صمت قاتل تخللته أصوات طرق الفناجين على صحونها فنجانا تلو الآخر في يوم شتوي بارد ، تربع شابان وعجوز هرم حول منضدة قريبة من الأرض يحتسون الشاي ويتبادلون النظرات دون أن ينبس أحدهم بأي كلمة ، وبعد صمت طويل قطعه البيرت بتنهيدة مثقلة تحدث
" إن ويليام ليبيرالس ليس مجرد كاذب ..."
عدّل دانييل جلسته بقلق بعد سماعه لتلك الجملة واستجمع كل ما أوتي من طاقة وتركيز لاستيعاب ما سيقوله بيرت ، الشاب الملثم الذي اعترض طريقه عدة مرات وكشف عن شخصه لدانييل بكل شجاعه ، وانتشله من بؤرة كاد ويليام يوقعه بها -كما يدعي-، تلك البؤرة التي لم يفهم دانييل ماهيتها بعد " أكمل من فضلك ""قبل بضعة أشهر استضافني رجل غني في قصره ليطلب مني -مثل أي أرستقراطي - رسم لوحة له مقابل مبلغ سخي من المال حتى أنه وفر لي المكان والأدوات اللازمة وقد قبلت بهذا العرض فتلك كانت طبيعة عملي .وبعد عدة زيارات ولقاءات مع ذلك الرجل قررت البدء برسم أولي يتناسب مع الجو العام للقصر وأثاثه ثم بدأت بنقل الرسم إلى اللوحة القماشية حتى أباشر بطلائها ومن هنا بدأت القصة "
بدأ بيرت بسرد قصته وكان دانييل يترك خطوطا في عقله تحت الكلمات المهمة التي يقولها ويقارنها بالأفكار التي كانت عالقة في رأسه طوال تلك الفترة ، فوجد اجابات كثيرة لأسئلة مبهمة ، عدل بيرت جلسته ليسأله دانييل بعد أن اتكأ على المنضدة
" عندما سألته عنك كنت في روايته أجيرا استضافه ليعلمه الرسم ويكافئه بالمال ، وقد عرض علي مكافأة إن وجدتك وهي أن يقوم بتعييني كرسام للعائلة ، في ذلك الوقت لم أنتبه إلى هذه النقطة لكنني أتساءل الآن ؛ ماحاجة فنان أن يعيّن رساما للعائلة ؟ "
نفث بيرت باستهزاء " هه ذلك الوغد ، " صمت لوهلة ثم عاد ليسأل " دانييل ، أنا على يقين بأنك لاحظت الكثير من الفجوات في تلك التمثيلية المحبوكة التي كان يؤديها فأنت لست غبيا بعد كل شيء ... أخبرني ما الذي لفت انتباهك ؟"حمحم دانييل ينظف حلقه وقد استفزته جملة بيرت وأجاب " بالرغم من أن كذبته أصبحت واضحة بالنسبة لي لكنني لازلت لا أفهم سبب كذبه ، أما بالنسبة لما وصفته بالفجوات فنعم ؛ في عقلي العديد منها وقد حاولت ايجاد مبررات أقنعت نفسي بها بشكل من الأشكال ، لكن ظهورك أرغمني على التوقف والتفكير مرة أخرى . "
كان دانييل في كل مرة يزور فيها القصر وقاعة الرسم بالذات ، تلفت انتباهه اللوحات المعلقة ويتملكه شعور بالضيق غير مبرر ،شعور لطالما شبهه بذلك الذي يراوده في كوابيسه ، فيتأمل في اللوحات واحدة تلو الأخرى ويتعجب من اتقان السيد ويليام لكل مدارس الرسم تقريبا ، ويتقن استخدام أغلب خامات الطلاء ، فتحاك في عقله خيوط رقيقة من الشّك كخيوط العنكبوت ، لكنه كان دائما يصرف تلك الشكوك من راسه ويحاول التركيز فيما كلّف به {لوحة الأيدي التعيسة }والتي لفتت انتباهه بشدة منذ رآها للمرة الأولى ، ولم يخطر في باله مطلقا بأنها قد تحبسه في متاهة لايستطيع الخروج منها ، وأن فضوله اتجاهها سيقوده إلى كل هذه المتاعب
حك رأسه بإصبعه بينما يرتب أفكاره المشوشة " أكثر ما لفت انتباهي كانت الشيفرة التي رسمت بألوان أساسها مائي ، فأي رسام يعلم أن الأساس المائي والزيتي لايجتمعان في لوحة واحدة غالبا أما هو فلم ينتبه إلى هذا الاختلاف من الأساس ، وأعتقد الآن بعد مقابلتك أنك فعلت ذلك عمدا بهدف تكذيب رجوع حقوق اللوحة له ، أليس كذلك ؟"
هز البيرت رأسه موافقا ومتجنبا النظر إلى دانييل تحدث " كنت على يقين أنه سيبذل قصارى جهده في البحث عني لذى اضطررت للتخفي ، ومن حسن حظي أني أحب استخدام اسم مستعار كنوع من التباهي وهذا - بطريقة ما - عرقل وصوله إليّ ، أنا لست من هذا الحيّ لكنني لم أملك خيارا آخر سوى البقاء هنا فهو بالتأكيد كذب كذبة ما أو قام بخدعة للإيقاع بي، عدا عن أنني أخذت على عاتقي مسؤولية كشف جرائمه ، ولن أهدأ حتى أنتقم منه "
توسعت حدقتا دانييل الفيروزيتان وفتح عينيه على أوسعهما مبحلقا ببيرت ، وقبض على كتفه بشدة "جرائم !! ما الذي تتفوه به بيرت ، أخبرني أنك تتهمه بجرائم سرقة ..."
عبس وجه بيرت ليرخي أصابع دانييل القابضة على كتفه ، وأخذ يمسد المكان بيده ليخفف من الألم " لا يا صديقي ، ويليام قاتل"رجّت الصدمة كيان دانييل وشعر كما لو أن روحه انفصلت عن جسده لثوان وارتسم أمام عينيه وجه السيد ويليام البشوش وقد صار شاحبا خاليا من الرحمة ، ولم يستطع إبعاد ناظريه عن بيرت ذو النظرة الجدية
" هل رأيت الجثة ...؟" تمتم بصعوبه
" لا ليس بعد ، لكنها ليست جثة واحدة فقط ، بل الضحايا بعدد اللوحات المعلقة في قاعة الرسم ... تقريبا "
احمر وجه دانييل وجحظت عيناه من شدة غضبه حتى بانت الشرايين في رقبته فضرب بقبضته المنضدة بقوة وتحدث كازا على أسنانه
" لم ترى الجثة وتصر على اتهامه بل وتؤكد أنها ليست ضحية واحدة فقط! كيف تجرؤ !؟"
"اجلس أيها العجول ، واستمع إلى تكملة القصة "
نطق صوت مبحوح بقسوة يحدث دانييل من خلفه ، كان صوت العجوز ذو الشارب وقد بدى منزعجا ، لكن وصفه لدانييل بذلك الوصف ساعد في تهدئته فتحولت مشاعر الغضب التي تملكته إلى مشاعر خزي وخجل ، فأحنى رأسه وعدل جلسته
"اسمع أيها الشاب ، بما أنك قدمت إلى هنا بقدميك وتبعت هذا المتهوّر فعليك سماع القصة حتى النّهاية ثم احكم بنفسك" قال ليقف ويتوجه ناحية النار المتأججة والتي وضع فوقها قدر حساء كبير ، أومأ دانييل بطاعة وخفقات قلبه تضرب في أذانه فور مداهمة صور تلك الأيدي الملطخة بالدماء لرأسه ، والتي كانت منذ البداية تطالب بالنّجدة ، أيعقل أن هذه الكوابيس تمسكت به لتوقظه من غفلته في يقظته ؟ كان يسأل نفسه ، حتى أنه شعر بالاشمئزاز من نفسه لثقته بالسيد ويليام وإصراره على الدفاع عنه باستماتة
حمحم بيرت ليقطع تصادم الحقائق في رأس دانييل وأكمل " عندما بدأت باستخدام الطلاء لاحظت تكتلا فيه وقواما غريبا لم أعهده من قبل وقد بررت ذلك لكون الطلاء باهظ الثمن ومن نوعية لم أتعامل معها بعد ، لكن بعد فترة واجهت مشاكل في المساحات التي لونتها حيث اغمقت بشكل ملحوظ وتقشر بعضها ، في ذلك اليوم خطرت فكرة غريبة في بالي وهي أن آخذ عينات من الطلاء لأجري عليها بعض الفحوصات بهدف الوصول إلى طريقة للتعامل معها ، وقد ساعدني في ذلك صديق مقرب لي كان يعمل في قسم التحليلات ..."
" وهل عارض استخدامك لنوع آخر أو للطلاء الذي تستخدمه عادة ؟" سأل دانييل بفضول بعد أن تذكر إصرار ويليام على فحص اللوحتين والمقارنة بينهما وكأنه كان خائفا من استخدام بيرت الطلاء نفسه على اللوحة المشاركة في المعرض
" نعم ... وعلل ذلك بكون الطلاء الذي يوفره ذا جودة عالية جدا ، واصراره على التكفل بالمستلزمات ..."
انتشرت رائحة الحساء الطيبة في الغرفة واقترب العجوز حاملا وعاءين من الحساء الساخن ووضعهما أمام الشّابين ثم ذهب ليحضر وعاءه مع بضعة أرغفة من الخبز .
شكر دانييل ذو الشارب وطلب من بيرت أن يكمل قصته بحزم بينما يسحب الوعاء من أمامه
" ماذا أظهرت نتائج التحليلات ؟"
فما كان لبيرت إلا أن يستسلم وهو يرى فضي الشعر يشرب الحساء بتلذذ قاصدا اغاظته
" دماء ، كانت الألوان مخلوطة بنسبة قليلة من الدماء "
*
*
أنت تقرأ
لوحة الأيدي التعيسة
Mystery / Thrillerتتلطخ الفرشاة بالطلاء لتنتج عملا فنيا ، لكن ماذا لو تلطخت بالدماء؟