الثامن.

3.6K 138 334
                                    

"شيءٌ كالنّسغ يسيل منك في عروقي. شيءٌ كالضوء يلمع منك في رأسي. شيءٌ كالوهج يجعلني مندهشًا ومتفاجئًا. شيءٌ كالسّر المتواطئ، كالشيطان، بل كالسحر. أنا أؤمن بهذا."

‏—أنسي الحاج


غريب


تنهدت بثقل، بصوت مايسمعه أحد غيري وراء جدران المكتب الرفيعة. نظري بدأ يتضبب في كل مره أطول بالتركيز على الأوراق، على بصمة عبدالعزيز المطبوعة في أسفل كل ورقة. في ذاك اليوم لما ناديته لمكتبي، ماكنت مدرك كفاية كيف كلمات نطقها عبدالعزيز تهز أركاني بهذا القدر. ملامحه اللي تغيرت أمامي وثقته بنفسه تبددت وتلاشت في الهواء الحار مابيننا.

وأنا ثقتي بنفسي تبددت وتلاشت، حالي حاله ولكن بالخفاء. القرب الشديد اللي لأول مرى أحظى فيه، لما يدي مسكت يده، لما ريحة شعره أنتشرت على وجهي مثل ما تنتشر النجوم بالسماء ببعثرة، عبدالعزيز كان يبعثرني بكل شيء فيه.

من حطيت رجلي في هذا القصر وجدول نومي عايم فوق تحت، رغم إني أحرص كل صبح أنزل وأفطر بشهية مسدودة لأجل أقدر أشوفه. لأجل أقدر أحظى بكومة من الدقايق معه. أحيانًا كنت أنزل وعيني ماذاقت النوم ومجرد ما يخلص الفطور ويطلع عبدالعزيز من غرفة الطعام بأسرع ما عنده—أرجع لسريري وأرمي راسي على المخدة وأغرق بالنوم. الأرق والإنهاك اللي أحس فيه كل يوم قاعد يزيد، الأفكار اللي تتسلقني كانت مرهقة. مهما نمت، مهما تمرنت، مهما هربت من القصر لا زال مكانها محفور في عقلي.

أفكار تتضمن عبدالعزيز.

وجودي هنا في هذا القصر بعد مرور عشر سنوات أثر على عبدالعزيز أكثر مما كنت أتوقع في مخيلتي، أعرف... بأني مو الشخص المفضل له، ولكن عشر سنوات إنقضت وعبدالعزيز لا زال حساس تجاهي. لا زال يعاني من وجودي، فكرة إني أشاركه ذات المساحة والهواء كانت تخنقه. كنت أشوف الألم في ملامحه، في عيونه لما يغض بصره عني وكأنه لو سرح فيني راح تنشق الأرض وتبلعه في جوفها.

وعلى العكس تمامًا كان الوضع معي، كنت أغض بصري عن عبدالعزيز لأني أخاف عليه من نفسي. في أيش تحديدًا؟ لا زلت أجهل أمور كثيره فيني وهذا الشعور واحد منهم.

أتسائل وأنا في منتصف ظلام غرفتي، جالس عالأرض الباردة وساند ظهري على السرير—صورة عبدالعزيز بين يديني، أطرافها المهترئة توضح عدد المرات اللي مسكتها أصابعي.

هذي الصورة اللي ألتقطها لي حليم قبل سنة من رجوعي، كان عبدالعزيز جالس في مقهى وعيونه مشغوله على اللابتوب اللي يتوسط الطاوله قدامه. إضاءة الجهاز أنعكست على وجهه رغم إنه كان لابس نظارته لحظتها إلا أن لون عيونه كان مُشع. يذكرني قد أيش وجودي هنا عتّم لون عيونه، حَفز كوابيسه، أثار مشاعره الصعبة عليه.

غريبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن