تحولات الرموز في القداس

62 1 0
                                    




نعثر على وصف للقداس في رسالة بولس اﻷولى إلى أهل كورنثوس (23/11) : "إن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها (روحه) أخذ خبزاً ، وشكر فكسر وقال : خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور ﻷجلكم . اصنعوا هذا لذكري . كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا قائلاً : هذه الأيام هي العهد الجديد بدمي . اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري . فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيئ".

ونعثر على روايات مماثلة في وصف القداس ، وذلك في كل من إنجيل متى ومرقص ولوقا.

أما في إنجيل يوحنا فإننا نرى الفقرة التي تتحدث عن القداس تذكر "العشاء" (ما يعرف بالعشاء اﻷخير للسيد المسيح عليه السلام مع حوارييه) ، وتقرن ذلك بغسل المسيح ﻷقدام تلاميذه.

وفي هذا العشاء يقول المسيح الكلمات التي تشرح معنى القداس وجوهره (إنجيل يوحنا 15/ 1-5) : 《أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرام . كل غصن في لا يأتي بثمر ينزعه . وكل ما يأتي بثمر ينفيه ليأتي بثمر أكثر . أنتم اﻵن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به . إثبتوا في وأنا فيكم . كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة كذلك أنتم أيضاً إن لم تثبتوا في . أنا الكرمة وأنتم اﻷغصان》وهذه إشارات مستوحاة من التوارة.

وإننا لا نجد في تاريخ المسيحية إقامة لشعيرة القداس (القربان المقدس) إلا بعد عام 150 ميلادي.

والواقع أن القداس هو "القربان (الوثني) المقدس" بعد أن أضيف إليه كثير من الطقوس المعقدة.

وهو يتبع التركيب التالي :

طقوس تمهيدية ⬅ تقدم القربان ⬅ التكريس ⬅ المناولة ⬅ الختام.

في القربان المقدس نجد فكرتين متميزتين تتشابهان ، فكرة "العشاء" و "القربان المقدس".

وكلمة "القربان مشتقة من اﻻفعل اليوناني "يضحي" أو يذبح ، غير أن له أيضاً معنى "اﻹحتراق" أو "الاشتعال".

وفي هذه إشارة واضحة إلى أن النار التي كانت الضحية تشوى عليها وتقدم للآلهة.

وكانت هذه الضحية أصلاً تقام ﻹطعام اﻵلهة عند الشعوب الوثنية.

أما دخان الشواء فكان يحمل الطعام معه إلى الكائنات العليا سكان السموات! وفي مرحلة لاحقة صار الوثنيون يؤمنون بأن هذا الدخان هو الشكل الروحاني للقربان.

ولا بد هنا من التذكير بأن المسيحيين ظلوا حتى فترة متأخرة من العصور يعتقدون أن الروح مادة متبخرة رقيقة الشكل مثل الدخان.

أما "العشاء" فمتحدر من كلمة يونانية تعني "وجبة الطعام" التي كان يتقاسمها الذين كانوا يحتفلون بالقربان أو التضحية حيث كان إلههم حاضراً.

وهو أيضاً وجبة مقدسة يأكلون فيها طعاماً مقدساً.

ولهذا تعتبر تضحية أو قرباناً.

والقداس المسيحي يتضمن هذين المعنيين (معنى العشاء ومعنى القربان أو التضحية).

وهذا ما جاء في اﻹنجيل على لسان المسيح : 《جسدي المكسور ﻷجلكم》 ، وهذا يعني أحد أمرين ، إما أنه أعطي لكم لتأكلوه ، أو أنه أعطي لله من أجلكم.

إن فكرة "العشاء" أو وجبة الطعام تستخدم كلمة "الجسد" بمعنى "اللحم" الذي يؤكل.

وإلى جانب الرواية اﻷصيلة علينا أن نعتبر ما جاء في رسالة بولس إلى العبرانيين (13/ 10- 15) مصدراً محتملاً للقداس :

"لنا مذبح لا سلطان للذين يخدمون المسكن أن يأكلوا منه ، فإن الحيوانات التي يدخل بدمها عن الخطية إلى اﻷقداس بيد رئيس الكهنة تحرق أجسامها خارج المحلة . لذلك يسوع أيضاً لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب . فلنخرج إذا خارج المحلة حاملين عاره ، ﻷن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العقيدة . فلنقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح أي ثمر شفاه معترف باسمه".

وكمصدر آخر علينا أن نذكر رسالة بولس إلى العبرانيين 17/7 :

"ﻷنه يشهد أنك كاهن إلى اﻷبد على رتبة ملكيصادق".

ويقال أن شخصية ملكيصادق التي وردت في رسالة بولس إلى العبرانيين قد وردت أيضاً في العهد القديم (ملاخي 1/ 10-11) :

《من فيكم يغلق الباب بل لا توفدون على مذبحي مجاناً . ليست لي مسرة بكم قال رب الجنود ولا أقبل من يدكم . ﻷنه من مشرق الشمس إلى مغربها إسمي عظيم بين اﻷمم وفي كل مكان يقرب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة ﻷن إسمي عظيم بين اﻷمم قال رب الجنود》.

ووفقاً لرسالة بولس إلى العبرانيين (3/7) فإن ملكيصادق كان : "بلا أب ، بلا أم ، بلا نسب . لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة ، بل هو مشبه بابن الله هذا يبقى كاهناً إلى اﻷبد".

وواضح أن هذه الشخصية كانت تمهيداً لشخصية المسيح التاريخية التي صارت تجسيداً للكلمة.

إو فكرة الرهبنة اﻷبدية والقربان المقدم لله باستمرار يمضي بنا إلى أحد أهم أسرار القداس ، وهو تحول جوهر اﻷشياء وتغيره.

وهذا ما يشكل العنصر الثالث في القداس.

إن فكرة القربان والعشاء لا تشكل سراً في حد ذاتها ، على الرغم من أن احتراق الذبيحة ودخانها (الذي تحول إلى بخور في القداس) المتصاعد ، والرماد المتبقي رموز للوهم البدائي والاعتقاد بتحول اﻷشياء وتغيرها حيث تكسب بعدها الروحي أو تصبح روحاً.

لكن هذا الجانب ليس له أهمية عملية في القداس ، فهو لا يبدو إلا في عملية التبخير الثانوية.

أما السر الحق فيكمن في أبدية الرهبنة أو الكاهن الخالد على غرار ما فعله ملكيصادق وعلى غرار التضحية التي يقدمها لله باستمرار.

إن ظهور نظام لا زمني يعني أن هناك معجزة حصلت عند تحول اﻷشياء (المادية إلى روحانيات) . . . إن شعائر القداس تمضي بهذه اﻷشياء مرحلة مرحلة إلى أن تصل بها إلى الذروة ، أي إلى مرحلة "التكريس" حين يعتقد الكاهن والمصلون أن المسيح نفسه بدأ يتكلم ويقول الكلمات الحاسمة على لسان الكاهن.

في تلك اللحظة يصير المسيح حاضراً في الزمان والمكان ، غير أن ظهوره ليس بعثاً جديداً أو ظهوراً ثانياً كما يتوهم . . .



اﻷصول الوثنية للمسيحيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن