في تلك القرية النائية، البعيدة عن أعين الغرباء والمخبأة بين طيات الجبال الضبابية، كانت الأرض تنبض برائحة المطر العتيق، كأنها تمتص كل قطرة من الذكريات الثقيلة التي تراقصت بين الحقول المهجورة. الأشجار الشاهقة، بأغصانها الملتفة حول بعضها، بدت كالأصابع العظمية المتشابكة، تهمس بين أوراقها اليابسة أحاديثاً غامضة. وكأنها تسعى، بكل ما لديها من عمر، لإخفاء حقيقة لم يجرؤ أحد على كشفها. هواء القرية كان أثقل من المعتاد، وكأن نَفَس الأرض محملٌ بلعناتٍ قديمة، تراكمت عبر السنين، وتجسدت في هذا الصمت الغريب الذي يلف المكان. في هذه البقعة المعزولة، الحياة لم تكن تسير ببطء فحسب، بل كادت تتجمد، وكأن الزمن ذاته قد قرر طيّها وإدخالها في جيب الماضي المنسي.
المنازل في القرية كانت تقف كأطياف صامتة، عيونها المغلقة (نوافذها) تحدق في الفراغ بلا حياة، جدرانها المشققة تخفي وراءها أسراراً مكبوتة. كانت الشرفات الخشبية تئن في الليل، بصوت يكاد يسمعه من يملك حواساً مفرطة الحساسية. هذا الصوت، همسٌ خافت، يروي قصصاً لم يعد أحد يرغب في سماعها، قصصاً كُتبت بدماء لم يتجرأ أحد على ذكر أصحابها.
وفي قلب هذا العالم الميت، كان هناك منزل، يقف في منتصف الحقول الجرداء، كالندبة التي تشوه وجه الريف. هذا المنزل، بشرفاته المتهالكة وأبوابه الصارّة، بدا مسكوناً بشيء لم يكن من عالم الأحياء. كل زاوية فيه، كل شق في خشبه المهترئ، كان يتحدث بلغة لا يفهمها البشر. كان الهدوء الذي يخيم عليه أشبه بصمت المقابر، ثقيلاً ومؤلماً، كجثة متجمدة تنتظر من يكتشف سرها المدفون.
المنازل القديمة، بأبوابها الخشبية المتهالكة ونوافذها المغلقة بإحكام، بدت كأنها أرواح نائمة، تخشى أن يُوقظها أحدهم. سطوحها المتشققة المغطاة بطبقة من الطحالب، ارتفعت كالحواجب الغاضبة، وكأنها تحذر الداخلين من الاقتراب. في هذه القرية، لم يكن هناك متسع للكلام. كل شيء كان هامداً، عدا همسات الرياح التي تتسلل عبر الشقوق كأصابع باردة تلمس كل من يجرؤ على الاقتراب.
في هذا المكان المنعزل، كانت تعيش ليلى. امرأة بجمالٍ هادئ كغروب الشمس، وعينين واسعتين تملؤهما الحيرة. كانت تجلس غالباً بجوار نافذة الغرفة الرئيسية، تراقب الحقول الممتدة خارجاً، وكأنها تبحث عن شيء ما. شيء ضاع منها منذ زمن، ولم تعد قادرة على العثور عليه. ربما كانت تبحث عن الطمأنينة، أو ربما كانت تراقب الظل الذي كان يتسلل بين الأعشاب، متربصاً، متخفياً، لكنه دائماً هناك. ليلى لم تكن وحدها، فقد كان بجوارها زوجها حسن، وابنتهما الصغيرة لينا.
المنزل الذي عاشت فيه ليلى لم يكن مجرد جدران وأثاث، بل كان وريثاً لصمت ثقيل ولعنة موروثة. بعد وفاة والدها، الذي قضى أيامه الأخيرة هامساً بأشياء غريبة، تاركاً إياها غارقة في بحر من الأسئلة، ورثت ليلى هذا المنزل ومعه ثروة طائلة وأملاكاً شاسعة. ثروة كان يمكن أن تكون نعمة، لكنها تحولت في هذه القرية إلى عبء ثقيل. همسات أهالي القرية، نظراتهم الجانبية، كل شيء كان يشي بأنها أصبحت غريبة بينهم، كأن المال قد رسم حولها حدوداً تفصلها عن الآخرين.
أنت تقرأ
DAUTHTER
Horreurدماءٌ توارثتها نساءٌ بغير قصد، لعنةٌ خافتٍةٌ كالريح، لا تُرى ولا تُصد. فتحَت ليلى عينيها على ظلامٍ غريب، ملَكها السحرُ كجداتها، والشر منها اقترب. آهاتٌ تُحاكي الشوق للقبر والسهاد، وترنيمةٌ قديمةٌ في عروقها تسري كالسهاد. كلَّ ليلةٍ، تهمس لها الظلال ب...