الفصل التاسع "فوضى عارمة"

8 0 0
                                    

أطوار القمر
الفصل التاسع " فوضى عارمة "
" أخبرني أحدهم أنّ كل الكلمات السعيدة؛ تمضي في طريقها في الجملة وهي تتعوّذ من الاصطدام بـ " لكن".

صدمة شلت تفكيره للحظات وهو يُطلق نظراته المبهمة بالنسبة ل" فيحاء" ول" حسين"، نطقت فيحاء محاولة الكشف عما يدور برأسه : ماذا حدث أيها الشرطي؟ ما سر هذة النظرات الغريبة؟
كانت تُضيق عينيها وتدور بها على ملامح وجهه المكفهر..
حين لم تجد رد وجهت نظراتها نحو "حسين" تسأله مازحة تخفف من حدة الأجواء التي أحس بها قلبها : هل عضة تلك الصغيرة "ندى" عنيفة لتلك الدرجة حتى تجعله يبقى شارداً لمدة خمس دقائق؟  يا إلهي! على أية حال إنها إبنتك يمكنكما التفاهم سوياً..
اخرجته مزحتها السخيفة في وجهة نظره من بئر أفكاره، ليبتسم بسخرية : بل هناك بعض الفوضى في قسم الشرطة، يتجوب عليَّ الذهاب فوراً، مع العلم أثارني الفضول حول من سرق منك هوايتك المفضلة في إثارة الفوضى ولكن هيا سأوصلك في طريقي..

كان "حسين" ينظر له بتوهان، قد تأكد من حدوث خطب ما يخفيه "مطر" ، هو إبنه يعلم جيداً متى يكذب ومتى يقول الحقيقة، لكنه سيجاريه الآن فقط حتى يتسنى له معرفة ماهية ما حدث...

حسين : حسناً يا بني، إذهبوا و "ندى" برفقتي لا تحمل هماً، مد يده نحو فيحاء، لتمد يدها التي تحمل الصغيرة التي غفت فجأة، تضعها في وضع مريح في أحضان جدها...
ثم أكمل : شكراً لكِ يا إبنتي لقد أخمدتِ فوضى هذة الصغيرة قليلاً..
هزت رأسها بإمتنان لتنظر ل"مطر" بتحدي، لم يطق أكثر هذة المسرحية الهذلية، ليزفر أنفاسه بعنف يومأ للواقفة أمامه لتتبعه نحو الباب..

مرت دقائق في طريقهم نحو قسم الشرطة، تنظر لملامحه الجامدة منذ بداية الطريق، يأكلها فضولها حول معرفة سبب تلك النظرات الثاقبة التي رمقها بها في منزله منذ قليل، صمتت قليلاً لم تكد تنطق بكلمة حتى قطع صمتها صوته المتجهم : سوف أنهي كل تلك الفوضى وأعود إليكِ، فقط انتظريني في المطعم القريب لقسم الشرطة...
ودت أن تعانده كالعادة ولكنها آثرت أن تهز رأسها بإيجاب أدهشه لكنه يحتاج أن يختلي بنفسه حتى تتسنى له فرصته في التفكير...
أنزلها أمام المطعم ولم ينتظر بل قطع الطريق نحو قسم الشرطة بسرعة هائلة زادت من فضولها وهي تتابع سيارته بريبة، تنهدت بعمق ثم دلفت لذلك المطعم البسيط، تفوح منه روائح طيبة ذكرتها بوالدتها، تنهدت مرة أخرى ثم أخرجت هاتفها تجري إتصالاً ما... مرت ثواني حتى أجاب الطرف الآخر ليظهر صوتا مألوفا، انه صوت "حسين" : اعرف أن هذا الصمت يحمل في طياته الكثير، أخبريني بما يدور في رأسك، كانت نبرته هادئة يبدو أنه كان يتوقع إتصالها به، صمتت للحظات لترد : مطر كان ينظر لي بنظرات إتهام، هذا لا يبشر بالخير أبدا، بينما أنا احاول أن اكسب ثقته يوجد مايدور من خلف ظهري ويجب عليَّ معرفة هذا بسرعة..
حسين : إهدأي يا إبنتي، مطر ليس متهورًا، إن كان يشك بشئ فإنه يبحث خلفه اولاً، تعاملي مع الأمور بهدوء، لقد كلفنا هذا الكثير والكثير، لقد جعلتني هذة الحرب أخسر إبنتي الغالية، لا عودة من هذا الطريق، يجب أن يعرف مطر الحقائق بالطريقة التي نخطط لها...
تنهدت "فيحاء" : رحمها الله، كلاً منا فقد فلذة كبده، أعلم ألمك لذا أنا معك دائما، انا مدينة لك بالكثير، لا تقلق يا عمي، كل شئ سيكون بخير، فقط اعتنِ جيدا بالمشاغبة الصغيرة، قالت آخر كلماتها وأغلقت المكالمة تطالع المارة شاردة من خلال النافذة، قاطع سيل أفكارها حمحمة ذلك المراهق، إلتفتت نحوه علمت من هيئته انه يعمل بالمطعم، زياد : سيدتي أهلا وسهلا بكِ، لقد اتصل السيد مطر وقام بتوصيتنا لخدمتك على أكمل وجه، إبتسمت بعفوية لذلك المراهق البرئ والذي لاحظت ضمور عضلات يده اليمنى، فيحاء بإبتسامة رقيقة : هل لي بفنجان قهوة سادة أيها الشاب الوسيم؟
إبتسم بخجل وهو يعدل نظارته المتهالكة، هز رأسه : بالطبع سيدتي، هل تأمرين بشئ آخر؟
هزت رأسها نافية وهي مازالت تبتسم، انصرف الشاب "زياد" يملي على والدته طلب "فيحاء" لتُصنع بحب نابعا من محبتهم الشديدة ل "مطر"...
.....................
على الجانب الآخر، حين دخل إلى مكتبه بجنون يدل على زخم الأفكار التي تعتريه بجنون، قطع مساحة المكتب ذهاباً وإياباً، يحاول السيطرة على تلك الأفكار المجنونة، أخرج تنهيدة حارة يمد يده لهاتفه يجري إتصالاً بصديقه  ومساعده " شاكر" يطالبه بالمجئ على وجه السرعة، مرت خمسة عشر دقيقة حتى دلف "شاكر" بتوتر يسأل صديقه عما حدث، بعد أن اخبره ظل "شاكر" يُطالع تلك الرسالة على هاتف صديقه يغرق في تفكير عميق، يعصف ذهنه حتى يعرف كيفية التصرف في هذة الحالة، نطق "شاكر" أخيراً بهدوء : أمر التعاون الذي تم بين "فيحاء سليم" الاعلامية المشهورة وبين أفراد الشرطة يُشغل الرأي العام منذ آخر حلقة من برنامج "الوجه الآخر" الذي تقدمه فيحاء، لذا يا صديقي يمكنني القول ان أحدا يريد الإيقاع بينكما لغرض فض هذا الاتفاق..
طالعه "مطر" بعدم إقتناع ليجيبه : فيحاء لديها طرقها الملتوية، يمكنها فعل الكثير من أجل نجاحها، ولكن لماذا زوجتي؟ ما علاقة "هالة" بكل ما يحدث!
كاد أن يجيب" شاكر"، ليقاطعه "مطر" : أريد معلومات أكثر حول "فيحاء سليم"، يجب أن أفهم خبايا تلك المرأة المتعجرفة..
شاكر : ولكننا قمنا بالتحري عنها أكثر من مرة ولا يوجد جد..
قاطعه مطر مجددًا يعنفه بصوتٍ أعلى نسبياً : بل سنجد، لم يعد يكفيني ما أعرفه، يجب أن نعرف المزيد وكما أنت ترى يوجد الكثير والكثير الذي يتوجب معرفته حول تلك الخبيثة..
نظر له شاكر يحاول إنتقاء كلماته لتهدئة صديقه..
قطع "مطر" ذلك الصمت من جديد متسائلاً : ألم يكن لها توأم يُدعى " حبيب سليم"؟ لما لا نبحث خلفه ربما نجد ثغرة لها؟
تنهد "شاكر" وكأنه كان يفكر في الأمر، اومأ لمطر يوافقه في ذلك قاصداً إنهاء هذا العبث...
....................................................................
عودة مرة أخرى لفيحاء التي تجلس تحتسي قهوتها المُرة، أخذت تُطالع المارة بشرود، إلى أن قطع ذلك "مطر" حيث جلس فجأة أمامها بدون مقدمات، طالعته بهدوء يحمل القليل من الاستنكار : هل تم فض العبث الذي كان في مركز الشرطة؟
اجابها و داخله يسخر من حالته الهادئة أمام من يشك أن لها يد في وفاة زوجته : دعكِ من الفوضى التي في مركز الشرطة اخبريني عن الفوضى التي في عقلك
تنهدت تنظر له تحاول فهم مايدور بخلده : عفواً لم أفهم!
حاول مطر ضبط أنفاسه وهو يقول : لا يمكنني أن أفعل ما حدثتني عنه، لقد تعاهدت مع والده، كما أن النيابة العامة لم تسمح بإعطاء تفاصيل عن الفاعل، كما تعلمين تم حظر النشر في القضية كما تعلمين، لذا المسموح لكِ في حلقة الغد هو الإفصاح عن ما أخبرتك به الآن فقط..
لغة الأمر التي استشعرتها في كلامه لم تُعجبها ، نظرت له  باستهجان : لا أعتقد أنه كان ضمن اتفاقنا أن انفذ اوامرك يا سيد مطر، أنا أفعل ما أراه صائبًا، لذا أرجو منك ألا تعاملني كالدمية فأنا لست بأحد مساعديك حتى أنفذ اوامرك..
ختمت كلامها بإبتسامة مصطنعة تستفزه بها..
حسناً ليكن سيستعمل سلاحها ضدها ولكنه يجب أن يبدو هادئاً الآن قدر الإمكان..
اتجهت انظاره نحو " زياد" الذي لاحظ وجوده للتو حين كان يعمل على إنهاء طلب أحد رواد المطعم..
تقدم زياد نحوهم بحبور وهو يعدل من نظارته العتيقة، إبتسم مطر بهدوء وهو يُحيي زياد وهو يُمليه طلبه بينما نظرت لهم فيحاء تحاول أن تستشف سبب تلك العلاقة الوطيدة، فذلك الشرطي المغرور في نظرها ليس متواضعًا لهذا القدر الذي يجعله صديقًا لمراهق يعمل في مطعم بسيط، داهمنا مطر بسؤاله عما تريد أكله، فأملت على زياد أحد الأصناف في القائمة بينما قاطعها " مطر" : ولكن أقترح عليكِ أن تجربي العدس الذي تصنعه أم زياد، متأكد أنه سيُعجبك..
توترت قسماتها فهي تكره تلك الاكلة ربما لأنها كانت خيارها الوحيد سابقًا أو ربما سمته من نفسها خيارًا بينما كان ذلك اختيارها الإجباري، ولكنها تنحنحت تحاول ألا تجعله يشعر بأي نقطة ضعف تخصها، أومأت بهدوء توافقه ربما لعدم رغبتها في تناول الطعام الآن..
مر الوقت سريعاً وأتى الطعام للأسف، رائحة الحساء تكاد تفتك بها ولكنها كالصنم أمامهم فقد اعتادت على تجرع مرارة حياتها بهدوء، بدأ مطر في تناول طعامه بهدوء يرمقها بنظرات جانبية لا ينكر نظرة الاشمئزاز التي هربت من عينيها سهواً، يبدو أن تلك المتكبرة لا تستصيغ طعام البسطاء، حثها على أن تتذوق حسائها بنبرة هادئة وكأنه ايقظ في عقلها ذكريات ظنت أنها وأدتها، حركت الملعقة بإتجاه فمها وهي تنظر بترقب لها وعقلها يستعيد كل شئ، حين كانت ملابسها تفوح منها رائحة ذلك الحساء أثر دفع عمها الحبيب بالصحن على بطنها ليسبب لها حروقًا بليغة لم  تُشفى بالمراهم والكريمات المعالجة ويبدو أيضاً أن ذلك الصدع في روحها لازال حيًا، أشفق مطر لحالها للحظات حين أحس انها تبتلع جمرًا، امتعاض ملامحها دل على نفورها من الطعام، فحدثها : حسنًا يبدوأن الطعام لا يروقك يمكننا تبديله بشئ آخر
ردت قائلة : لا، أرجوك، أود فقط أن أغادر، بدى صوتها وكأنها تترجاه حقًا، تعجب وكأنها لم تكن تستفزه منذ قليل..
أومأ بهدوء واتجه نحو زياد ووالدته يودعهما بينما إبتسم زياد لفيحاء يودعها بإبتسامة بريئة أنستها للحظات مذاق الحساء البشع بالنسبة لها...
غادرا سويًا المطعم وهو يرمقها بإستغراب ترجمه كلامه : يبدو أنكم في الحي الراقي لا تتناولون العدس سيدتي أعتذر إذا واجهتِ صعوبة في بلعه...
رمقته بغيظ تعلم انه يستفزها : لم أكن طوال عمري من سيدات المجتمع الراقي ولكن بما إنك كنت تظن ذلك فلم تبرعت بإحراجي أمام الشاب؟
بزغ عينيه بإستنكار مزيف : وهل فيحاء سليم تهتم فعلا بمشاعر من حولها؟ هذا شئ مثير للتأمل حقًا..
طالعته بضيق ليس من كلامه فقط ولكن من ذلك الألم الذي يطحن معدتها بالكاد تمكنت من لفظ كلمتين حين فاق الأمر طاقتها : أوقف السيارة.. كان واضحًا للغاية غايتها من إيقاف السيارة، نزلت بسرعة كادت أن تتعثر واستندت على إحدى الأشجار بيدها وقد دخلت في حالة قئ جعلته يتجه نحوها وهو يساندها حتى لا تسقط مغشيًا عليها من خضم من تعانيه، أحس بالندم وبالشفقة في آن واحد، ظلت على هذا الحالة قرابة دقيقتين إلى أن افرغت مافي معدتها ويزيد..
نظرت له بنظرات خاوية تحاول أن تستشف أي مظهر من مظاهر الاشمئزاز على وجهه ولكنها بدلاً من ذلك وجدته يناولها علبة مناديل وزجاجة ماء ووجهه يكسوه القلق : هل أنتِ بخير؟
اومأت بهدوء ثم أجابته بصوتٍ مبحوح : هلا أوصلتني إلى منزلي، أشعر بدوارٍ عنيف..
انتبهت حواسه وهم بإيصالها إلى المقعد المجاور له واستقبل مقعده قاصداً بيتها حيث كانت تمليه العنوان..
ظل كلاهما في حالة سكون طوال الطريق إلى أن وصلا أخيرا، لم تشعر الا عندما ناداها بهدوء يحاول تهدئة الأمور بينهما..
مطر : أرجو ألا تكوني غاضبة مني بسبب العدس، لا يجب أن يكون أول عائق أمام عملنا معًا هو العدس، هذا سبب تافه للغاية..
قالها مازحًا يرغب في امتصاص غضبها الآن على الاقل، لكنها لم تتكلم فقط ضحكت، ظلت ضحاتها تتصاعد حتى طالعته بمرح قائلة : إذًا يمكننا إنشاء عواقب أكثر جدية وعادت للضحك من جديد..
طالعها يتأمل ضحكتها في داخله يدق ناقوس الخطر يخاف أن تكون لها دورًا في مقتل زوجته ومن ناحية أخرى جزء منه يخبره انها نقية رغم قناعها المتشح بالخباثة، لكنه لن يحكم عليها دون أن يصل لكل شئ...
فتحت باب السيارة وودعته بهدوء ثم بدأت تخطو نحو منزلها في الحي الراقي وهو يقف في  يراقبها لم يبرح مكانه بعد، لكنها توقفت فجأة وكأنها تستمع إلى شئ بتركيز، تغصنت ملامحه مستنكرًا مايحدث، رأها تتجه نحو صندوق القمامة الذي بجانب بيتها ، لم ينتظر حين أدرك بحسه الأمني ان هناك خطب، اقترب منها وهي تفتح صندوق القمامة تنظر بفزع نحو أحد الأكياس، التقطت اذنه الصوت وظل كلاهما متسمرًا في مكانه إلى أنه تحركت يداها وفتحت ذلك الكيس ويا ليتها لم تفعل....

أطوار القمرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن