"الفن لا يندثر والفنان لا يموت "
كانت هذه المقولة التي ورثها من جده تستولي على حيز كبير من عقله ، حتى أن إيمانه بها كان راسخا ، وعلى مدار خمسة عشر عاما قضاها مع جدّه تشرّب الكثير من صفاته ، ذوقه في الملابس ، واعتقاداته . فبات بعد فقدانه يفضل الجلوس على كرسيه المصنوع من القصب وحيدا يراقب النيران المتأججة في المدفأة ، ويرتدي الملابس الرسمية والثقيلة والتي كان جده يرتدي طراز يشابهها في شبابه . فكان يرتدي زي رسمي وقلنسوة غالبا أو معطف داكن طويل وقلنسوة أو بنطال قماشي وقميص بأكمام عريضة وربطة عنق وقلنسوة ، وقد أدرك بعد مدة زمنية ليست بقصيرة بأن رابطا وطيدا يربط بينه وبين القلنسوة .
*
*
بعد عدة أيام من الاتفاقية حاول فيها بشتّى الطّرق معرفة هوية الشّخص الذي شارك بتلك اللّوحة في المعرض ، فسأل المسؤولين والحراس عن هويّته او اسمه او علامة مميزة فيه ، لكن دون جدوى فكل ما حصل عليه هو اسم مزيف ومواصفات تتواجد في الأغلبية ، وعندما حاول استعارة اللّوحة حصل على رفض قاطع ، فلم يجد خيارا سوى أن يبحث في الجرائد عن المواضيع المتحدثه عن المعرض كالإعلان عن افتتاحه وما إلى ذلك ، ومن حسن حظه أنه وجد بين الصور صورة اللوحة التي يريد ، توجه إلى قصر - ليبيرالس - ليكمل وظيفته كمحقق ، فحدث الحصان
" كان جدي يقرأ لي العديد من القصص ، تنتهي دوما بانتصار الخير على الشر ، وكنت دوما أتقمص دور البطل الذي يحقق هذه النهاية ، والآن أريد بشدة إنقاذ لوحة السيد ويليام ! "
ولج دانييل إلى حديقة القصر ليترجل عن خيله ويربطه إلى إحدى الأشجار ، قرع الباب ليفتح له هودسون والذي تغيرت ملامحه فور رؤيته وكأنه ينظر إلى قاذورة حيّة وقد لاحظ دانييل ذلك كما لاحظ معاملته له سابقا، لذا حيّاه وهم بالدخول دون انتظار إذن منه ، حتى أن احتكاكا بسيطا بين أكتافهما حصل ، فكاد يغمى على رئيس الخدم مهووس النظافة وأخذ ينفض بذلته السوداء الحريرية بكفه ويغمغم بكلمات لم يسمعها دانييل فالآخر كان قد صعد الدرج ذاهبا إلى وجته بالفعل .
تربع وسط قاعة الرسم ليحاط بالمئات من اللوحات القاتمة تخللتها بعض مصابيح الإنارة ، صمد لوحة السيد ويليام والصورة في الجريدة أمامه وأخذ يقارن بينهما محاولا اكتشاف أي اختلاف .
وقد خالجته مشاعر مشابهة لتلك التي خالجته في أول مرة يرى فيها اللوحة ، رغبة جامحة في التأمل فيها وفهم معانيها ، لوحة غريبه مثيرة ، تحمل الكثير من المشاعر المختلطة ، حتى أنه سأل نفسه " ترى ما الذي كان السيد ويليام يفكر فيه عندما خطرت في باله لأول مرة؟ " ، الكثير من الأيدي ... كل يد محصورة في لوحة وكل لوحة لها إطار، كل يد تعطي اليد الأخرى فرشاة رسم ملطخة بالالوان ، وكأن كل يد تترك أثرا في تاليتها ، حتى تصل الفرشاة إلى اليد الأساسية في اللوحة والتي كان إطار لوحتها هو إطار اللوحة الاساسيّ .
وبينما يقلب أنظاره بين اللوحة والجريدة لمح دليلا بسيطا جدا بالكاد يرى، حتى أنه شكك في كونه دليلا أو مفتاحا لما يبحث عنه ، بيد أنه أعطى للتفكير فيه فرصة ، وقرب اللوحة من وجهه أكثر ليدقق النظر فيها وخاصة في فرش الرسم ، كانت إحدى الفرش - في اللوحتين - تحمل أرقاما تماما كالفرش الحقيقية وهي أرقام تبين حجم الفرشاة ، لكن ما أثار انتباهه اكثر هو أن الرقم المكتوب مكون من خمس خانات وهو عدد كبير خاصة بالمقارنة مع حجم الفرشاة التي تمسكها اليد ...
"تفضل..." قطع صوت رخيم اعتاد عليه ، سلسلة أفكاره لينظر اليه بدهشة فهو لم يسمع صوت البوابة ولا قرع خطواته ، ونظر إلى الأرضية ليجد أن الآخر أحضر له إبريقا يتصاعد البخار من فوهته وفنجانا مزخرفا وقد عرف من الرائحة المنبعثة منه أنها القهوة
" شكراً لك ... أقدر ضيافتك " حدثه مبتسما بعفوية
" هذه تعليمات السيد ليبيرالس ..." قال بوجوم واستدار خارجا ليوقفه سؤال دانييل
" هل السيد ويليام متفرغ ؟ أريد مقابلته "
"أظن أنه فهّمك بطريقة راقية بأن لا شأن له فيما تفعل ، بعدما قدم لك كل الإمكانيات ، أليس كذلك ؟ " أجاب هودسون دون أن يلتفت
" لا ...، هو قال بأنه يستقبلني في أي وقت ، أنت رجل طيب لاهتمامك بسيدك ، لذى أرجوك خذني إليه ... "
استجاب هودسون مرغما فلو أحس سيده بعداوته الملحوظة لدانييل ستكون العواقب وخيمة ، لذا رفع رأسه بتكبّر ومشى بخطواته البطيئة خارجا من القاعة ومتجها نحو غرفة السيّد المعتادة .
أنت تقرأ
لوحة الأيدي التعيسة
Mistero / Thrillerتتلطخ الفرشاة بالطلاء لتنتج عملا فنيا ، لكن ماذا لو تلطخت بالدماء؟