2. الّلقاء.

118 8 0
                                    

اليومَ كانَ يوم إجازتي. و إخترتُ تقضيتُه في التسكّع خارجًا؛ فلو بقيتُ وحدي داخل أسوار غرفتِي لنالت مني سوداويتي و غرقتُ في بحر أفكارِي حتى أستقبل صباحَ اليوم التالي بصداعٍ أنا في غنًى عنه.

سرتُ بين الطُرقات أتوغّل عميقًا بين المتاجِر العتيقة. حيثُ تصدحُ موسيقى التسعينيات و يتسمُ الجوّ العامُ بالهدوء، حيثُ أنتمي.

دلفتُ لمتجرٍ عتيق كنتُ أرتادُه كلما سنحت لي الفُرص، متجرُ كتبٍ قديم تلوحُ في هواءه رائحةٌ الجنّة، إن كانت الجنّة بالنسبةِ لك هي رائحة الورقِ الرثّ و النباتاتِ الرطبة المسقيّة تربتُها حديثًا.

كانَ المتجرُ يحتوي على القيثاراتِ القديمة و الحديثَة، و العديدِ من أشرطةِ الأفلام و مسجّلات الأغاني من الحقبةِ الماضية، و يمكنكَ أن تستنجَ لما هو متجري المفضّل.

- مرحبًا بك، كيف يمكنني مساعدتُك ؟ فقد كنتَ تقفُ منذ مدة و تتأمل الرفوفَ فهل تبحثُ عن شيءٍ مُحدد ؟-
صدحَ صوت يافع من خلفي، و رغمَ علميَ التام بأن صاحِب الصوتِ رجلٌ بالغ، فإن صوتَه أرقّ من زخّة مطر مسائي. فألتفتّ لتقابلني هيئةُ صاحِب الصوت، و يالها من هيئة بديعة !.

- في الواقع كلّا، أنا أبحثُ عن شخص، هذه أول مرةٍ أراك هنا فهل السيّد يون بالجوار ؟ فلي مَعه موعد-

إستحلّت عقدة خفيفة ما بينَ حاجبيه الذين رسمهما الربّ في أبهى صورة، و إنحنت أطرافُ ثغره الرفيع مع إنكماشةِ ذقنِه و لاحت لمعةٌ خاطفة في عينيه البهيّتين، و كأنّ ملامحه الخلّابة توحِي ببكاءه الوشيك.

- أنا آسف.. أقلتُ شيئًا خاطئًا ؟.. -
إقتربتُ مِنه، و شيءٌ في صدرِي آلمني لكلّ شيء، حزنُه و شيءٌ آخر علمتُ حدسيًا أنني سأدركُه بعدَ قليل.

- السيّد يون.. والدي قد فارقَ الحياة منذُ أسبوعٍ مضى، و أنا إبنه. لا بأس لستَ المخطئ و لكنني أحبّه لدرجة ان لاحت ذكراه تنتابُني رغبةٌ في البِكاء.. فأنا أفتقده كثيرًا -

إرتجَفت نبرتُه و أنا كلّي إرتجفَت
إقتربتُ منه بخطى واهنة و هو إقتربَ منّي بضعَ خطوات و كسرنا المسافات و الحواجز، إستقرّ بين أذرُعي و في أحضانِي و شرعَ يبكي على والده. حتى إنهيارك كانَ هادئًا !.

- أنا آسف لفقدِك، قد كان شخصًا جيّدًا، فلترقُد روحُه بسلام-
فقدانُ معلّمي آلمني كثيرًا، و لكنّ بكاءكَ عليه كان مؤلمًا على حد سواء، لأنّ فراغَ روحك لا يمكنني ملؤه بكلماتِ العزاء.

لذا سأحتضنُك أقوى، فإبقى بينَ ذراعيّ و لا تغادرني؛ فمِن بعدِ عناقَنا الأمجّ علمتُ كم كنّا وحيدين. و كم إحتجنا لحضنٍ واسِع يتسعُ لفرطّ ما نحملُه من شعور.

التسعيناتُ مَعك - جيهانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن