أمي التي تأكل أصابعها

6 0 0
                                    

علي مجدداً تحمل عناء الإجابة عن سؤال ، " لم تلبسون والدتك قفازات عندما تأكل ؟"

وأنا كنت قد مللت تكرار نفس الإجابة لكل ضيف، قبل سبع سنوات من الآن ،خرج أخونا الأصغر لشراء الشاي ولم يعد بعدها أبداً

وبعد أن قلبنا نحن و والداي الدنيا رأساً على عقب بحثاً عنه بلا جدوى ، لا ندخل الشاي لمنزلنا أبداً ، فكلما رأته أمي ...صرخت إلى أن ضربت رأسها بالحائط

و أصبحت تتحرك وتأكل وتنام وتجيئ وتذهب بعصبية مفرطة ،وسرعة من يلحق به وحش ما

عصبية تكاد تحرق نفسها بها ، كانت كل يوم تخرج لتسير الشوارع كلها بحثاً ، حتى أنها عبرت الجسر ووصلت المدن المجاورة مرات عدة وتعبنا في إعادتها

ومازال اختفاء الشاب اللطيف عجيباً ،وكأنه تبخر في الهواء

قبل إختفائه كانت تبلغ من الوزن حوالي الثمانين ، امرأة ممتلئة بدينة ، بخدود هدلة وكفوف ناعمة وشخصيةٍ مرحة

الآن من يراها لا يصدق الهزال الذي أصابها ، لشدة المشي ، سبع سنوات دون انقطاع تخرج كل يوم للمشي ،والبحث عنه

لم تعد تتحدث عنه منذ سنتين فقط,لكنها مازلت في داخلها المرأة التي تفتش عن ابنها الذي مازال بالنسبة لها بعمر السابعة ويجب أن يعود قبل موعد العشاء لإنه جائع

خسرت كل وزنها بسبب المشي الطويل ،والتظيف القهري الذي تقوم به في المنزل لشدة العصبية

وحتى عندما تأكل ، تبدأ بعض أصابعها وإدخالها في فمها مع الطعام

وكأنها تنتقم من ذاتها بالألم ، وكأنها تعاقب نفسها على عدم إيجاده

وفي كثير من المرات ، اضطر أبي لمصارعتها حتى تخرج يدها من فمها بعد أن تبدأ بالنزيف ،وفي بعض الأحيان كانت تأكل بعدوانية وسرعة إلى أن تتألم معدتها وتذهب لإخراج كل ما فيها

كان اختفاء أخينا سكيناً يقطع من  عمرنا على الجهتين هو من جهة وحالة أمي من جهة أخرى ، ومصائرنا متعلقة بهذه المرأة المسكينة المبتورة الشعور ،التي نراها تعاني وتتألم يومياً دون قدرة على مساعدتها

فصرنا كي لا تأكل نفسها أكثر ، نضع يديها داخل القفازات الخاصة بالطهي ،ونطعمها أنا أو أختي أو أحياناً أبي عندما نكون نحن في العمل

وكل ما زارنا أحد ، وتكررت زياراته ، كان علي أن أشرح له لماذا نقيد يدا والدتي قبل كل وجبة

ولماذا يربط أبي يديها لدعامة السرير قبل أن تنام ، لأننا وفي كثير من المرات خلصناها بصعوبة من فقئ أحد عينيها بإصابعها وهي في أحد كوابيسها

إلى أن بدأ من يعرفوننا من الجيران يتعاطفون معنا ، فيطعمونها عندما ننشغل بالدراسة ، ويعيدونها للمنزل عندما تتأخر خارجاً وهي تدور بلا توقف في المساء البارد

لطالما نامت وهي منهكة من التعب وتنادي " جوزيف ، جوزيف ،جوزيف...."

إلى أن استيقظنا في يوم ، ووجدناها تأكل على الطاولة بهدوء ، بالشوكة والسكين وبكل أناقة وتلقائية

رائحة الخبز الشهي كانت تفوح من المطبخ والطعام اللذيذ عل الطاولة ، مرتدية ثوبها المخمل الليلكي الجميل وتؤفع شعرها الذهبي في كعكة مرتبة

هذه كانت أمي قبل إختفاء جوزيف ، وعندما رأيناها هكذا أصابنا الفزع جميعاً

ماذا لو كانت علامات صحوة ما قبل الانهيار التام ؟!

ألا يعود الإنسان إلى رشده قبيل دنو أجله بقليل ؟!

تحلّقنا حولها وضممناها ، لتخاطبنا في هدوء وكلها يقين : جوزيف سيعود اليوم

نظرنا لبعضنا وأيقنا أن والدتنا المسكينة قد وصلت حدها الأخير

وأن الهلاوس ستأخذ ما تبقى من روحها وسنفارقها قريباً كما فارقنا جوزيف

وطوال هذه السنوات عاركنا جميعاً فكرة وضعها في مصحة ،وأننا عائلتها التي أحبتها دوماً وسنعتني بها كما يجب

لكن هذه الهلوسة التي وصلت لها اليوم ، تخبرنا أن الأطباء أولى بعلاجها ،قبل أن نفقدها تماماً

لذلك دار نقاش مؤلم بيننا وبين أبانا ،أن نضعها أخيراً في مصحة نفسية

وفي اليوم الذي قررنا فيه ذلك ، كذبنا عليها أننا سنخرج معاً للبحث عن جوزيف

وقد قمت أنا وأختي بنقل أمتعتها عبر النافذة إلى السيارة ، من دون أن تشعر

ولربما هي نفسها كانت تستشعر بالخطة اللئيمة التي صنعناها ،لكن ربما هي نفسها أرادت إنهاء ألمها والاستسلام ونسيان فلذة كبدها للأبد

رأيتُ في عينيها نظرة الأم التي تقول " أنا أعرف ما تفعلونه لكنني سأدعكم تفعلونه لأنني أحبكم "

وتركنا باب المنزل مفتوح ،ومن ذلك الباب المفتوح , طلّ شابٌ فتي ، كان يرتدي بذلة عسكرية متسخة

حليق الشعر ، بعينين فضيتين واسعتين

ابتسم ، وسقطت والدتي على الأرض

جوزيف عاد ، بمعجزة الهية وقصة غريبة أغرب من الخيال

وفي الوقت الذي كنا قد سلمنا جميعاً بعد طول سنين بإختفائه بلا رجعة

بعد بضعة أيام على تلك الطاولة التي جمعت ذكرياتنا السعيدة

جلسنا مرة اخرى كعائلة كاملة

أخذت يدا والدتنا ترتجف ، بدأت تبكي وهي تأكل وتدفع الطعام بعجلة داخل حلقها ،وتمضغ أصابعها قبل أن تخرج من فمها

أردت النهوض وإحضاء القفازات ، لكن جوزيف ....أمسك يديها ،ووضعهما في يديه

ابتسم لها وهو يبكي

ثم بدأنا جميعاً نبكي

لقد انتهى العذاب.

إهداء إلى الشاب محمد الذي خرج لشراء الشاي ولم يعد

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jul 25 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

قصص قصيرة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن