الكشف المروع

42 16 3
                                    


في اللحظات الأولى التي بدأت فيها ساعة القصر القديم بالدق، ظهر صاحب القصر من الظلال بنظرة تنم عن الملل الشديد.
لقد عاد بيون بيكهيون من جديد، مرة أخرى يعبث بالأرواح المسكينة التي يلتقطها جونغكوك من الممر المهجور على حافة الغابة.
بحكم سحره، استطاع صاحب القصر خداع عقل الفتاة البريئة، جيلين، وجعلها تعتقد وقعها في حباكة من الوهم لا منفذ لها منها.

"قريبي الغالي جيون جونغكوك، توقّعت اشتياقك لذا حضرت بلا إبطاء"، هكذا استقبل بيكهيون جونغكوك بابتسامة ملتوية وهو يدور حوله، محاولاً بهجة اللحظة، بينما جيلين تقف على الهامش، ترمقهم بعيونٍ مليئة بالتساؤل.

"لست في الحقيقة قريبي، بيكهيون. نحن لا نشترك إلا في الحيل الخفية التي جعلتنا أشباحًا"، يقاطعه جونغكوك بنبرةٍ حازمة، متنحيًا عن عناق بيكهيون الوهمي والعبث المتكرر في مسكنه.

تعثر الحوار لبرهة عندما يلتفت بيكهيون نحو جيلين المتحفزة، "أوه، يبدو أني قد أغفلت تقديم نفسي. أنا بيون بيكهيون، القريب الأكبر لجونغكوك، والذي ربما لم تعرفي اسمه حتى اللحظة."

ممدًا يده بترحيب حار نحو جيلين، وهي بدورها تتأمل تفاصيل وجهه التي تنم عن طابع خرافي، جمال تخالطه شموخ الروح الأثيرية، كانت تتساءل بينها وبين نفسها إذا ما كانت كل الأرواح هنا بتلك الهيبة.

"أنا... جيلين" تتلعثم قليلاً قبل أن تستجمع شجاعتها وتقدم نفسها لبيكهيون، الذي يستقبلها بنظراتٍ تتفحص جديدها.

"تبدين كدمية جديدة تائهة في ردهات هذا العالم"، يرمقها بيكهيون بنظرة خاطفة قبل أن ينتزع جونغكوك جيلين من يده، يخفيها خلف ظهره.

"كف من هذه الألاعيب، بيكهون!" يصرخ جونغكوك، وهو يجذب جيلين أكثر. "اذهب لتسلية نفسك بعيدًا عن قصري."

"لا تحتكرها لنفسك؛ قد شاركتك في الكثير من الدمى من قبل، فلم لا تريد مشاركة هذه؟" كان بيكهيون يعلم جيدًا كيف يثير جونغكوك.

وفي تلك اللحظة، تتسمر الأصوات وتتبدد كل اللامبالاة لدى جيلين، إذ انكشفت لها حقيقة الدمى والواقفون أمامها خلال معضلتها التي حلت بها، لتجد ذاتها حبيسة غرفة تغلفها الظلمة وتشي بروح صاحب القصر القاهر، والذي كانت تظن في قلبها أنه لها آمنًا ولكنها الآن تلملم بقايا وهمها، إذ بكامل يقينها فقدت الأمان وباتت مجرد لعبة أخرى تضاف لمجموعته السرمدية.

---

بالخضوع لوهج الظلمة، وَلَّت جيلين عينيها طلبًا لسِحر أو خلاص ينقذها من حلكة القصر الأهيف، غير أن صدى صوت بيكهون كان الوحيد الذي يلوذ بها:"استيقظتِ وأخيرًا"، مثيرًا تيارًا من القشعريرة التي مرّت بجسدها المتحفز.

تقدم بيكهون من زاوية الظل، لتراقب جيلين العينين اللامعتين التي تسبر ظلمات الغرفة وكأنهما جمرتين في جبين الليل. وبمجرد أن أضاء وجهه الغرفة، علمت حتمًا بأنه هو بلا منازع.

"أريد العودة لعالمي"، صوت جيلين مدثرًا بنبرة الرجاء وشحة الأمل، إلا أن بيكهون استقبل دعواها بأطياف الاستهتار البرّاقة، "ولكنك لم تغادري عالمك يومًا"، عاجلها بغمزة وانساب من الغرفة كطيف يتلاشى بخفة.

والآن، وحدها، انغمس في تأمل اللغز الذي ألقاه بيكهون وكأنه سِرّاً ساخرًا يُعجز العقول. ها هي تقف عند النافذة، تنظر إلى خارجها حيث لا تكسر حمرة الليل سوى أحمرار القمر. وفي خفايا الشك، هل كانت الحقيقة تعتلي شفاه بيكهون الساخرة أم مجرد عبث متجدد؟

رخت جيلين خطاها نحو الخارج، بعدد من الخفايا التي رشحت لها الهروب بلا ملاحظة من أحد، أو هكذا ظنت، فلم تعلم بالعيون التي تراقبها من العلو، حيث النافذة وصندوق الأسرار المحكم الإغلاق داخل الغرفة الواهنة.

الغيوم الكثيفة أخفت المسار، فقد خُلِق بثوب الخداع، لا تُبصر جيلين ما وراءها حينها. لكن بعزم يعتمل فيها، والقلب بين جزع وأمل، تخطت حدود الضباب. لتفتح عينيها، فإذ بها تكتشف عالمًا أستار الوهم قد انزاحت عنه، ليعكس الكدر والخراب. القصر الذي كان مأواها بات خرائب تغزوه الأعشاب اليابسة، وأشباح الفاكهة المتعفنة تعبق المكان برائحة الفساد.

قبيل نجاتها من براثن القصر الآيل للزوال، إذ بها تجد نفسها من جديد ضمن دائرته المغلقة، والأمر يبدو أشبه بدورة لا تنتهي. وجونغكوك الصارم العينين يظهر من جديد بحزم الظلال، سكيناً بيده يبرق بلمعان الؤام، وعيناه تشعان بانتظار "لقد كنت انتظر هذه اللحظة منذ دخولك القصر يا عزيزتي".

فبتلك الصرخة الخفية التي لم تُسمع، أكملت جيلين هزيعًا آخر من رحلتها بالعالم الكاذب، أين الخلاص وكيف الهروب من قفص الأرواح الطائرة، وقد باتت كخبز الساحر، في كل مرة تظن أنها قد أفلتت، تتوه بين جدران عالم ليس له وجه الحقيقة إلا زخارف من سراب.

لحظة من لحظات اليقين المفروضة خلف ظهائر السور كانت جيلين تعتقد أنها تفلت، أنها تمزق أغلال العبث التي ربطتها بمصير القصر، ولم تدرك أن فكرة الهروب ذاتها جزءٌ من لعبةٍ أوسع تُحاكُ في متاهة لا تنتهي.

كانت الحوائط تستقبلها من جديد، وكأن أنفاسها قد توارت في الهواء وعادت بها إلى نقطة البداية، حيث يقف جونغكوك، نحّات القدر وحارس الظلال، والسكين الذي يحمله بيده كان أشبه بامتداد لعزمه الثابت والقاسي، ومحياه يسرب الرغبة في سِياق المشهد القادم.

"لقد كنت انتظر هذه اللحظة منذُ دخلتِ القصر يا عزيزتي"، كلماته، المُشحونة بالترقب والنشوة، تتألق في عينيه كالسكين الذي يتصلب بين يديه، أيُّ يقينٍ يمكن أن يمنحها وهي ترتد في كل مرة إلى البداية، حيث ينسج الشبح قصتها بخيوط لا تنقطع.

فأين المفر؟ وكيف تكسر جيلين طوق الإعادة المستمرة، وكل خطوة تبدو كأنها تغوص أعمق في لُبِّ اللغز الذي يربط قصر جونغكوك الآيل وعالمه الخفي بالحياة التي كانت تظنُّ جيلين أنها تعيشها.

عالقة برفقة شبح حيث تعيش القصص. اكتشف الآن