الفصل الثاني

8.4K 151 3
                                    

عندما خرجت سارة من قاعة القطار ، واجهتها أشعة الشمس ، وشعرت بصفاء الجو والهواء المنعش ورأت الألوان المختلفة أشد وضوحاً . صعدت ، بعد ذلك إلى الحافلة التي تنقل المسافرين القادمين إلى المدينة واتخذت مقعداً بجانب النافذة.
شعرت بأن فترة انتظار المسافرين كي يأخذوا أماكنهم في الحافلة قد طالت ، وكان إيوان واحداً من هولاء ، ولكن ماذا يهم؟ فكرت سارة ، انه لايعني لها شيئاً أكثر من كونه رفيق درب لن تلتقي به ثانية.
مالت سارة بجسمها إلى النافذة ، ولعب الهواء الدافئ بشعرها الناعم الذي غطى قسماً من وجهها ، فيما كانت الحافلة تخرج عن الطريق الرئيسية وتدخل إلى الشوارع حيث اصطفت حوانيت البيع المختلفة بمظلاتها الواقية من الشمس ، ومحتويات واجهات العرض التي تأخذ اللباب وتدهش النظر.
ثم شاهدت سارة في الشارع الرئيسي لمدينة أوكلاند ، المدينة المتعددة الثقافات ، العمال يخرجون من أماكن عملهم ويتمشون على الأرصفة ، يرتدي الرجال قمصاناً بيضاء منشاة وسراويل قصيرة عملية وجوارب بعلو الركبة.
والفتيات يرتدين التنانير المقلمة . وبدت عليهن النضارة والصحة . تحدث أكعاب أحذيتهن صوتاً كالموسيقى.
أحست سارة فجأة أن لون بشرتها الأبيض هو أشد بياضاً من أي بشرة رأتها.
مرت الحافلة ، بعد ذلك، بمحاذاة المرفأ ، حيث المياه تلمع وكأنها مغطاة بآلاف القطع من الكريستال نثرت على صفحة من الحرير الأزرق . ورأت سارة القوارب ، وسفن الركاب ، وسفن الشحن الراسية قرب الأرصفة . ورأت تمثال محارب الماوري ، المؤثر يلقي بظله على مياه المرفأ ، ويقع في خلفيته بركان رانفيتوتو الخامد ، الذي قرأت عنه سارة في الدليل السياحي الذي كانت تحمله.
بعدما ترجلت من الحافلة ، عثرت سارة على وكالة سفر تقع على الرصيف المحاذي لمياه المرفأ ، دلفت إلى داخله ، واقتربت من مكتب جلس إليه موظف بدا غارقاً في أحلام اليقظة . وقفز عندما رآها قادمة.
" صباح الخير." حيت سارة الموظف :" لقد وصلت لتوي من انكلترا وأريد ... " عيناه كانتا تلمعان من الإثارة ." ... أن تساعدني في عدة أشياء!"
نظر إليها وهو غير مصدق عينيه ، وحدق في وجهها المفعن نظارة وحماساً وقال :" وصلت لتوك ، أنت تبدين على أحسن حال بعد سبع وعشرين ساعة من الطيران المتواصل ! اخبريني كيف استطعت أن تحافظي على هذه الصورة الرائعة ؟"
" لقد كان ذلك سهلاً." أطلقت سارة ضحكة تدل على سعادتها البالغة . " أنا مسرورة جداً ، لوجودي في هذه البلاد ، اخبرني من فضلك كيف أصل إلى وايماري ؟ أريد الذهاب إلى كروم صن فالي . هل سمعت بهذا الاسم؟"
" أجل سمعت بهذا الاسم ، من لم يسمع به ؟ إن العنب الأحمر الممتاز ربح العديد من الجوائز هنا وفي الخارج . ولكني لم أتذوقه لسؤ الحظ لأني غير قادر على دفع ثمنه المرتفع ... حقاًانه شيء عظيم حقاً أن يصبح لمنتجات نيوزلندا هذه السمعة الجيدة في الأسواق العالمية . هل قلتِ انك تريدين الذهاب إلى وايماري ؟ انها تبعد قليلاً عن طريق السيارات الرئيسي ولكن عندنا حافلة تنطلق إلى هناك الساعة الثالثة بعد الظهر."
أحست سارة بغشاوة انسدلت فوق عينيها المليئتين باللهفة وأحتجت :" هل سأنتظر كل هذا الوقت ؟ لقد كنت آمل ..."
" ليس هناك من مشكلة . عندنا حافلة أخرى للرحلات ستتحرك من هنا." نظر الموظف إلى
ساعته للتأكد من الوقت وأردف :" بعد نصف ساعة ، ستنقلك معظم مسافة الطريق إلى هناك ، ولكن كي تصلي إلى الكروم ، يجب أن تأخذي طريقاً زراعية سيراً على الأقدام ، أعني إذا لم يكن لديك مانع!"
" طبعاً ، لامانع ." لمعت عيناها ثانية :ط لقد نفد صبري من الانتظار!"
" ولكن ماذا عن حقابئك ، إذا كنت ستسيرين؟"
" أنا لا أحمل إلا هذه الحقيبة الصغيرة ." أنزلت الحقيبة عن كتفها ووضعتها على الطاولة أمامه.
" هذه الحقيبة لن تكون عائقاً ." وهذه العبارة التي قالها الموظف لها سوف تسمعها سارة مراراً بعد ذلك لأنها قول مألوف في نيوزلندا :" سيكون عندك متسع من الوقت لشرب القهوة في المطعم القريب من المكتب ، استمتعي برحلتك !"
رمقته ضاحكة وهي تدير له ظهرها :" إذا لم أستمتع برحلتي أكون قد أخطأت التقدير من البداية ، وأعني بذلك ، أن كل المتع بانتظاري ، هناك ، في صن فالي.
دخلت سارة المقهى النظيف ، ومن شدة توتر أعصابها فقدت شهيتها ولم تنفع في استردادها كل أصناف الحلويات الشهية الموضوعة على الرفوف الزجاجية . تناولت القهوة في كوب من الفخار وذهبت إلى رصيف الحافلة وجلست على مقعد تنتظر بدء الرحلة.
جلست بجانب النافذة وانطلقت الحافلة مارة في شوارع المدينة المزدحمة بالسيارات . متعت سارة نظرها بالأبنية الحجرية القديمة التي تعلوها الأبراج . وشاهدت قسماً من الحركة في الشارع والأشجار المتناسقة ينعكس في زجاج الأبنية الحديثة.
عندما خرجت الحافلة من المدينة مرت بأحياء كانت مداخلها مزرعة بالأشجار الكثيفة الوراق والباسقة ورأت سارة لافتات كتب عليها للبيع . بعد قطع مسافة على الطريق أصبحت الأكواخ الخشبية تظهر متباعدة عن بعضها البعض ومرت الحافلة بمرتفع بدا وكأنه خالٍ من السكان إلا فيما ندر . كوخ هنا وكوخ هناك أو قطيع من الغنم يرعى إلى جانب الطريق . وكان هناك المزيد من التلال والهضاب.
بعد السير لعدة ساعات وصلت الحافلة إلى قمة تل وشعرت سارة بالنسيم البارد على وجهها الدافئ ، ورأت الدخان يتصاعد من مكان ما في الوادي ، وسمعت زقزقة العصافير تقطع السكون المخيم.
لاحظت سارة بعد فترة أن الحافلة قد انعطفت عن الطريق الرئيسية وأخذت طريقاً فرعية . ترنحت وتباطأت في سيرها على الأرض الوعرة . كان المسلك متعرجاً يصعد عبر غابة كثيفة من النباتات المحلية ، كلنا توغلوا أبعد في هذا المعبر الملتوي ، ازدادت كثافة الأشجار حوله ورمت بظلالها على كامل الطريق وأصبح لونها أكثر اخضراراً . شعرت سارة بارتفاع درجة الحرارة داخل الغابة ، وبالعرق ينضح من جبينها المغطى بالغبار.
وأخيراً ، تحولت الطريق إلى الانحدار نزولاً من القمة وسارت الحافلة عبر أراضٍ معشوشبة ورأت سارة الشمس تشع ثانية . أوقف السائق الحافلة فجأة ، ونظر إلى سارة .
" لقد وصلت يا آنسة سميث إلى وجهتك."
لم تعر سارة أي انتباه للوهلة الأولى ، ثم استوعبت فجأة ، " الآنسة سميث..." انه الاسم المكتوب على جواز سفرها وعلى أمتعتها . رمقت السائق بنظرة خالية من التعابير ." أنا لا أرى أي أثر يدل على الكرم أو أي شيء آخر ، هل أنت متأكد أن هذا هو المكان ؟"
" لا تقلقي ." قال السائق وقد غلفت وجهه البرونزي ابتسامة ترحيب :" إن الكرم ليس بعيداً من هنا ، ولكنك لا تستطيعين رؤيته . تابعي السير على هذا الطريق الترابي حتى تصلي إلى النهر . وهناك ستجدين الكرم الذي يقع بجانب الجسر ، المسافة غير بعيدة!"
" لقد اعتقدت أن المسافة ستكون أبعد من ذلك ... أوه !" أدركت سارة في لحظة ." هل هذا يعني انك خرجت عن خط رحلتك المرسوم كي توصلني إلى أقرب نقطة."
أكد لها السائق مبتسماً :" أنت الآن ، لوحدك ، على أفضل حال."
ابتسمت سارة وقالت :" سأكون على ما يرام."
" صن فالي ، انه مكان رائع ، ستحبين هذا المكان ، حظاً سعيداً."
وبينما كانت سارة تنزل على الدرجات الحجرية المؤدية إلى الطريق الترابية ، تعالت الأصوات من الحافلة مودعة اياها :" أرجو ان نراك ثانية ... انتبهي لنفسك ... لاتشربي الكثير من الشراب... اشربي كأساً عني ... وداعاً ... وداعاً ...وداعاً!"
بدت سارة بحجمها الصغير ، وقد وقفت تلوح بيدها وتراقب الحافلة التي دارت على نفسها وابتعدت مخلفة وراءها غيمة من الغبار الأصفر ، مثل نقطة صغيرة في هذه المنطقة المترامية الأطراف.
انتصبت قامة سارة بينما كانت تسير على الأعشاب اليابسة بجانب الطريق العتيق . لاحظت سارة أن المنطقة تبدو خالية إلا من أزيز النحل ورائحة ورق الأشجار . ثم رأت لافتة معلقة على شجرة كتب عليها كروم صن فالي . استدارت قليلاً مع منعطف الطريق وكادت أن تتوقف عن التنفس . فقد بان لها بعيداً ، في أسفل التل ، الكرم الذي انتظرت رؤيته طويلاً . صفاً بعد آخر من الأغصان المترامية على الأسلاك المعدنية ، تفصل بينها معابر طويلة ، مغطاة بالعشب الأخضر . ورأت أن كل صف ينتهي بخميلة من الورود المتفتحة . كل شيء كان ساكناً في الوادي ، ولف الضباب التلال المجاورة قليلاً . أنصبت أشعة الشمس على العرائش المزروعة في الوادي المخبأ ، حيث العناقيد الناضجة ، باللون الأحمر الفاقع تدلت من أغصانها وبان أن الوقت قد حان لقطافها .
وبعد وقت غير قصير ، استطاعت سارة التخلص من سحر هذا المنظر وتابعت السير عبر الممر المليء بالمنعطفات متجهة إلى المنزل الكبير المبني من حجارة رمادية اللون وعلى مرتفع بجانب الطريق العشبي المنحدر .
ظهر لسارة فجأة ، كوخ قديم كان محجوباً تقريباً بالكامل ، عن النظر ، بنبات البوغنفيلا ذي الأزهار الارجوانية المتعربشة على جدرانه وبعريشة العنب التي القت بعناقيدها وأغصانها على السطح . أدركت سارة أن هذا الكوخ ربما ، هو البيت الذي سكنه المستوطن الأوروبي الأول الذي أنشأ زراعة الكرمة وزرع الشتلات الأولى التي أتى بها من أوروبا البعيدة . وتذكرت ، أن ستيفن أقام في هذا الكوخ قبل أن يبني المنزل الكبير الذي كان من المفترض أن يكون جاهزأً لاستقبال عروسه الانكليزية .
مرت سارة في طريقها إلى المنزل الكبير ببركة سباحة ، عكست مياهها أشعة الشمس ، وتزينت صفحتها بالزهور المختلفة الألوان التي سقطت عن الأغصان المتدلية فوقها كالسقف . ثم رأت المباني الخارجية المجاورة للمنزل الكبير وكان أحدها مرآباً ، لاحظت من مدخله المفتوح وجود سيارة صغيرة وبيك أب وجرار زراعي متوقفة داخله .
وصلت سارة بعد ذلك ، إلى فسحة حيث افترق عن الطريق الموصلة إلى البيت ممر فرعي وضع إلى جانبه عمود ، علقت عليه لافتة تشير إلى غرفة الاجتماعات . ومهبط للمروحيات.
يا للسماء ، فكرت سارة وقد أصابها الذهول ، مهبط للمروحيات ، هنا في هذا الكرم!
وصلت أخيراً إلى طريق عريضة صالحة لمرورالسيارات تؤدي مباشرة إلى البيت الحجري في أعلاه ، وتسلقت سارة بخفة الدرجات الفاصلة بين الطريق ومدخل البيت ، ولاحظت أن أشعة الشمس قد تسربت من نوافذ المنزل الفرنسية الطراز إلى الداخل . ورأت كلباً أسود يتفيأ في ظل حاجز ، وقد انتصب واقفاً عندما رآها وهز ذيله بألفة .
ضغطت سارة على زر الجرس ، وسمعت أصداء رنينه تتردد في أنحاء المنزل.
فتحت لها الباب امرأة ، ذات ملامح صغيرة ، حافية القدمين ، ترتدي فستاناً صيفياً بانت منه كتفاها .
كانت بشرتها التي غطاها النمش ، كالجلد الناعم البني اللون ، رمقها بتعجب وسألت :" نعم؟"
" مرحباً ." قررت سارة أن تتجاهل نبرة المرأة الجافة .
وقالت في نفسها ، ربما يتكون الشك في الغرباء من العيش في مكان منعزل كهذا ." أنت لا تعرفينني ، ولكن ..."
ابتسامتها التي أسرت بها قلب المحامي في لندن فقدت بريقها في مواجهة هذه المرأة ." اسمي سارة ولقد سمعت الكثير عن هذا الكرم وقد أتيت ..."
"انت؟" لاحظت سارة أن ملصق الخطوط الجوية النيوزلندية قد جذب انتباه المرأة ." أنت من انكلترا ، أليس كذلك ؟" قالت وقد بان على وجهها الاحمرار والغضب الشديد ، وحدقت في سارة بعدائية واضحة.
" لقد وصلت هذا الصباح ..."
" أوه ، أنا أعرف من أنت ! أنت الفتاة الرديئة من انكلترا!"
ارتفعت نبرات صوت المرأة وفقدت السيطرة على أعصابها :" لن تلاقي أي ترحيب هنا ، طالما أنا المشرفة على هذا المنزل ! اذهبي وابحثي عن مكان أخر للمبيت ." كانت تنطق الكلمات وكأنها تصب جام غضبها على عدو :" ربما البيت الذي في المزرعة ، عند نهاية الطريق يقبلك مقابل أجرة !"
لعقت سارة شفتيها كي ترطبهما ." ولكني اعتقدت ..."
" لقد كان ظنك خاطئاً عندما توقعت أن بإمكانك البقاء هنا ، اذهبي الآن!"
" مساء الخير." جاءت هذه التحية بصوت رجولي عميق ، واستدارت سارة على نفسها لتواجه الشاب ذا الشعر الداكن الذي كان يصعد الدرج متوجهاً إليها ولاحظت في الوقت نفسه ، أن المرأة ذات الوجه الصغير الأحمر اختفت داخل المنزل بعدما كانت تقف في الباب وتسد الطريق بجسمها على سارة .
" أنا فيك ." قدم نفسه مبتسما وبثقة ورمقها بنظرة كسولة ." ما المشكلة ، هل أستطيع مساعدتك بشيء ؟"
" نعم ، طبعاً." وللحظة نسيت سارة كل شيء حولها إلا هذا الرجل الواقف أمامها ، متناسق الجسم ، مفتول العضلات ، شعره ناعم أسود اللون ، وابتسامته جذابة وظهر حول شفتيه المرسومتين بدقة القليل من حب الشباب . من خلال هذه الصورة المشرقة ، ولونه البرونزي ، وجدت سارة هذا الرجل جذاباً يأسر الألباب.
تسارعت الأفكار في مخيلة سارة . هذا الرجل يشع بحيوية خشنة وجاذبية خلابة فاتنة . ماهذا ! ان الاشعاع منه يدخل أعماقها : هزت نفسها كي تخرج من دائرة هذا السحر إلى دائرة الواقع . لاشك انها تعرضت كثيراً لأشعة الشمس ومن المحتمل انها أصيبت بضربة شمس . ولكن، ربما تستطيع السيطرة على مشاعرها المنطلقة إذا لم تحدق مباشرة في هاتين العينين ذواتي الأهداب الكثيفة .
" ماهو غرضك؟" قطعت نبرته القوية عليها اضطراب أفكارها ، وترددت في الإجابة ، لأن الكلام الذي كانت قد حضرته نفسياً ، لتقوله في هذه المناسبة ، تلاشى برمته من رأسها بسبب عدائية المرأة التي قابلتها عندما وصلت . فكرت سارة ، وسرعان ما أدركت أن من الصعب أن تفصح عن هويتها أمام هذا الرجل .
" إنه ..." سمعت صوتها ، وكانت تأمل في نفسها أن تكون نبرته مرتاحه ." هل أستطيع التحدث إلى مدير الكرم ؟ إذا لم يكن ..." وبرغم نظرة عينيه العميقتين المفعمتين بالحياة التي أحبطت معنوياتها ، جهدت وأكملت جملتها :" ... مشغولاً أو خارجاً؟"
" أنا متأكد أنه موجود ." ولوهلة لمحت سارة أسنانه البيضاء القوية ووجهه الملوح بأشعة الشمس ." أنت تتكلمين معه في هذه اللحظة !"
اتسعت عينا سارة من الدهشة ." هل تعني ." تمتمت وهي غير مصدقة :" انك مدير كرم سنفالي ؟"
" لنقل فقط ..." لاحظت سارة نبرة تهكمية في صوته .
" ... اني أشرف في الوقت الحاضر على سير العمل !"
" ولكني ظننتك أحد العمال ." خرجت الكلمات من فمها بعفوية :" أعني احد الذين يعتنون بشتلات العنب ." ومرت في خاطرها ، فجأة فكرة ؛ إذا كان يبدو بهذه الجاذبية والوحشية وهو لايرتدي إلا قميصاً وسخاً وسروال جينز مرقعاً ، فكيف سيبدو لو ... وأوقفت سارة مخيلتها عند هذا الحد .
" أنت على حق ثانية ." قال بنبرة متفحصة وتلاقت نظراتهما . أحست سارة على الفور أن عينيه تخترقان أعماقها . وازداد نبضها . في لحظة مجنونة شعرت فيها أن ضوء الشمس يغمرها راقصاً ، وجهدت كي تبعد نظرها عن عينيه الداكنتين الساحرتين .
" ما الذي تريدينه مني؟" وبدا لها أن صوته الرخيم بنبراته العميقة يأتي من مسافة بعيدة .
" حسناً ، بصراحة ..." حاولت سارة أن تستجمع أفكارها .
شيء ما ، كان يجعل من الصعب جداً عليها أن تخبر هذا الغريب عن هويتها . ولكنها كانت تشعر بالارتياح لعدم ظهور المرأة الصغيرة الغاضبة ثانية . وسمعت نفسها أخيراً تقول بصوت ناعم ورقيق ، تقريباً :" اسمي سارة ، وقد وصلت هذا الصباح من انكلترا ، أنا ..."
" سارة !" اختفت كل معالم البراءة المصطنعة عن وجهه فجأة ، ولاحظت سارة من تعابير وجهه المميزة ومن عينيه اللتين كانتا تلمعان مثل عيني ّ قطعة في الظلام ، ان هناك شيئاً خطأ ، وأحست أن الموقف أصبح مشحوناً بانفعلات .
" سارة سنكلير ." أضافت بسرعة وليظن مايريد بهذا الاسم.
رمقها فيك بنظرة ريبة ." هل قلت ... سنكلير ؟"
" نعم ، هذا اسمي ." أكدت له بصوت متحشرج ، ومصصمة أن لاتسمح لنفسها بأن تهاب هذا الغريب القوي الشخصية .
تغيرت ملامح وجهه فجأة وعيناه اللتان كانتا تبدوان وكأنهما قطعتان من الثلج الأسود ، لمعتا وامتلأتا بالنور .
" يبدو ان الأمر اختلط عليّ بسبب برقيات وردتني بمعلومات متضاربة ." الابتسامة التي ظهرت على محياه كانت تدفئ القلوب ." لقد ظننتك فتاة أخرى ."
خيم الصمت على سارة ودفعت خصلة من شعرها الكستنائي الغزير إلى ماوراء أذنيها . وتسارعت أفكارها المتضاربة والحائرة . الشيء الوحيد والمؤكد هو انها لا تستطيع البقاء هنا ، حسبما خططت بسبب ردة فعل مدبرة المنزل الغاضبة عندما قابلتها . واستغربت أن لايكون اسمها معروفاً من المدير ، بالطبع كيف يمكنه ذلك ، وتذكرت سارة أن اسم الفتاة التي ورثت الكرم ، الاسم المذكور في وصية ستيفن وفي جواز سفرها ، هو سارة سميث ؛ وليس سارة سنكلير . ولذلك لم يبد عليه انه يعرف ان سارة سميث وسارة سنكلير اسمان لفتاة واحدة ، وتساءلت في نفسها عما كان سيفعله لو تقدمت منه وأخبرته صراحة بأنها هي الفتاة الأخرى !"
" لقد فهمت الوضع الآن ." تحولت تعابير وجهه من الارتياب والشك إلى الارتياح ، وأكمل بصوت عميق وهاديء :" لقد نشرت اعلاناً في الصحيفة المحلية منذ حوالي الاسبوع عن وجود عمل مؤقت في الكرم ، هل جئت من أجل ذلك؟"
صدمت سارة بهذا الاستنتاج ولم تستطع التفكير بهدوء . ترددت في الجواب . حتماً سيفسر صمتها على انه علامة قبول ، قالت سارة في نفسها بعد أن عاد إليها توازنها العقلي.
" كنت آمل أن يجيب أحد على إعلاني ، لأني بحاجة إلى مساعدة . اننا على وشك البدء بالقطاف وفريق العمل ، من الفتيات المحليات اللواتي يأتين كل سنة في موسم القطاف لم يكتمل عددهن هذه السنة . لم أعطِ تفاصيل في النشرة الإعلانية توضح ماهية الوظيفة . اني أحتاج إلى فتاة يمكنها القيام بمهمات مختلفة ، قطف العنب ، تعبئة الزجاجات ، وضع الملصقات ، الاهتمام بطلبات البيع الواردة بالبريد ... وربما تستطيع أن تقوم بمهام المضيفة في غرفة الاستقبال ، وتشرف على راحة زائري الكرم الذين يصلون بالحافلات السياحية ، ومتذوقي الشراب الذين يأتون مجموعات لمشاهدة معمل التقطير ."
" بصراحة ." أكمل المدير حديثه :" لقد فقدت الأمل حتى أن يرد أحد على الاعلان . ولكن ، على الأقل ، لاشك أن أحداً قد قرأه وان هناك استثناء للقاعدة . إن بنات المزارعين في هذه المنطقة ينزحن إلى المدينة للعمل هناك ، بمجرد أن يحصلن على الشهادة الثانوية . وأي فتاة تأتي من خارج المنطقة ، لا تستطيع أن تتحمل العزلة في هذا المكان لوقت طويل ، ولا أحد يستطيع إلقاء اللوم عليهن ، وكما أرى ..."
أضاف فيك وعيناه شبه مغمضتين من وهج الشمس وهما ترمقان وجهها الشاحب :" ... أنت لست فتاة محلية ."
أدركت سارة في تفكيرها المضطرب أن مغزى حقيبة السفر التي تحملها لم يفته ، وتمنت أن لا يقرأ اسمها الحقيقي المكتوب على ملصق الخطوط الجوية النيوزلندية .
تأكدت سارة من أن فيك لم يقرأ اسمها على الملصق عندما أضاف قائلاً :" اخبريني ، منذ متى ، أنت تقيمين في هذه البقعة من العالم ؟"
احترسي ، لا تدعيه يعرف انك وصلت لتوك إلى نيوزلندا ، قالت سارة في نفسها وأجابته :" لم يمض علي وقت طويل ."
" تماماً كما ظننت !" شعرت سارة بالاضطراب تحت تأثير نظراته المتفحصة ، ونقلت ثقل جسمها من على قدم إلى الأخرى ." إذاً أنت لم تأتي لأنك قرأت الاعلان ؟"
" لا، لم أقرأ الاعلان ." أدركت سارة أن هذا الرجل لا تفوته ملاحظة أي شيء ، خاصة إذا كان هذا الشيء سراً تحاول اخفاءه عنه . صوته الهاديء والممغوط خدعها في البداية .
" أنت من انكلترا ، أليس كذلك ؟" سألها فيك .
ما الفائدة من محاولة إخفاء الحقيقة ." لقد وصلت إلى نيوزلندا ، هذا الصباح !" علت صوتها نبرة التحدي ، ولكنها ، مرة ثانية ، لم تستطع تفادي نظرته التهكمية !
" لماذا تسأل ، هل هناك من فرق؟"
" ليس بالنسبة لي ." ظهر على شفتيه شبه ابتسامة ." لمن ، هذا مايبدو عليك !"
" ماذا تعني بذلك ." رمقته بنظرة استياء على ابتسامته الساخرة .
" نحن هنا لا نلتقي كثيراً من الفتيات على شاكلتك ، هذه البشرة العسلية بلون الكريمة ..." لمرة الأولى أظهر الاهتمام بها كامرأة .
" أنا ؟" قالت وهي غير مصدقة ما تسمع . ووعت العرق اللزج الذي كان ينضح منها ، ولابسها المتسخة بالغبار ، وشعرها الأشعث المبعثر في كل الاتجاهات بفعل الهواء الذي لفحها من نافذة الحافلة التي أقلتها . وبرغم كل هذا ، بدا على فيك انه كان يعني ما قال . انه مديح بسيط ! ولكن لماذا أربكها وأفقدها صوابها؟ شعرت باحمرار خديها ، لسبب ما ، لم تفهم كيف استطاع هذا الغريب أن يؤثر في عواطفها بهذا الشكل .
" كيف اهتديت إلى الطريق إلى هنا ." سألها فيك وشعرت سارة بالراحة ، لأن سؤاله ليس له علاقة بسبب قدومها إلى الكرم . وتستطيع الاجابة عليه :" بصراحة ، أقلتني حافلة سياحية من أوكلاند وكانت الرحلة ممتعة حقاً ، عبر هذه الغابات."
قست تعابير وجهه فجأة وقال :" انها ممتعة حقاً ، طالما لاتوقفين السيارات ... أوتوستوب ... لنقلك من مكان إلى آخر عبر هذه المناطق ، أنا لا أنصحك بذلك."
شعرت سارة بشيء من الانزعاج ، يا للسماء ، مَنْ يعتبر هذا الرجل نفسه؟ كي يقول لها ماذا عليها أن تفعل أو لاتفعل ، وهو ما يكاد يعرفها ؟
قالت بلهجة جافة :"أنا أستطيع الاهتمام بنفسي ."
عادت إلى التفكير في مشكلتها ، بعد دقيقة . وتذكرت قسوة تعابير وجهه، عندما ظن انها سارة الأخرى . بان القلق عليها وهي تلف خصلة من شعرها حول اصبعها مرة بعد أخرى . انه يحتاج إلى يد عاملة في الكرم ، لا شك في ذلك . ولكنه لا يريد سارة سميث في صن فالي ، تماماً مثلما لا تريدها مدبرة المنزل .

" في المواسم السابقة ، آتاني العديد من الشبان والفتيات الغريبي الأطوار ..." بدأ فيك الحديث ثانية :" ... من انكلترا ، من أوروبا ، من كل مكان ، معظمهم كان جوالاً ، ينتقل من منطقة إلى أخرى ، ويقوم بمختلف الأعمال المؤقتة ، في توضيب فاكهة الكيوي ، أو قطف العنب في الكروم ، أو فرز التفاح والدراقن في البساتين . أكثريتهم تلاميذ يقومون برحلة سياحية وفي الوقت نفسه يغطون مصاريف سفرهم بالعمل هنا وهناك . أعتقد انك واحدة من هؤلاء ؟ هل أنت هنا لقضاء عطلة ، وتغطين مصاريفك من العمل في الكرم ؟"
هل تسعين للعمل في الكرم ؟ حسناً ، يبدو هذا منطقياً ، قالت سارة في نفسها ، وأجابت وهي لا تجد حاجة لاخفاء لهفتها :" نعم ، أنا ابحث عن عمل مؤقت ."
كانت أفكارها الحائرة تتدافع مع بعضها البعض في الوقت نفسه . لقد عرض عليها وسيلة للخروج من المأزق الحالي . ولديها الآن فرصة للبقاء هنا وتحقيق أمنيتها في أن تعيش الحياة اليومية للكرم . هل تستطيع متابعة الخداع ؟ ماذا تفعل لو ... اكتشف أمرها مثلاً ؟ فكرت سارة ، لو لم يكن المدير جذاباً لهذا الحد ، ولو لم تضطر إلى خداعه . شعرت فجأة بالمغص في معدتها كيف ستكون ردة فعله عندما يكتشف انها كاذبة مخادعة ؟ أسوأ ما في الأمر أن يظن انها تسللت إلى صن فالي باسم مستعار كي تراقبه وتتأكد من مدى إخلاصه والتزامه بالعمل ، في أملاكها البعيدة .
لن يطول هذا الموقف أكثر من فصل الصيف ، همس صوت الاغراء في رأسها ، ثم أعود إلى انكلترا ولن يعرف أحد من هنا ، السر أبداً .
وأنا لن أراه ثانية ... لماذا اتتها هذه الفكرة الآن ؟ لامت نفسها على ذلك ، انها بالتأكيد تعاني من حرارة الشمس غير المعتادة عليها !
" اخبريني ." قطعت نبرته الهادئة عليها تأملاتها الحائرة :" هل لديك النية في الانتقال إلى مكان آخر في خلال أسبوع أو اثنين ؟"
هزت رأسها نافية :" لم أنوِ على أي شيء من هذا القبيل ." لو يعرف الحقيقة !
" لا أستطيع تقييمك تماماً . يا سارة ." حركت سارة جسمها بشيء من عدم الارتياح تحت تأثير نظراته الحادة ." كما قلت سابقاً ، العاملات المحليات وصلن وسنبدأ القطاف غداً ، ومازلت أحتاج إلى عاملة أخرى لهذا الموسم ." القى عليها واحدة من نظراته التي تنم عن الارتياب والتي بدأت سارة تمقتها ." هل لديك أية فكرة عن العمل الذي أنت بصدده؟ وعن ساعات العمل الطويلة التي تكسر الظهر تحت أشعة الشمس المحرقة ؟ لا يبدو لي انك لائقة بدنياً ، هل أنا على حق ؟" ومال نظره إلى كاحليها العاريين اللذين لا يمكن تمييزهما ، لشدة بياضهما ، عن الصندل الأبيض الذي تنتعله .
شعرت سارة بتورد خديها من جراء تفحصه لها ." أنا قوية بما فيه الكفاية ." أكدت له :" وبصراحة ، سأدهشك !"
تعليقه الوحيد على كلامها كان رفع حاجبيه :" هل اشتغلت من قبل في الأماكن الخارجية الطلقة ؟"
" لا ." اعترفت سارة :" اني معتادة على العمل المكتبي ، لقد اشتغلت لعدة سنوات ."
" أهذا كل شيء ؟" نبرته المطاطة لم تنم عن شيء ، وشعرت سارة بالهلع من أن يرفض إعطاءها العمل ." هل عندك أية خبرة أخرى ؟" نبرته الباردة الخالية من أي انفعال أثارت فيها ، فجأة روح التمرد . طبعت على وجهها أجمل ابتساماتها أو ما استطاعت ، تحت هذه الظروف ، وتركت كل شيء للقدر ." أنا أعزف على الغيتار وأستطيع الغناء قليلاً."
قالت برعونة وهي تشعر أن هناك سبباً وجيهاً لتصرفها .
" أتستطيعين ذلك فعلاً؟" ولدهشتها لاحظت الاهتمام المفاجئ الذي لاح عليه .
" لا أستطيع الادعاء بأني محترفة ." قالت سارة :" ولكني كنت أعزف لأصدقائي في حفلات المكتب وفي مناسبات مشابهة ."
"رائع ." امتلأت عيناه الداكنتان بالاهتمام ." اخبريني ، أي نوع من الموسيقى تعزفين ؟"


هزت سارة رأسها بخفة ." تقريباً كل مايطلبه المستمعون ، الموسيقى الريفية ، الأغاني ، الفولكلور ، أو أي شيء يجعل الخصر يتمايل ."
" هذا عظيم ." وقد بدا الاهتمام على وجهه .
اعترى سارة شيء من الحيرة وسألت :" ولكنني لا أرى اي علاقة ..."
" أنظري إلى هناك ." طلب منها فيك.
" أين؟" تابعت بنظرها في الاتجاه الذي أشار إليه فيك بيده ، ورأت انه يشير إلى بيت زجاجي مجاور للمنزل الكبير.
" ان ذلك ليس بيتاً زجاجياً فقط ، انه يضم غرفة استقبال وغرفة اجتماعات تتسع لمئتي شخص . صانعو الشراب يأتون للاجتماع هنا ، والزائرون الذين تحملهم الحافلات السياحية إلى هنا ، يحضرون كي يشربوا ويأكلوا المشاوي في الهواء الطلق المنعش."
حاولت سارة التركيز ومتابعة حديثه ." صدقيني إذا قلت لك إن اقناع فنانين بالجيء إلى هنا ، من أجل إقامة حفلة واحدة ، خاصة إذا لم نطلب منهم ذلك قبل وقت ، أصعب من اقناع الشيطان بالإيمان ." قال فيك وهو ممتلئ فرحاً :" أنت الشخص المناسب الذي كنت أبحث عنه ."
" يا إلهي!" وضعت سارة يدها على فمها :" لم أجلب غيتاري معي من انكلترا."
" لايهم ." لوح بيده البرونزية في الهواء دلالة على عدم أهمية هذا العائق ." لن يتسبب ذلك بأي مشكلة . المهم الآن هو ، إذا أردت هذا العمل ، فهو لك ." قال فيك بحماس :" يمكنك الاقامة في الكوخ القديم الواقع على طرف الكرم . لقد حافظنا على صلاحيته للسكن بشكل جيد ، وهو مريح ، أيضاً . أنا أدفع أكثر بقليل من الأجور المتعارف عليها أيام العطل ، نستطيع الاتفاق عليها بما يناسبك ويناسبني ، ولكن كل شيء يتوقف على الطقس ، وسنقوم بذلك خطوة خطوة ... أليس كذلك ؟ لا تنسي بأن تتصلي بي عندما تواجهين أي متاعب . وأنا سأهتم بها ." وفكرت سارة ، مرة أخرى ، في أن لابتسامته الغامضة سحراً خاصاً. قال لها فيك :ط هل نذهب الآن؟"
لم تصدق سارة حسن حظها ." ولِمَ لا ؟" أجابته.
" رائع ، هيا بنا !" أخذ يدها في قبضته المتينة وشعرت سارة بارتفاع سرعة نبضها ." في المناسبة إن اسمي هو جورافيتش ، ولكنك تستطيعن مناداتي باسمي الأول ، فيك ."
جورافيتش ؟ انه اسم عائلة ستيفن أيضاً ، وفقدت سارة الإحساس بيدها الممسكة بيده ، هل دنت ساعة الحقيقة ؟ لا شك في انه قريب الرجل الراحل ومن المحتمل أن يكون الوريث الشرعي للكرم.
" هل أنت بخير يا سارة ؟" ولاحظت من نظرته انه يتفحص وجهها باهتمام ." لقد شحب لونك فجأة ، هل أنت مريضة ؟"
" لا، لا شيء." أزاحت خصلة الشعر التي انسدلت على جبينها في محاولة لأبعاد الغشاوة التي هددت باحتواء كل مشاعرها ." أنا على ما يرام ." قالت وهي تتصنع البسمة :" قد يكون هذا من تأثير الحرارة ."
" انها غلطتي ..." امتلأت عيناه بنظرة أسف ." ... لأنني تحدثت إليك طول الوقت تحت أشعة الشمس المحرقة ، تعالي إلى الداخل وسأجلب لك شيئاً بارداً تحتسينه بينما أنا أضعك في صورة الحياة اليومية لصن فالي ... أعني بذلك الحياة العملية ."
وقف فيك وراءها ، غير شاعر بانفعالاتها ، فيما كانت تدخل المنزل ، عبر الباب الفرنسي الطراز وتتجه إلى الغرفة المجاورة له . لقد فات الآوان على الاعتراف بالحقيقة.
عليها الالتزام بكذبتها في الوقت الحاضر . وكل ما يمكنها فعله الآن هو أن تسبح مع هذا التيار وتأمل الخير .
جهدت سارة كي تستجمع قوة دهائها وقالت :" أنت المشرف على كل شيء هنا ، بالتأكيد ..."
قالت سارة في نفسها هذا لايقدم ولايؤخر في شيء ، ولا يشكل أي فرق.


ولكن بالنسبة لسارة ، هذا الفرق هو كل الفرق في هذا العالم . ان تلتقي شخصياً مدير الكرم ومعمل التقطير خلال عمله اليومي هو شيء ، وان تعمل إلى جانب فيك جورافيتش بجاذبيته وقوة شخصيته وسلطويته ، وهو شيء آخر تماماً.
" اجلسي هنا." أشار فيك إلى أريكة مصنوعة من قصب الخيزران عليها عدد من الوسائد الملونة . وقال فيما كانت سارة تأخذ مقعدها :" سأطلب من كيت أن تحضر شيئاً لنأكله ، لاشك انك تتضورين جوعاً بعد رحلتك الطويلة !"
غادر فيك الغرفة وعاد بعد دقائق قائلاً :" وماهو الشراب الذي تفضلين ، واين كولور ، أو عصير البرتقال أو الأناناس أو شراب الكرز ؟"
" واين كولور ، لابأس به ." أجابت سارة.
" كيت تشعر بالاحراج قليلاً ." اعتذر فيك من سارة :" ستنضم الينا بعد قليل ، وتريد مني أن أخبرك بانها عاملتك بسوء لأنها ظنت انك سارة الأخرى ، وكان ذلك سوء فهم منها ."
قدم فيك لسارة كأساً من الكريستال ملأى بالشراب ، وشعرت عندما تناولته بالبرودة تجري في حلقها وبطعم المانغا اللذيذ.
" هيا ، انتما ألاثنتان لم تتعرفا على بعضكما كما يجب ."
قال فيك بشعور من الارتياح :" كيت ، هذه سارة سنكلير ، سارة ، هذه كيت ، سارة ستلتحق بالعمل عندنا لفترة من الوقت لتساعدنا في القطاف وفي مهام أخرى ."
" مرحباً يا كيت ." ابتسامة سارة الودية أثرت في نفس مدبرة المنزل ، التي تمتمت عندما قدمت لها السندويش :" أنا آسفة على ... أنت تعرفين ... ماقلته ." استطاعت سارة بصعوبة أن تسمع كلمات كيت الهامسة :" لقد كان ذلك سوء فهم وغلطة مني ... ولكن فيك أوضح لي الآن ..."
" انسي هذه الحادثة ." قال سارة وقد شعرت بالارتياح لأن كيت برغم مزاجها السريع الغضب ، لا تحمل في نفسها أية ضغينة.
وقف فيك بعدما تركت كيت الغرفة ، ونظر إلى سارة وقال :" حسناً يا سارة ، ستبدئين العمل غداً في السابعة صباحاً . وأنا احذرك أن حرارة الطقس ستكون مرتفعة جداً في الكرم . ويجب أن تكوني قوية لتحمل مشقة القطاف . ووجع الظهر والحشرات ... الخ !"
أكملت سارة شرابها البارد واللذيذ . " لا مانع عندي بذلك ، لا أمانع في أي شيء طالما ذلك سيسمح لي بالبقاء هنا طول فترة الصيف ..." توقفت عن الكلام وشعرت بالارتباك ، وخافت أن تخونها التعابير وتفضح ما في نفسها .
استجمعت أفكارها وأضافت :" إذاً أنت تدير شؤون الكرم لحسابك ؟"
حدق فيك في كأسه الفارغ وأجاب :ط في الوقت الحاضر ، نعم ، هذا ما أفعله ، ولكنه ترتيب مؤقت ." وقبل أن تتمكن سارة من سؤاله عن أشياء أخرى ، أضاف فيك :" من أية منطقة من انكلترا أنت أتيت ؟ لم أستطع تمييز لهجة معينة."
" هذا ، لأني اتيت من لندن ." لقد قالت الحقيقة تقريباً ، فهي أقامت هناك فترة من الزمن :" هل زرت لندن من قبل ؟"
" لا، ولكن ستيفن فعل ذلك عندما قام برحلة إلى أوروبا كي يتعلم الوسائل الحديثة لصناعة الشراب من الكروم الموجودة هناك ."
" ستيفن ؟" أمسكت سارة بتنفسها .
قال لها بلطف :" إنه المالك الراحل لصن فالي ، كنا شركاء."
جنت أفكار سارة ، هذا هو الوقت المناسب للاعتراف بحقيقة قدومها إلى صن فالي . ولكن إذا فعلت ، ستفوت عليها الفرصة الفريدة التي رمى بها القدر في أحضانها لتبقى هنا وتصبح جزءاً من هذا العالم.
بدا أن افكار فيك كانت على موجة أفكارها نفسها عندما قال بنبرته الهادئة والعملية :" يبدو لي انك سعيدة جداً بأن تعملي في موسم القطاف ؟" انه يتحول فجأة غلى رئيس عمل ." يجب ان تعتمري قبعة لكي تتفادي ضربة الشمس وحروق الرقبة ." تراخت نبراته الخالية من الانفعال
لبرهة وقال:" من الأفضل أن تحمي جلدك الناعم بأي وسيلة ، بما فيها استعمال الكريم الواقي من أشعة الشمس ." القى عليها نظرة آمرة وسأل :" هل عندك شيءٌ من هذا الكريم ؟ وهل ستفعلين ما أقول ؟"
أومأت برأسها إيجاباً ، وكانت تعني ، نعم انها تحتفظ بالكريم الواقي داخل حقيبتها ولكن لايعني هذا انها ستستعمله في حضور كل العاملات اللواتي تعودن على شظف العيش!
" هل من شيء آخر ؟" رفعت سارة عينيها والتقت بعينيه ، ووجدت نفسها مرة أخرى ، انها أسيرة هذه النظرات . ولثوان قليلة لم يبق من كل العالم الذي حولها إلا هذا الغريب القوي الشكيمة والمؤثر . وقاومت هذا السحر بجهد وسمعت نفسها تقول :" ماذا يجب أن أفعل ؟ أنا معتادة على العمل المكتبي ، وقد ذكرت شيئاً عن الطلبات التي ترد بالبريد ... الأعمال المختلفة ."
" مازال الوقت مبكراً على ذلك . وهناك الكثير من الأعمال المختلفة في الوقت الحاضر . هل تريدين أن تبدئي في المخزن؟ هل لديك أية خبرة في البيع ؟"
" لا ، ولكني أستطيع ذلك."
" العمل ليس صعباً أو معقداً في المخزن ، فمعظم الطلبات ترد الينا بالبريد ، ولكني احتاج إليك في مخزن بيع المفرق ، خاصة عندما تصل رحلات السياح أو مجموعات متذوقي الشراب . قد يكون بينهم زبون متعب دائماً ، يعتقد أن الرحلة أن الرحلة الصعبة إلى صن فالي لا يساويها إلا الشراب الجيد ." ظهر الفخر على وجهه ثانية . سارة فكرت أنه لا بد أن يكون عند فيك سبب وجيه للافتخار بانتاجه.

روايات احلام / صيف القطاف حيث تعيش القصص. اكتشف الآن