلك الأحجار الجيرية الصلبة والباردة.
بينما ترتقي نحو الفردوس حاولت ڤكتوريا ألّا تظهر اندهاشها، هي ممن طغى كبرياؤهم على كل شيء.
مرت السيدتان من أروقة ذاك القصر المجيد حتى وصلتا إلى باب جناح الأميرة فلوريندا، وكان هناك حارس وجارية بانتظارها، حيّتها وفتحت الباب، لم تتمالك ڤكتوريا نفسها وأمسكت بفمها، شيئاً من أجمل ما ترى.
زخارف ذهبية ورسومات، على الجدران التي تمثل أساطير أميرات الأُسر الحاكمة، أطلّت ڤكتوريا من إحدى النوافذ وشاهدت حديقة داخلية جميلة للغاية كانت الملكة تجلس فيها..
أمامها نافورة عملاقة تتطاير منها قطارات الماء في الأرجاء، أضف إلى ذلك تماثيل أخرى مهولة تصور أعظم ملوك الأسرة الحاكمة وهم واقفون ببسالة يضربون بِصمتهم نواصي أعدائهم بجمود.
إضافةً إلى أزهار الزنبق والخزامى وأزهار اللافندر تزين المكان وتعطيه رونقه الخاص "ذاك هو النعيم بحد ذاته"...
نادت فلوريندا: ڤكتوريا.
أجابتها ڤكتوريا: أجل؟
ناديتك عدة مرات ولكنك لم تجيبي.
لم أتمكن من سماعك، ماذا كنتِ تريدين مني؟
تعالي معي.. هذه هي ملابس الرحلات اختاري ما يروق لك نحن بنفس الحجم تقريباً، خذي راحتك.
كان من الواضح أن فلوريندا ليست كبقية الأميرات التقليديات، غير أخلاقها وتعاملاتها، هي لا تحب الملابس المبهرجة والمرصعة بالأحجار الكريمة وما شابه، هي غير ذلك تماماً..
إنها تحب أن ترتدي الخامات العتيقة والجلود الطبيعية والسترات النفيسة، كانت تلك الخزانة أشبه بخزانة، اختارت ڤكتوريا رداءً مشابهاً لرداء فلوريندا، ولكنها ارتدت إحدى القبعات الأرجوانية، رغبةً منها لأن تكون مختلفة...
وبعد أن صعدت ڤكتوريا على ظهر خيلها، انطلقوا نحو المدينة، التي كان جميع من فيها مستغربون، إنها المرة الأولى التي تصطحب الأميرة أحدا معها...
كانت ڤكتوريا تستغرب الأميرة، فهي لا تمشي تلك المشية* الأرستقراطية وترفع يدها تلوح بها، ورأسها قائم من دون تعابير، وكأنها تمثال خالٍ من الأحاسيس، هي لا تشعر الناس أنها ولية العهد..
تلك التي لا تطيق اشتمام رائحة روث الأحصنة في إحدى الشوارع العامة، على العكس تماماً، كانت تحادث الناس بخليط من *الدبلوماسية والفكاهة، وتحييهم ليس فقط بالتلويح؛ بل بابتسامه متوسطة، كان جميع المواطنين حتماً يحبونها ويستلطفونها.
لم تكن ڤكتوريا تعلم حقاً عن حقيقتها ففي الضواحي، يخالها الناس روح الحرب، الأميرة القاسية حكموا عليها بمجرد النظر، وليس الألفة هي قد ألفت على سكان مدينتها، وأصبحت تعرفهم جيدا، أما سكان الضواحي فلم تكن تعتادهم، هي تذهب هناك فقط للصيد..
تشتهي نواح الغزلان عند إصابتها وسط الوديان الخاوية...
انتهت الجولة وقررت فلوريندا العودة إلى قصرها وأمرت أحد الحراس بتوصيل ڤكتوريا إلى منزلها..
وعندما وصلت ڤكتوريا..
نزلت من على الخيل وأمسكت بلجامه بغية أن تعيد الفرس إلى الحارس، ولكنه رفض أن يأخذه متحججاً بأن الأميرة إذا أعارت أحدهم حصاناً فهو له..
وأردف قائلاً:
عليك أن تهتمي به جيداً، هو ليس خيلاً عادياً، إنه أحد خيول أسطول الأميرة وهو مميز أيضاً، سعدت ڤكتوريا بالهدية، كان لها حصان في السابق ولكنه لُدِغَ من أفعى ولقى حتفه، والآن قد حصلت على آخر، ولكن أيما آخر! إنه أحد خيول الأميرة.
قصَّت ڤكتوريا لزوجها تفيرنر كل ما حصل، وهذه عادتها دائماً، أعرب بعدها تفيرنر عن استغرابه، ليست من عوائد أفراد الأسرة الحاكمة أن يختلطوا إلى هذا الحد مع عامة الشعب لمجرد أنهم أصابوه بأذا.
لمست ڤكتوريا شيئاً من الصحة في كلام تفيرنر، لكنها تغاضت عن تأويل هذا الأمر.. قررت ألّا تفكر كثيراً في هذا، على عكس عادتها.
في صباح اليوم التالي داعبت رائحة فطائر التفاح أنف فكتوريا، وأيقظتها من حلمها المعتوه بأن أحدهم يلحقها، طالما كانت تحلم بهذا الحلم.
عندما خرجت من غرفتها وجدت تفيرنر هو من يعد تلك الفطائر الشهية بمساعدة كريستي خادمتهم، ولكن كان هنالك ما هو أكثر لذة من تلك الفطائر، فبعد أن انتهت من الإفطار طرق الباب، وذهب تفيرنر لفتحه، وتفاجأ بحرس ملكي أمام المنزل يطلبون رؤية ڤكتوريا.
تقدمت بعدها ڤكتوريا نحو الباب وقالت:
تفيرنر من بالباب؟
رد قائلا:
يقولون إنهم من الحرس الملكي، يريدونك.
لمَ؟
تعالي واسأليهم أنتِ!!
أنت تقرأ
البورتريه الأخير
Mystery / Thrillerتدور أحداث هذه الرواية حول شابة تدعى ڤكتوريا التي وجدتها إحدى العائلات عندما كانت طفلة صغيرة، ثم تتوالا الأحداث حتى تصبح فكتوريا زوجة أخوها بالتبني، والذي لن تتغير علاقتهما الأخوية حتى بعد زواجهما، ستتعلم فكتوريا الرسم وتتقنه، ويذاع صيتها بين أفراد...