{حقيقة مزيفة}

33 5 6
                                    

ليلة ظلماء طويلة كانت الليلة التي تبعت زيارة دانييل الأخيرة للمتحف ، ولم تخلو الدقائق التي غلب فيها النعاس يقظته من الكوابيس المروعة ذات الأيدي التي تلاحقه وتفسد سكينته كلما غفى ، وعندما يأس من محاولاته الفاشلة في الخلود للنوم وأعلن استسلامه لصراع الأفكار في رأسه وقد أصابه من الصداع ما أثقل رأسه ؛ انسحب من سريره بروية وحاصر رأسه بكفيه و جفنيه شبه مطبقين من شدة الألم ، وبعدما تأكد أن البقاء هكذا ومحاولة الصمود لن تنفع قرر تناول بعض المسكنات
"أشعر أن عقلي سينفجر ..." حدث نفسه بينما يصب الماء في الكأس ثم توجه بعدها ليطفئ النار ويحمل إبريق الشاي الذي وضعه سابقا حتى تخمر وملأ عبقه المكان ، فصب منه في الكوب وخرج عائدا إلى غرفته ، ولسبب ما بعد عدة رشفات رشفها تذكر السّيد ويليام و قهوته المميزه وكيف كان يتلذذ ببهاراتها القوية معه ، وتذكر علبة الشوكولاته التي أهداه إياها والحصان وقاعة الرسم فتنهد " أتمنى أن يكون بخير ... إنه لمن السذاجة أن أقلق عليه فهو بالتأكيد يملك حراسة مشددة " رشف رشفة أخرى ثم أخرى ليتذكر لقاءه مع ذلك الملثم عند عودته من المتحف وحديثهما المبطن بالكثير من الحقائق التي لم يستطع فهمها بعد

*
*
" إذا ما الممتع في زيارة المتحف في هذا الوقت ؟" سأل صوت خرج من أحد الأزقة ، وقد كان واضحا جدا أن سؤاله موجه إلى دانييل ، الفتى الذي غادر المتحف بعد زيارته لخمس دقائق فقط ، وتوجهه إلى منزله بعقل مشوّش ، ولم يكن في الأنحاء سواه فتيقن أنه المستهدف . استدار يمنة ويسرة بعد أن سمع ذلك الصوت وقد اقشعر بدنه وأخذ جسده وضعية دفاعية ، فكل مافكر فيه بعد سماعه لذلك السؤال كان كيفية إنقاذ نفسه من شخص مجهول يتبعه ويراقب أفعاله ، وكان الآخر مستمتعا برؤية تلك الرجفة الخفيفة في ساقي دانييل وفي فيروزيتيه اللتين بحلق بهما بينما يمسح محيطه بأنظاره ، واللتان رغم حلكة سواد الليل لم تتوقفا عن اللمعان والبريق بشكل واضح وملفت
" صدقني لست أحاول إخافتك ... "
عاد للتحدث بعفوية وفي نيته التخفيف من التوتر الذي بدأ بالانتشار ، فأردف دانييل بصوت ثابت بالرغم من الهلع الذي بدأ يتسرب إلى جوفه
" خائف ؟ ولم الخوف ؟ أو هل من المثير للريبة زيارة المتحف في وقت متأخّر ؟ "
قهقه الملثم واتّكأ إلى جدار أحد الأبنية وهمهم
" هممم... لا في الحقيقة ، إلا إن كانت الزيارة في الخمس دقائق الأخيرة قبل موعد الإغلاق ، ماذا تعتقد ؟"
ازدرد دانييل ريقه بتوتر ، فإجابة الآخر تكشف بوضوح ما يفكر فيه ، ولم يكن دانييل أبلها حتى لا يفهم أنه مراقب تماما ومع إدراكه لضعفه في المناورة قرر التحدث مباشرة
" ما الذي تريده مني ؟ وما الذي تتبعني لأجله ؟ "
هبّت رياح باردة أوقعت الثلوج المتراكمة على الأشجار وبعض الأسطح ، وطيّرت عباءة الملثّم الرّثة بينما يمشي بخطوات ثابتة ليخرج من مخبأه ويقف بثبات أمام دانييل
" أنظر إليّ ألست أهلا للثقة ؟" أشار إلى نفسه بابتسامة عريضة استشفها دانييل من خلف العباءة التي غطى بها وجهه
" سأكون صادقا معك ، أنا كنت أنتظرك وأراقب تحركاتك منذ ذهبت إلى ذلك القصر وحتى زيارتك الأخيرة للمتحف... "
أخذ دانييل نفسا عميقا ملأ جوفه من نسيم الشتاء البارد وحصر قبضتيه في جيوب معطفه الأسود الطويل ونفث
" رائع أشعر أنني في ورطة " تمتم
" فكر مليا ، لو انني أريد الحاق الأذى بك ، لما عشت حتى هذا اليوم " رد الملثم
"اذا ماهي نواياك الحقيقية وما الذي يربطك بما أبحث عنه ...؟" سأل دانييل بقلق
" اسمع سأقدم لك خدمة وسأوفر عليك عناء القدوم إلى المتحف مرة أخرى ، الرقم على الفرشاة في اللوحة التي في المعرض ، رسم بنفس اساس الالوان في باقي اللوحة ، وشكرا مقدما " تحدث الملثم فتوسعت حدقتا دانييل وخالجه شعور مختلط من التفاجؤ والجزع ، فهذا ينقل الأحداث إلى بعد آخر تماما ، كيف لهذا الشخص أن يعرف بالضبط ما التفاصيل التي يبحث عنها
" ما الذي تريده مني ؟" نطق دانييل
" ربما أن تصدق مع نفسك وتفتح عينيك جيدا وأن لا تسمح للعاطفة والتملق بأخد وعيك منك؟" قال الملثم بينما يقترب ببطء ناحية دانييل ، ليسحب يده ويضع فيها ورقة وأكمل
" أنتظرك هنا - أشار إلى الورقة - سيكون من الجيد إن أتيت لوحدك ، ولا تفكر بالتلاعب بي أيها الفنان "
*
*
أخرج دانييل الورقة التي أخذها من الشاب من معطفه المعلّق ليفتحها مجددا ويقرأ العنوان المذكور فيها بملامح منزعجة بينما عقله يفكر بالسيد ويليام ، فكان يسأل نفسه مرارا وتكرارا عن التصرف الصحيح ، وما القرار الأنسب في وضع كهذا ،إخبار السيد بما حدث أو عدم إخباره ؟ أو التصرف كما لو أن ذلك الملثم لم يخرج أبدا ؟
" يستحيل أن أتغاضى عنه فما يملكه من معلومات يثبت تورطه بشكل من الأشكال ، لكنه لم يستخدم معي أي جمل تهديد صارمة وهذا يجعل الأمر أشبه بتلاعب الجاني حول الضحية فقط لإخافتها... "
زفر طويلا وحول أنظاره إلى صورة مرسومة معلقة لرجل طاعن في السن ، أشقر بلحية قصيرة واكمل " ما الذي عليّ فعله... ، أنت تعلم ياجدي أنني لست شابا متهورا وأعلم أنك ستكون فخورا بي لو استطعت مساعدة السيد ويليام فأنت من أخذ بيدي حتى وصلت إلى ما أنا عليه الآن من اتقان ورزانة "

لوحة الأيدي التعيسة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن