التاسع عشر من فبراير

0 0 0
                                    

كُنت اتأمل في بعض تعاملات الناس لبعضهم البعض وانا اتناول فطوري من الشُرفة ، أرى احدهم يصرخ بغضب في سيدةٍ تمر من الشارع و تمشي ببطء فتُعرقل حركة سيارته و رُبما -يظن- انها ستكون السبب في تأخُرِهِ عن المكان الذي سيذهب إليه ، وآخر يضحك في وجه ابنه الصغير الذي يحمل اناءً مليئاً بالمُعجنات و يُهرول اليه مُسرعاً حتى يتناولا الفطور سوياً ، وفتاة تمشي تبدو مُنعزلة عن العالم تضع سماعتها و رُبما تستمع الى شيء ما ابقاها منشغلة حتى لا تعود للواقع ، وآخرى تقف تحت أشعة الشمس تنتظر سيارة الأجرة لكي تنتطلق الى مكان عملها او دراستها ، كُل هذا بدا عادياً ، الا شيء واحد.

فتاة تمشي وحيدة تمسك بهاتفها ، تُراسل أحداً ما لا تهتم بالمارة ولا بالسيارات و كأن الشارع خُلق لها وحدها ، و الغريب بالموضوع انها تعرف طريقها جيداً ، لا ارتطمت بذاك و لا تعثرت بتلك ولا قتلتها احدى السيارات المارة بسرعة من جانبها،  كيف لها ان تُركز بشيئين بوقت واحد؟ اعتقدت انها رُبما حالفها الحظ ، ورُبما كان لديها شيء مهم لانجازه ، لكن باليوم التالي ، وجدت انها تقوم بنفس الفعلة مُجدداً ، لحظة لماذا تفعل هذا؟ أحقاً يُهمها الهاتف لتلك الدرجة؟ اليوم الثالث على التوالي و الفتاة تقوم بنفس ما قامت به و كأنه روتين! ما بال علاقتها بالهاتف؟ لكن هذه المرة استوقفها فتاة أُخرى تتحدث معها بدا لي انها تسألها عن اتجاهات لمكان ما ، لاحظت كيف انكمشت الفتاه على نفسها و اكتفت بهّز رأسها بلا ، ولكني ظللت اظن انها تعرف الأماكن والشوارع جيداً ، لماذا لم تُساعدها؟
لذا قررت بنفسي ان اقترب اكثر، نزلت فاليوم التالي تأكدت انها بالمسار ذاته ثم نزلت لاسفل لاكلمها و اسألها عن ذات الطريق الذي تسير منه يومياً ، لكنها ببساطة هزّت رأسها ب لا و تركتني و ذهبت لتكمل حديثها بالهاتف!

رُبما كان الهاتف صديقها المُقرب ، لذا لعبت خوارزميات التطبيقات الاعيبها السخيفة ، و ها هو حسابها أمامي، ولحسن الحظ لديها عدد مشترك من الاصدقاء بيننا ، لذا تحدثت الى احداهن و التي لم تتردد لتعرفني عليها على احدى منصات التواصل ، تحدثت اليها و كانت ترد و تفتعل دعابات و لديها مهارات تواصل أشك انها لدي او لدى احد مما اعرفه ، لكن ما كان يشغل بالي هذه هي نفس الفتاة التي تعجز عن الرد عن ابسط الامور و تكتفي بهزّ رأسها بنعم و لا ، لذا قررت طلب منها ان نلتقي و نتمشى معاً الى مكلن ما ، لكنها رفضت بحجة ان لديها شيء مهم ، و بذات اليوم وجدتها تتمشى وحيدة من الشرفة ، حينها علمت ، هذه ليست مشكلة عادية.

لقد اخترقت منصات التواصل الاجتماعي حدود التواصل مع الجميع ، اصبح هذا يُكلم ذاك و تلك تعرف هذه و هذه عندها آلاف الاصدقاء الذين فقط موجودين على تلك المنصة ، لا يخرجون ، لا يذهبون ولا شيء ، فقط هما يتابعون في صمت او رُبما يزيدون عدد المتابعة لبعضهم البعض دون رؤية المحتوى المقدم ، فقط هَوَس الشهرة او رُبما الوصول الى اكثر عدد ممكن من المتابعين ، لا يهم من يهتم بالمحتوى ، وهذا فالحقيقة ما يفعله كثير منا فالآونة الأخيرة، يُجبر الناس ان صح القول على ضغط زر الاعجاب و كتابة تعليقات دون ان يكون الشخص مهتماً البتة بالمحتوى المُقدم ، لماذا؟ ببساطة لان هذا صديقي او تلك ارى انها شخصية مهمة و فلان يُتابعها فيجب ان افعل!

كسرت جميع الحواجز و جميع القيود و فقط اصبح الجميع اصدقاء على المنصة و كما يقولوا يُجاملون بعضهم البعض بضغط الاعجاب او كتابة تعليق ما ، لكن ماذا عن التواصل الحقيقي؟ الاهتمام و الرغبة في رؤية ذلك الشيء المُقدم؟ افتقده الجميع فقط ليكون (لاحق على الترند).

و تأتي المُعضلة هنا ، أيمكننا ان نعتبر منصات التواصل الاجتماعي ، توفر تواصلاً مريحاً لجميع الافراد؟

كم من مرة أُرسل لك رسالة و لم تفهم المغزى وراءها او ادركت ان المعنى الذي فهمته لم يكن المعنى المطلوب؟ لابد انها حدثت بقدر استخدامك لاي تطبيق بسيط ، تريد شرحاً اكثر والا دخل الموضوع بمسار آخر لم يكن بالحسبان.

التعاملات البشرية مُعقدة جداً ، ليست ببساطة استخدامك لتطبيق و التواصل مع بعض الغرباء و الحديث مع بعض الآلات ، التواصل و التعامل البشري ، يجب ان يكون مُتكاملاً ، انت و الشخص الآخر امام بعضكما البعض ، لتصنعا تواصلاً فعالاً ، لكن كتابتك لبعض التعبيرات ، لا يجعل منك شخصاً ذا مهارات تواصل.

العالم نعم يتغير ، لكن بعض الاشياء ستظل ثابتة ، تعاملاتنا مُعقدة لكنها أفضل بكثير من اختباءك وراء شاشة لتعبر فيها عما بداخلك.
الرحلة الثالثة.
اختباء



You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Mar 02 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

بقلم الكاتب Where stories live. Discover now