الفصل الثامن : "براءة" -الجزء الثاني-

8 1 0
                                    

تحت سماءٍ رمادية غطتها الغيوم الثقيلة، كان الليل يتنفس المطر. قطرات المياه تختلط بالدماء التي غطت الأرض، متغلغلة بين أشلاء الأجساد التي لم تعد تملك صوتًا أو حركة. داخل الملهى الليلي، كل شيء صامت؛ الرقص الذي كان يعج بالحياة قبل لحظات أصبح مجرد ذكرى ممزقة تحت وطأة فيليريا، التي وقفت وسط الفوضى، بملابسها الملطخة بالدماء. لم يكن في عينيها أي ندم، ولا شعور بالخسارة. كانت مجرد عاصفة مدمرة عابرة.

كان الرجل الذي وعدها بالحب والزواج ملقىً بين تلك الأجساد، لم يكن مميزًا عنهم الآن. لحظة واحدة من الخيانة، عندما رأته يتبادل القبلات مع امرأة أخرى في منتصف الليل، كانت كافية لتشعل وحشية لا يمكن إخمادها. فيليريا لم تقتل فحسب؛ بل دمرت كل من كان في المكان، وكأنها تعاقب العالم كله على تلك الخيانة.

لحسن حظ من تبقى على قيد الحياة خارج الجدران المدمرة، كان ويليام حاضرًا. وقف بجانب السيارة، مراقبًا الحدث من بعيد قبل أن يتدخل في اللحظة الأخيرة، قبل أن تفجر المكان بأكمله. بلمسة واحدة على ذراعها، قادها إلى السيارة، صامتة ومتبلدة، بينما أرسل رجاله لتنظيف المذبحة خلفهم.

داخل السيارة، كان المطر يعزف لحنًا كئيبًا على الزجاج، وكان الجو داخلها كثيفًا، مشحونًا بالصمت. وجه فيليريا لا يزال ملطخًا بالدماء، لم تنظفه الأمطار بعد، لكنها لم تحرك ساكنًا لغسله. بقيت عيناها تحدقان في النافذة كأنها تنظر إلى شيء بعيد جدًا عن هذا العالم.

قطعت الصمت ببرودٍ محكم: "عدتُ وحيدة مجددًا."

ويليام، الذي كان يدرك ثقل الكلمات، أجاب بنبرة هادئة مختلطة بالفضول: "لم أكن أعرف أنك من النوع الغيور؟"

دون أن تلتفت إليه، ردت بنبرة باردة أشد من الجو الخارجي: "لم أغر... لم أكن أحبه من الأساس. لكنه كان يجب أن يحترمني... أن يحترم خطوبتنا. ما فعلته كان مجرد عقاب... ليس أكثر."

ابتسم ويليام، لكن تلك الابتسامة كانت حزينة، مغموسة في فهم عميق لطبيعة فيليريا المظلمة. "هل ستبقين هكذا إلى الأبد؟" سألها بنبرة أكثر جدية، كما لو كان يحاول دفعها للتفكير في ما وراء غضبها.

لم ترد فيليريا على الفور. لوهلة، بدت وكأنها تغرق في أفكار بعيدة، عميقة. عيناها تتعلقان بالفراغ، كما لو كانت ترى شيئًا لا يمكن لويليام إدراكه. وأخيرًا، ردت بصوت لا يخلو من حزنٍ دفين، "ما باليد حيلة... كل من تقدم لخطبتي كان يطمع في منصبي... ومكانتي. لا أستطيع الوثوق بأحد. أنا في السادسة والعشرين... لكنني أدركت أن فكرة إيجاد شخص يناسبني... تبدو بلا جدوى."

نظر ويليام إليها بحذر، يعلم أن هذا الموضوع يطاردها، حتى لو لم تعترف بذلك علنًا. "ولكن فيليريا... من سيأخذ منصبك بعدك؟ الزعيم... يجب أن يكون هناك وريث، أليس كذلك؟ أيضا... ذلك المنصب... الفارغ منذ..."

أصوات المطر أصبحت أشبه بنغمات موتٍ تلتف حول الحوار، فيليريا لم ترد فورًا، عينيها تتوهان مرة أخرى عبر النافذة المبللة. تنهدت بخفوت، وكأنها تحمل على عاتقها ثقل عالم بأكمله، "سأجد حلاً... بطريقة ما."

---

"ماذا؟" يعود الزمن من ذكريات فيليريا الي ليو الذي همس ليو بصوتٍ مبحوح، جسده متجمد كتمثال، وعيناه معلقتان على فيليريا. لم يكن متأكدًا إن كان ما سمعه صحيحًا، أو ربما كان مجرد حلم.

"ليس أمرًا." قالت فيليريا، بصوت هادئ لكنه ثقيل. كانت هذه المرة الأولى التي تتحدث فيها بلهجة لا تخلو من شيء يشبه... الطلب؟ لم يكن ليو معتادًا على هذا منها. شعر بموجة من الحيرة والارتباك تتسلل إلى جسده، لكنها سرعان ما تلاشت.

"أنا... لا أفهم. زواج؟ أنا؟ أنا في السابعة عشرة! وأنتِ..." تمتم ليو بكلمات متقطعة، بينما تحدق فيه فيليريا بعيونها الثاقبة.

"إذا رفضت، سأمر رجالي بإعادتك إلى الشوارع التي أتيت منها. ببساطة... فلا قيمة لك هنا."

كانت كلماتها كالسيف الذي يخترق صدره. شعر ليو بأن عقله على وشك الانفجار. "انتظري! كل شيء يحدث بسرعة كبيرة! ل-لا استطيع تحمل كل شيء في ليلة واحدة!؟"

نظرت إليه فيليريا ببرود، كما لو كان سؤاله عديم الفائدة، "أعرف."

ازدادت الحيرة في عيني ليو، "لكن... لماذا أنا؟"

نظرت إليه فيليريا بعينيها الثاقبتين، وكأنها تستطيع قراءة أفكاره. "مظهرك البريء... لا يمكنه خيانتي. أنت لا تسعى وراء السلطة، أليس كذلك؟"

"ماذا؟" همس ليو، محاولًا استيعاب معنى كلماتها.

"هذا كافٍ بالنسبة لي." قالتها ببرود، قبل أن تضيف بنبرة لا تقبل النقاش، "هل ستتزوجني أم لا؟"

صمت ليو، قلبه ينبض بعنف في صدره. "أتريدين الزواج من فتى في السابعة عشرة؟"

لم يرد توقع أي رد، تجمد في مكانه خائفا ما إن كان سؤاله إهانة، لكن المفاجأة جاءت حين أجابت ببرود قاتل، "لا أهتم."

"أنا... لا أعرف." تمتم ليو، وكأنه يبحث عن مخرج من هذا الكابوس.

تنهّدت فيليريا، ونهضت من مقعدها ببطء. كانت خطواتها ثقيلة وواثقة وهي تقترب منه. ارتجف ليو، تراجع خطوة إلى الخلف، لكن عينيها لم تفارقه.

"أمامك شهر واحد لتقرر." قالت بصوت قاتم، "لن تغادر هذا المكان حتى تعلن قرارك."

ثم استدارت وخرجت، تاركةً الباب مفتوحًا خلفها. وقبل أن تختفي تمامًا، نظرت إليه مرة أخيرة، "تعال."

نظر ليو إلى الباب المفتوح بذهول، قلبه مليء بالحيرة والخوف. تبعها على الفور، خطواته ثقيلة ومترددة، لكنه لم يكن يملك خيارًا.

....

-يتبع-

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Oct 12 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

قلبت الادوارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن