البارت(٥)-الفصل(٣)، ماوراء الرحيل...

28 3 0
                                    

إنهُ وقت العشاء...
ردت ڤكتوريا: سأبقى هنا الليلة، ليس لي رغبة في الأكل.
طرق الباب مجدداً، إنها فلوريندا، دخلت ورأت ڤكتوريا وما هي عليه فقالت:
أغلقي النافذة، الجو بارد، ألا تشعرين بالبرودة، المكان فوضوي، لما لا تريدين الذهاب لتناول العشاء؟
ردت ڤكتوريا: - لا رغبة لي بالأكل، انزلي أنتِ إذا أردتِ.
فلوريندا: - ولمَ لا نجعلهم يحضرون الطعام إلى هنا.
ابتسمت ڤكتوريا وقالت: - لمَ لا، فكرة جميلة.
ولكن المكان فوضوي هنا.
لا بأس، فلننتقل إلى جناحك.
تناولت الشابتان ليلتها العشاء مع بعضهما، وعندما انتهت الشابتان من العشاء عادت ڤكتوريا إلى جناحها ولكنها وجدت شيئاً غريباً!!، كان باب جناحها مفتوحاً، هي تتذكر أنها أقفلته، ولكن.. ما الذي فتحه يا ترى؟!
"ربما كان مفتوحا منذ البداية"
هذا ما قالته ڤكتوريا قبل أن تدخل.. شقت طريقها نحو سريرها لتخلد إلى النوم كهرة صغيرة متعبة..
شرقت شمس العودة للديار، شمسٌ طال انتظارها ليلة وما أطولَ ليالي الانتظار.
استيقظت كلا الشابتان بهدوء كالمعتاد، ومن ثَمَّ خرجتا من قصر الضيوف ذاهبتان إلى تلك القاعة الحجرية، التي تعلوها ثُريّا دائرية عليها شموعٌ قائمة، وتقوم على أرضها مائدة مديدة...
تحيطها كراسٍ فاخرة، وبرغم من كبر القاعة إلا أنه لا يوجد بها سوى ثلاثة نوافذ، هي طوليةٌ كالعادة، من حافة السقف حتى محاذاة القاع تقريباً..
الضوء هنالك..
أصفر بسبب أضواء الشمعدانات التي توسطت تلك المائدة، وقد ارتكزت على بساط مستطيل ممتد من رأس تلك الطاولة حتى قافيتها..
أكواب النبيذ الفاخر (مولسوم) المكون من النبيذ والعسل الفاخرين، والذي مزج معهما توابل عطرية تفوح رائحتها في أرجاء القاعة..
أيضاً هنالك تلك الأطباق الأساسية المتوسطة والفاخرة التي نقش عليها نقوش رومانية راقية، تحمل على ظهرها أنواع الفواكه الفاخرة، إضافةً إلى تلكم الأطباق الرئيسية التي مُلئت بأصناف الطعام الصباحي..
جلست الشابتان، وبدأتا بالأكل في هدوء تام، كل شيء كان هادئاً وطبيعياً،عدا قلب أحدهم..
نبضاته تتسارع ونظراته تجتاح المكان جيئة وذهاباً، وكأنه ينتظر شيئاً يعرف أنه سيحدث...، بدت عليه ملاح غريبة..
لاحظتها ڤكتوريا وكذلك فلوريندا، ومن حوله أيضاً، وعندما انتهت ڤكتوريا وفلوريندا، حالما غادرتا المكان تركتا ورائهما أطاباقهن شبه الخاوية، تنتظر موعد الجلي من إحدى خادمات القصر الضجرات من کثرة تلك الواجبات التي يجب عليهن تحضيرها كل يوم بنفس الرتم..
وبينما تستمر معاناة تلكم الخادمات مع الأواني، كانت ڤكتوريا وفلوريندا تعدان العدة للرحيل...
حان الوقت للمغادرة..
ومن عتبة ذلك القصر الملكي البهيّ ترى ڤكتوريا العائلة تجلس إلى جوار بعضها، يتحاورون فيما بينهم كالعادة بعد الإفطار إلا أن أحدهم ليس على عادته!!
هو صامت لا يقوم بأي ردة فعل عدا الهمهمة بالموافقة والإيماء برأس يقول لا...
ولكن حتى الآن ما يزال الجميع يتجاهلون أمره، صعدت الشابتان على متن عربتهن تلك دون أن يودعن الدوق وعائلته الذين ظلوا يراقبون رحيلهن بصمت، لا سيما ذاك الشخص الذي ما يزال ينتظر قبل أن تقف تلك العربة فجأة!!
لتخرج منها ڤكتوريا مهرولتةً نحو قصر الضيوف، نحو جناحها...
فتحت ڤكتوريا باب الجناح بقوة بينما أنفاسها تتصاعد، بدأت تبحث عنه!! تفتش بين تلك الشراشف، والخزائن، ووراء الوسائد، وتحت الشراشف، وعند النافذة، وبجوار المرآة، ولكن دون جدوى، ووسط الفوضى.. وصلت فلوريندا سائلةً ڤكتوريا:
أوجدته؟!
أجابتها: - لا لم أجده، بحثت عنه في كل مكان.
أين عساه يكون يا ترى؟!
دخلت إحدى الخادمات وسألت: ما الذي تبحثن عنه؟
فأجابت كلاهما: - العقد..
فردت الخدمة: - أي عقد؟
أجابت ڤكتوريا: - إنه عقدي..عقدي الذي أرتديه أينما كنت.
حسنا إذاً سوف أكلف بقية الخدم بالبحث عنه في كل مكان، أرى أنه عزيزٌ عليك.
أجل إنه كل ما أملكه من جذوري، إنه أمي وأبي، أرجوكِ أن تجديه، لن أبرح هذا القصر حتى ترونه معلقاً على عنقي...
لا تقلقي سوف نبذل قصارى جهدنا.
أردفت فلوريندا: - سوف أذهب للبحث في جناحي عساه سقط منك بينما كنتِ هنا البارحة..
بدأ الجميع بالبحث، الخدم بالمجمل بدؤوا يبحثون بين زوايا وممرات ذاك القصر المترامية، حتى حلّ موعد الغداء، لم تحضر الشابتان..
سأل الدوق أحد الخدم: - هل غادرت الشابتان؟
فأجاب: - لا سيدي.
فسأل مجدداً: - لمَ يا ترى؟!
قيل إن إحداهن فقدت عقداً عزيزاً عليها وهي تبحث عنه مع كل الخدم.
ولم تجده حتى الآن؟
لا يا سيدي الدوق حتى الآن، ولكنها تواصل البحث.
أهو ثمين إلى هذا الحد؟
ما فهمته يا سيدي هو أنه عقد عزيز جداً عليها.
أيعقل أن يكون أحدهم قد قام بسرقته؟
أجابت جيسكا: - لا هذا لا يعقل، نحن نثق بكل خدامينا.
أيها الحارس، أذهب وادعُ تلك الشابة إلى هنا...
عندما جاءت ڤكتوريا بدا وجهها شاحباً، شعرها ليس كعادته مرتباً ومصففاً؛ بل على العكس منكوشاً ومتطايراً..
سألها الدوق: - متى آخر مرة رأيته فيها؟
أجابت: - ليلة البارحة وضعته على تلك الطاولة بجوار المرآة.
هكذا إذاً.._فكر قليلاً سوف أأمر عدداً من الحراس ليبحثوا عنك وارتاحي أنت.
أشكرك، ولكن لا أظن أني سأتوقف عن البحث إلا عندما أجده.
بدأ عدد كبير من حراس الملك بالبحث ومعهم ڤكتوريا التي تشبثت بخيط الأمل عاجزة عن غيره، بينما يقترب اليأس ويزحف نحوها قبل أن يتمكن منها أخيراً...
دخلت ڤكتوريا جناحها الذي بدا وكأن إعصاراً مرّ من خلاله، فجلست حافية القدمين على ذلك، الصرح البارد، ثم استلقت وكأن أحد معزوفات النهاية تلوح في الأفق...
سيقول البعض أليس هذا مجرد عقد؟!
بالنسبة لها هو كل شيء.
هو الحب، هو الماضي، هو الأمل، هو البداية وأملت أن يكون النهاية..
نامت ڤكتوريا دون علمها وأسدلت جفنيها المرهقين على عينيها التان أُجهدتا بالبحث المتواصل...
استيقظت ڤكتوريا على صوت أحدهم ينادي سيدة ڤكتوريا...، سيدة ڤكتوريا...!
أفاقت ڤكتوريا بينما تقف إحدى الخادمات تتأملها، قبل أن تقول ڤكتوريا أنها لا تريد الإفطار وتطلب منها المغادرة، فأجبت:
سيده ڤكتوريا لدي شيء مهم علي إخبارك به!
استنفرت ڤكتوريا وأدارت وجهها المقفهر نحو تلك الخادمة
وطلبت منها التكلم.
سيدة ڤكتوريا، لقد رأيت كم أن هذا العقد مهم بالنسبة لك، ولم أعد أستطيع تحمل السكوت أكثر من هذا!!
حركت ڤكتوريا رأسها طالبةً منها المتابعة.
فقالت: - اسمعي بــ... الأمس وبينما أنتِ ذاهبة لتتناولي إفطارك، طلبت مني السيدة نازل بأن أذهب لأخذ استراحة قصيرة، فذهبت ولكني تذكرت أن عليَّ أن أسألك إن كنت بحاجة إلى شيء، وعندما عدت وجدت الآنسة جيسكا تقف أمام باب جناحك وكانت...
تتلفت وكأنها تحاول أن تخفي شيئاً، ثم خرجت نازل وتحدثت قليلاً مع الآنسة جيسكا، وانطلقتا بعيداً نحو المخرج...
لا أعرف ما حدث بعدها، ولكنني قلت إن عليَّ إخبارك، فأنا أراك سيدة طيبة ولا تستحقين أن يؤخذ منك شيء عزيز على قلبك..نهضت ڤكتوريا وأمسكت بيدي تلك الخادمة وشدت عليهما ثم قالت:
أشكرك حقاً، لقد أفدتني كثيراً.
اتجهت بعدها بسرعة نحو الباب قبل أن تناديها تلك الخادمة وتطلب منها ألّا تذكر اسمها عند أحد خشية أن تعاقب عقاب الواشي بأسرار القصر، فوافت ڤكتوريا ووعدتها أنها لن تنطق باسمها ألبتة حتى لو اضطر الأمر أن تفقد العقد، تلك هي مبادئها.. الإحسان بالإحسان..
أسرعت بعدها ڤكتوريا نحو قصرهم، صعدت السلام الحجرية، فتحت لها أبواب القصر، توجهت مسرعةً نحو القاعة، ثم دخلت لتجد الجميع قد شارفوا على الانتهاء من فطورهم فقال لها الدوق:
لقد تأخرتِ، شارفنا على الانتهاء.
أجابت: - أنا لم آتي إلى هنا من أجل الإفطار.
فردت جيسكا: ما لذي حدث؟
عندي شيء مهم لأخبرك به أيها الدوق.
فرد الدوق:
- وما هو هذا الشيء!!
نازل..نازل هي من تعرف كل شيء.
شيء مثل ماذا؟
هي الوحيدة التي تعرف شيئاً عن عقدي، فهي آخر شخص رآه.
فتسائلت فلوريندا: - ومن هي نازل؟!
فأجابتها جيسكا:
هي كبيرة خدمي التي أمرتها بأن تهتم بكن وتشرف على أجنحتكن ويستحيل أن تفعل هذا.
ڤكتوريا: - ولكني لم أتهمها بشيء!!
فأجبت جيسكا: ولكنك أوحيتِ بهذا.
أردف الدوق قائلاً: - نازل هي أشد الخدم إخلاصاً لجيسكا ويستحيل أن تخون أمانتها.
أتبعت جيسكا: - هذا ما كنت أريد قوله.
فردت ڤكتوريا:
هل لك حضرة الدوق أن تستدعيها أذاً.
نادى الدوق كبير حرسه ثم قال:
استدعِ المدعوة نازل إلى هنا فوراً.
فأجابه: ولكن سيدي نازل في إجازة منذ البارحة.
ماذا.. ومتى أخذت الإذن منك؟
لقد جاءتني عند الغروب وطلبت مني إجازة مرضية.
حسناً إذاً، تجهزوا وانطلقوا إليها، أحضروها لتمثل بين يدي، يجب أن ننتهي من كل هذه المهزلة.
أمرك سيدي سوف نحضرها إلى هنا بأسرع وقت ممكن.
تأهب الجنود لطاعة الملك وأخذوا في الإسراع والتقدم، تثير حوافر الخيول الأتربة خلفهم
كانت ڤكتوريا تجلس على سريرها قبل أن تستلقي، أطلقت سراح شعرها، وبدأت تتمايل به على مخدتها تلك، بدأت حينها تحنّ حقاً للديار التي لم تكن يوماً لتفكر أنها ستشتاق إليها، ولكنها تجرأت وفعلتها..
وصلت إحدى الخيول السوداء الملكية إلى منزل تلكم المرأة المنشودة، ترجَّل الراكب على متن ذلك الخيل، وبدأ يلقي نظراته الأولى، أولاد صغار يلعبون أمام باب ذلك المنزل المفتوح، كان هناك نحو أربعة أطفالٍ مشاغبين، أصوات حوافر فرس تقترب من بعيد، ذات الرداء الأسود الفضفاض مِن على الباب بهدوء، هنالك في ذلك البيت الذي عَلَتْهُ الفوضى.
كل شيء مرمي على الأرض؛ الملابس والأدوات والأغطية، امرأة سمينة بعض الشيء قد وجدت التجاعيد سبيلاً إلى وجهها، وهي تشقّ طريقها بصعوبة بين كلّ تلك الفوضى العارمة، وتتذمر من مدى سوء حياتها، قبل أن يمرّ جرذ كبير من بين قدمي المتلصّصة فصرخت خائفة، سمعت تلك المرأة الصراخ فأسرعت نحو الردهة لتجد جيسيكا متسمّرة، بينما يتجول ذلك الجرذ الوقح حولها دون مبالاة، يبدو أنه قد تعوّد على سكان هذا المنزل، هم لا يريدون أذيته طالما يأكل وبَنِيْهِ بقايا الطعام المتناثر على الأرض.. يدفع عنهم مشقة تنظيف كسرات الخبز وغيرها، وبين صوت الحوافر يقترب، قالت تلك المرأة الخمسينية:
سيدة جيسكا ماذا تفعلين هنا؟!
فأجابت جيسكا:
نازل، ليس هنالك وقت أبداً للحديث، الجنود آتون إلى هنا، تعالي معي هيا.
صعدت جيسكا أولاً على ظهر الحصان وتلتها نازل وأردفت:
عجباً لنا نحن الفقراء لا نجد ما يسد جوعنا، وانظري إليّ أنا أسمن منك حتى.
–نازل هذا ليس وقتا مناسبا للفكاهة.
انطلقتا على متن ذاك الحصان بعيداً نحو التلال، كان هناك من يبحث في ذلك المنزل بعد أن وقف وفرسه أمام المنزل وترجل عنه، ثم أتبع ذلك بالدخول وسط تعجب الأطفال هنالك لما يحدث.. هم يلعبون فحسب لمَ يحدث كل هذا!!! عجباً ليومهم المقيت..
أدرك المتلصص هو الآخر أنه لا أحد هنا، التفت لينظر من النافذة إنها الأميرة فلوريندا وقد رأتهما تهربان بعيداً، خرجت فلوريندا بسرعة ركبت على متن خيلها وانطلقت دائسةً عن غير قصد أحد المنازل الطينية التي كان الأطفال منشغلون ببنائها..
اعتذرت وواصلت انطلاقها بسرعة، بينما ما تزال أفواه الأطفال وأعينهم مفتوحة وسط صوت حوافر ذاك الخيل الأصيل..
بدأ السباق حينها، المسافة ليست بقصيرةٍ أبدا..
زادت سرعة خيل فلوريندا بالتسارع أكثر فأكثر التفتت نازل فتغطى وجهها بشعرها، أزاحته بأناملها ولكنه عاد بسبب قوة الرياح، ثم أمسكت به فشدته قبل أن تدركها نازل، أنهما ملاحقتان!! صرخت نازل رغم الهواء الذي يكاد يمنعها من التنفس:
جيسكا هنالك من يلاحقنا-إلتفتت مجدد- إنه يقترب بسرعة.
حدث لجيسكا أنها ارتبكت، لكنها تجهزت لمثل هكذا موقف، صرخت جيسكا:
أيمكنك الرمي بالنبال.
أجل.. ولكني لا أستطيع الجزم أنني يمكنني التصويب.
إنها مسألة حياة أو موت، لا أريد أن أتخلى على لقبي كوصيفة للعرش بهذه السهولة، اسمعي كل ما عليك هو أن تقنصي بالقرب من الفارس يكفي إرباك الفارس على الأقل فقد اقتربنا..
وبينما تحاول نازل محاولات متعثرة الرماية، جنود الدوق كانوا قد وصلوا إلى المنزل أخيراً، حتى أن الأطفال قد ألِفُو الخيول الهائجة، سأل مساعد الملك أحد الأطفال أين هي الآنسةُ نازل؟ فأجاب ذاك الطفل المبهوت:
كلهم مروا من هنا.
التفت ذاك المساعد إلى جنوده متسائلاً:
ماذا يقصد بكلهم؟ هيا إذاً، فلتنطلقوا بسرعة هيا الآن...
وأخيراً كانت نازل قد ثبتته بشكل جيد، حينها كانت فلوريندا قد اقتربت منهما بشدة، أطلقت نازل السهم ولكنه لم يصب أيًّا من فلوريندا أو خيلها لكنه أصاب الأرض جوارها، فتناثرت أجزاء التراب أمامهم، كان هذا كافياً لإرباك خيل فلوريندا، توقف الخيل حينها مذعوراً، فأربكت فلوريندا، ولكنها تمالكت نفسها بسرعة ثم أمسكت سهماً، ذاك الذي لو أطلقته فلا يخيب في الأفق.
كان جنود الملك بخيولهم يقتربون، أطلقت فلوريندا العنان لسهمها في ذاك الفضاء الفاصل بينها وبين هدفها، حربٌ كانت تحدث وڤكتوريا تدعي النوم على فراشها تحاول أن تغمض عينيها، لا تريد أن تفتحهما حتى يقال لها إنّ عِقْدها قد وُجِد، وأن هذا الكابوس قد انتهى..
أصاب ذلك السهم هدفه، إنه تماماً في أذن الخيل وقع ذاك الخيل أرضاً، وبقوة ارتطمتا على الأرض، فقدت جيسكا وعيها وبقيت نازل تحاول إيقاظها وهن ملقياتٌ أرضاً..
انتطت فلوريندا خيلها، ثم عادت أدراجها من طريق آخر ليتسنى للجنود رؤية الشابتين... و فعلاً، وجدوا جيسكا ونازل ويبدو أنهما كانتا ذاهبتان إلى مكان ما بعيد...
سأل مساعد الدوق نازل:
أخبريني ما الذي حدث بالتفصيل حالاً.
فأجابته نازل وشرحت له القصة دون تفاصيلها، لم يفهم المساعد ما هو السبب في هذا كله، لن يعي أن السبب كان بسيطا، (الغيرة)هذا كل شيء، عندما يغار المرء من آخر...
يشعر بأن أحدهم قد هز كيانه بنظرة نفسه له... ليس بالضرورة أن تكون أسطوريًّا كي تشعل غيرة أحدهم، الكاريزما الخاصة بك والتي تكون متفرداً بها عن بقية أفراد المجتمع، كفيلةٌ بجعل أحدهم يغار منك بلا سبب جليّ..
وهذا كل ما فعلته ڤكتوريا لجيسكا التي حاولت هي الأخرى، ألّا تستهين بشأن ڤكتوريا، ولكن ثقتها الجامدة أحبطت محاولات جيسكا في التسلل إلى ذاتها، هكذا هم البعض، عندما يرون أن أحدهم يبرز أكثر منه، لا يقاومون الرغبة في الانتقام الغير منطقي لذاتهم، لكِ وعلى الأقل يساوون أنفسهم بذلك الشخص..
يعون جيداً وجود نقص في أجوافهم، وبعد عجزهم عن إتمام ذاك النقص يتجهون نحو الاستراتيجية الثانية، وهي الانتقاص من ذوات الآخرين، على الأقل، في أعينهم هم ليصلوا إلى الرضى الذاتي، وهذا لن يحصل ألبتّة، وقد يحدث أن يؤثر هذا فعلاً في البعض بأن يتأثر من ذلك الشخص فيلحق بنفسه إلى جواره، محققا رغبة الآخر في الانتقام..
أما إن لم ينجح هذا ولا ذاك، فصدقني بمجرد أن يكتشف ذلك الشخص نقطة ضعفك، فلن يتردد أبداً في إيذائك وإقحامك بأمور لست تدري بها، فلا تستهينوا بشأن أولئك الناس، هم ليسوا عاديين إطلاقاً فالغيرة هي أشد بكثير من الحسد، فضع حدًّا دائماً لأيّ شخص كان قد يحاول الانتقاص من شأنك، فهذه ما هي إلا الخطوة الأولى نحو المجهول.....................
عندما عادت فلوريندا إلى القصر.. كانت ملابسها قد اتسخت بالتراب وبعض الأشواك والأعشاب... حاولت ألّا يراها أحد، أدخلت ذاك الخيل إلى الإسطبل، ونزعت معطفها، كوّمته وأمسكت به وخرجت مسرعةً نحو جناحها الخاص، وبينما كانت تهرول في الراوق، كانت تسمع صوت قرع نعال أحدهم يمشي نحوها.. أسرعت أكثر فسقط عنها ذلك المعطف أرضاً، تسمّرت مكانها، هي تعرف أنه لو ربط أمرها بأمر ابنة الدوق لدخلت في بعض المعضلات هي في غنىً عنها.
حاولت أن تلتقطه دون الالتفات إلى الخلف، تراجعت بخطوتين إلى الوراء ثنت ركبتاها لالتقاطه بينما يقترب ذاك الصوت...
أمسك أحدهم يدها، التفتت فلوريندا بسرعة نحوه، التقى ناضريها بمقلتيه...

البورتريه الأخيرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن