استيقظت سارة من غيبوبتها ، فيما كانت السماء موشاة باللون الزهري ، وبقيت من دون حراك ، تحاول أن تتذكر من خلال أفكارها المشوشة ، ما حدث لها في الساعات الأخيرة التي مضت .
كانت متأكدة من أمر واحد فقط ، أنها تشعر بوهن . وضعت قدميها على أرض الغرفة وأحست أنها مترنحة قليلاً . شعرت سارة بالعطش ودلفت إلى غرفة المطبخ المجاورة لغرفة النوم ، توقفت هناك ! هل هي لا تزال تعاني من الهذيان ؟
تساءلت وهي تحدق في فيك الذي رأته مستلقياً على جانبه اليسر على الأريكة ، وكان شعره مشعثاً ومايزال يرتدي ثياب العمل المتسخة ، التي كان يرتديها بالأمس.
مشـت ، إلى حنفية الماء ، حافية القدمين وملأت كوباً من الماء البارد . حاولت أن لاتحدث أي صوت لكي لا توقظ فيك ولكن عندما استدارت وجدته يراقبها باهتمام.
" سارة ، هل أنت بخير الآن ؟" سألها وقفز على قدميه ولاحظت أن عينيه تلمعان بعاطفة لم تستطع تفسيرها . هل هو الاطمئنان ؟ مستحيل ! قالت سارة في نفسها.
" نعم ، بالطبع أنا بخير ." دفعت بشعرها المثقل بالغبار والعرق إلى الوراء . " ماذا تفعل هنا ." سألته بغباء ، ثم استدركت بعد ثوان وتكلمت ببطء :" لقد فهمت ... لقد أمضيت الليل كله ، هنا؟"
" هذا صحيح ." مرة أخرى سمعت هذه النبرة المطاطة :" لقد كنت بحاجة إلى من يسهر عليك ، لأنك كنت غائبة عن الوعي وتهذين ."
رفعت سارة حاجبيها المثقلين تعجباً :" كنت أهذي ؟"
قرعت أجراس الخطر في رأسها على الفور . هل ذكرت في هذيانها ما يمكن أن يفضح سرها ويهدم كل مخططاتها ؟
قالت وهي تتنفس بصعوبة :" ماذا كنت أقول في هذياني ؟ أعني ، ربما ، هل نطقت بكثير من التفاهات؟"
" بالتأكيد فعلت ، كنت كمن ينادي بوقوع جريمة قتل غامضة وتصرخين طالبة المساعدة من العناكب التي تلاحقك في غرفة ما . كان صوتك أشبه بصوت ممثلة تقوم بدورها في فيلم رعب! وقد وجدت من الأفضل أن أبقى إلى والتأكد من سلامتك."
تنهدت سارة بارتياح . كل شيء على ما يرام وسرها لا يزال بأمان . جلست على الكرسي الذي كان بجانبها وشربت الماء البارد ." أنا لم أفهم بعد ، ما الذي حصل لي ليلة البارحة ."
" لقد اصبت بضربة شمس! هذا كل ما في الأمر ."
وانتظرت أن يؤنبها ويقول - لقد حذرتك - ولكنه لم يفعل.
" لقد اعترتك حمى قوية استمرت عدة ساعات ، وكما يظهر الآن ، فإنها زالت عنك."
" يا إلهي ." صرخت سارة وهي ترى انعكاس صورتها في المرآة ، شعرها الأشعث ، عيناها المحاطتان بدوائر سوداء ، وجهها وذراعاها وكتفاها مصبوغة بلون قرمزي بشع . " كم أبدو قبيحة !" شهقت واستدارت نحوه :" برغم ذلك ، ساساعد في القطاف اليوم ! وسأكون في أفضل حال بعد أن أستحم بالماء البارد ." ادركت سارة فجأة أنها لم تخيب أمل فيك فيها ، على الرغم من أنها خيبت أمله فيها بشكل سيىء ، وهو لا يعرف بخداعها المستمر . " يجب أن أعود إلى العمل . لقد أعطيتك وعداً."
نظر إليها مُقيماً ." لا قطاف اليوم ." قال لها وشعرت أنه يعني ما يقول ." انسي ذلك ." قاطعها عندما لاحظ أنها اندفعت للاعتراض :" لقد استبدلتك بفتاة أخرى اليوم !"
" ولكن ماذا أستطيع أن أعمل ، إذاً؟"
" لا ضرورة ، لأن تعملي أي شيء اليوم ." استغربت سارة رقة صوته ." إن الغد ليس ببعيد ، كي تعملي ثانية ."
" انا لا أقبل بذلك ." أصرت سارة بعناد :" أريد العودة إلى العمل ، اليوم ."
هز فيك كتفيه العريضتين . " بامكانك الذهاب إلى المكتب ساعة أو ساعتين ، إذا شئت ، ووجدت أن صحتك قد تحسنت كفاية ." لقد تحول ثانية إلى رئيسها في العمل ، دفعة واحدة ، وبدأ يتكلم بنبرة باردة وعملية وواقعية ! هل من المعقول أن يكون هو الرجل نفسه الذي سهر عليها طول الليل ؟
" شكراً." قالت سارة بصوت متعثر .
بانت على وجهه ضحكة متهكمة وكسولة يبدو انه يحتفظ بها لأجله فقط ." شكراً ... على ماذا ؟"
ترددت لحظة ." أنت تعرف ." واضافت بصوت خافت :" لأنك ساعدتني في التغلب على ضربة الشمس."
" أوه ، من أجل ذلك ." ظهرت ابتسامة حائرة على فمه ." لم أفعل أكثر من ابقاء التنين بعيداً."
لمعت عينا سارة الخضراوان وابتسمت له باغراء ." مثل فارس الأحلام الذي يأتي مرتدياً دروعه البراقة ، أليس كذلك ؟" وتنمت سارة فجأة لو قُطع لسانها قبل أن تتلفظ بهذا الكلام وهي ترى النظرة الباردة التي كان يرمقها بها.
" يمكنك القول ، إنه شيء من هذا القبيل ، كيت مدت يد المساعدة أيضأً ." نبرته الخالية من أي تعبير جعلتها تشعر وكأنها طفل تلقى التأنيب تواً من شخص راشد ، وسرت في نفسها ، لأن لون الاحتراق القرمزي قد أخفى احمرار وجهها من جراء تدفق الدم إلى وجنتيها.
يا للسماء ! كانت سارة تغلي في داخلها ، هل أساء فهم كلامها وظن انها تستميله ؟ لا شك أنها ردة فعل عادية عنده وهو الذي اعتاد ملاطفة الفتيات الحالمات اللواتي وقعن تحت تأثير جاذبيته ورجولته ووسامته . أما هذه الفتاة - سارة -؟ أبداً ! سيكون صعباً عليها طوال الأسابيع القادمة أن تحتفظ بسرها وأن تعمل إلى جانبه في آن ، ومن دون أن تضيف إلى ذلك خطر التشابك العاطفي . لأن هذا سيعقد الأمور كثيراً . وهي لا تعرف حتى هذه اللحظة إذا كان منجذباً إليها بصراحة ، اعترفت سارة في نفسها ، ليس هناك من شيء لا تستطيع معالجته.
انتبهت سارة ثانية لنبرات صوته العميقة ، إذ قال :" عليك أن تستريحي اليوم وباستطاعتك تسلَم العمل في المكتب وفي المخزن حيث تقومين بخدمة الزبائن ، من الآن ... حسناً؟ سوف أراك في الغد !"
" لا ." ردت عليه بحزم :" سوف تراني اليوم."
" إذا كنت واثقة من قدرتك على ذلك ." قال بعد تردد.
وأقسمت سارة في نفسها أنها سمعت كلاماً لم ينطق به :" انت لا تتعلمين أبداً ، أليس كذلك يا سارة ؟"
" بالطبع يمكنني ذلك ! أنا الآن في أحسن حال !" قالت سارة بثقة وبصوت مرتفع.
" أنت ، بالتأكيد ، مثل الشيطان ، لا يمكن معاقبته ." قال لها ضاحكاً بسخرية وخرج من الكوخ.
قالت سارة ، وقد أصبحت بمفردها في الغرفة ، في نفسها . إنها يجب أن تتحسن وتعود لها قوتها ، وإن الاحساس بعدم التوازن سيزول عنها سريعاً ، وكل ما يهمها الآن هو أن تبرهن عن نفسها وعن مقدرتها أمام رئيسها الذي لا يُحْتَمل .
ازال الحمام البارد بقع عصير العنب والغبار والعرق عن جسمها ، وشعرت بالنضارة والحيوية ثانية . وتحول شعرها بعد غسله بالشامبو
والماء البارد إلى خصل حريرية الملمس ، جففت نفسها بإحدى المناشف التي جلبتها كيت وعالجت حروق الشمس المؤلمة على بشرتها الحمراء ، بعد أن وجدت على الطاولة مرهماً كان له فعل ساحر على خديها الملتهبين. كم هي مدهشة الطريقة التي يخفي الماكياج بها ، العيوب التي خلفتها الشمس على جلدها ، قالت سارة في نفسها بعد أن وضعت قليلاً من الماكياج ولكنها بررت لنفسها ، أن اللون البرونزي الذي تريد اكتسابه بسرعة لتظهر مثل نساء نيوزيلندا ورجالها يستحق دفع مثل هذا الثمن.
ارتدت سارة ملابسها الداخلية وحمالة صدر ، ثم ارتدت بنطال جينز حول خصرها النحيل ، وقميصاً قطنياً أبيض اللون بكمين طويلين وياقة عالية ، لقد تعلمت درساً في وقاية ذراعيها وكتفيها . حضرت قليلاً من القهوة ، وحمصت قطعة من الخبز الأسمر ، وضعت عليها مربى فاكهة الكيوي الذي عثرت عليه في الثلاجة .
خرجت سارة ، في الهواء الطلق المنعش ، واتجهت تحت سماء صافية على طريق مظللة بالأشجار إلى غرفة المكتب.
لم تشاهد أحداً عندما وصلت ، وجلست إلى طاولة المكتب أما الآلة الكاتبة . تفحصت سارة الآلة لتتعرف عليها وبعد قليل شعرت بالثقة لاستعمالها . ركزت اهتمامها على الفواتيرالمبعثرة على الطاولة وحين انتهت من ترتيبها حسب الحروف الأبجدية ، رأت ظلاً ظهر في باب المكتب المفتوح ، ودخل فيك ، بعد لحظة ، متمهلاً واتجه نحوها .
" سارة !" قال فيك مستفهماً.
" لا تتعجب ." وحاولت أن ترميه بأحلى ابتساماتها ." لقد قلت لك إني سآتي اليوم."
وقع نظره على الفواتير الموضوعة بترتيب وقال :" يبدو أنك لم تضيعي أي وقت ." شعرت سارة بسرور غير عادي وهي تلاحظ تعبير الرضى والدهشة في نبرته ." ولهذا نستطيع ، كبداية ، أن نرسل هذه المجموعة بالبريد فوراً."
أضاف فيك وانحنى مقترباً منها حتى أحست برائحة العطر الرجالي تنبعث منه :" من الأفضل أن تتأكدي من بعض الفواتير التي جرت تصفيتها في الأسبوع الأخير ."
" سأفعل ذلك ." وحين نظرت إليه أحست بأنها وقعت ثانية تحت التأثير الكلي لعينيه المليئتين بعاطفة لم تستطع تفسيرها ، واخترقت أعماقها ، ليته لا يحس بارتباك مشاعرها وبالإثارة الغريبة التي تعتريها في مثل هذه اللحظات
قالت سارة في نفسها بعد أن لاحظت أن نبرة صوته المطاطة لم تتبدل ، ومايزال يتكلم كمدير يشرح مهمات عمل الموظف الجديد ، إنه لاداعي للقلق من مشاعره نحوها.
" تعالي معي إلى المخزن ." قال فيك . " سوف أشرح لك وسائل البيع المشبعة هناك."
قاد فيك سارة إلى غرفة المخزن الصغيرة حيث رأت الجدران المغطاة بالرفوف المليئة بقوارير الشراب المختلفة.
" إن عملية البيع هنا ،ليست معقدة ، فالأسعار لا تختلف من صنف إلى آخر باستثناء شراب فاكهة الكيوي . أنا أشتري الكيوي من مزرعة الجيران ، عندما لا تكون بالجودة والحجم المطلوبين للتصدير إلى أسواق العالم."
" ليس من داعٍ لترتيب الأصناف المختلفة ." تابع فيك توجيهها :" باستثناء قواير شراب الكيوي ، الغريبة الشكل ، فإن الصنف الوحيد والمهم هنا هو شراب صن فالي الأحمر!"
" أنا أعرف ." نظرت إليه بسخرية . " للحصول على الكمال في الشراب ... يجب التركيز على صنف واحد فقط ، هذا ما أخبرتني به."
نظر إليها فيك باعجاب وقال :" أنت تتعلمين بسرعة ."
لم تستطع سارة أن تميز ما إذا كان يسخر منها أم لا ، ولكن كي تكون على جانب من الأمان ، قررت أن تلقنه درساً . حاولت إضفاء خفيفة على صوتها وقالت :" أستطيع أن اقترح شيئاً قد يحسن المبيعات ، أعني ..." تجاهلت سارة نظرة الاستخفاف والتهكم التي رماها بها وأكملت وهي تشير بيدها إلى النوافذ الصغيرة العالية ." ... انظر إلى كل هذه القذارة ، هذه النوافذ تحتاج إلى تنظيف جيد ، وبلاط الأرض يحتاج أيضاً إلى مسح والتلميع ." ثم أضافت بشيء من الانفعال :" لو كان هذا المكان ملكي ..." وتوقفت عن الكلام فجأة ، وقد ارتاعت لهول ما كادت أن تتفوه به ، ولدهشتها لم يبدُ على فيك أنه تأثر بالتغير المفاجئ في نبرة صوتها.
فيك اكتفى بالتمتمة وكأنه يتكلم مع شخص آخر :" سأطلب من كيت أن تنظف المكان."
قدحت عيناها شرراً وقالت :" هل أنت متأكد أنها ستفعل ذلك؟"
عض على شفتيه بشدة . لقد أثارت غضبه ثانية ! تذكري ! أنّبت سارة نفسها ، بأنك محظوظة للحصول على أي نوع من العمل هنا . المشكلة يا فتاتي أنك اعتدت على فكرة أن الكرم هو ملكك ، وأنك بالفعل الآمرة الناهية هنا ، انسي ذلك في الوقت الحاضر !
" صباح الخير ." ألقى صوت نسائي التحية ، ورأت سارة كيت تدخل المخزن . وقع نظر كيت الماكر عليها وقالت :" كيف تشعرين الآن ، يا سارة ؟ لم أكن أتوقع رؤيتك اليوم في المكتب؟"
" أنا بخير الآن ، شكراً لك ." من كان يصدق ، تأملت سارة ، أن هذه المرأة الصغيرة ، ذات المزاج السيء ، التي كانت أول من قابلها عندما وصلت إلى صن فالي ، ستكون عطوفة وحنونة على هذه الصورة ؟ بقد سهرت عليها ليلة أمس لتساعدها في التغلب على الحمى التي اعترتها . أفاقت سارة من تأملها وقالت بصوت مرتفع :" هذا ما يجب أن يكون عليه بفضل رعايتك الجيدة لي طوال الليل ، والمرهم الطبي الذي مسحتِ به جلدي وخفف الكثير من آلام الحروق."
" أنا؟" تساءلت كيت في دهشة :" لم أكن أنا ..." رمقت سارة فيك بذهول وتلاقت نظرتها مع نظرته الساخرة ، وتمنت لحظتها لو لم تنظر إليه . عادت بأفكارها إلى كلام كيت السريع :" لا تشكريني على ذلك ، فقد كنت أعاني من ألم في الرأس ليلة أمس ، بل أشكري فيك الذي سارع إلى مساعدتك وبقي إلى جانبك طوال الليل . وأعطاك الأسبرين ، كل ساعتين لتخفيض درجة حرارتك ، كل ما فعلته هو جلب الأدوية والشراشف النظيفة من خزانة المفروشات ، عدة مرات خلال الليل."
أوه، لا.شعرت سارة بعياء قاتل عندما أدركت أن فيك هو الذي وضع المرهم الشافي على جسدها المحترق . لماذا لم تهتم كيت بهذا الأمر؟ ولاحظت ، وقد اعتراها الغضب الشديد ، أن فيك يسجل دائماً النقاط عليها بطريقة أو بأخرى ، وهذا وضع ... أقسمت في نفسها على تغييره بسرعة!
تطايرت نار خضراء من عينيها وهي تحدق به ، وكما توقعت ، بدا فيك كأنه يستمتع باضطرابها ، هذا الشيطان! وغمرها شعور من الغضب الشديد وعضت على شفتها السفلى ، وصممت على أن لا تدعه يستمتع بشدة غضبها منه.
شعرت سارة بنظرة كيت الفضولية . لم يكن في استطاعتها إلا التحديق به في صمت . ولم يفد بريق عينيه في اخماد غيظها.
لم تلاحظ كيت أن شيئاً يجري بينهما وتابعت حديثها مع سارة بانشراح :ط من محاسن القدر ، بأن نحظى بهذا الطقس! عدة أيام مثل اليوم ونستطيع أن ننتهي من قطاف الموسم ! ويمكن التكهن أن هذه الأيام المشمسة ستستمر إلى أبعد من ذلك ."
" في المناسبة .ط قال فيك :" لقد تسلمت سارة مهام المكتب ومخزن الشراب." ثم استدار نحو سارة :" أريد منك أن ترسلي دعوات المهرجان
وأن تتصلي بصحف المدينة وتعلميها بتاريخ يوم مهرجان الشراب الذي يقع في نهاية الأسبوع. اتصلي أيضاً بمتعهدي الحفلات الذين تعاقدنا معهم السنة الماضية .حاولي الاتصال هاتفياً بما أمكن من المدعوين ، وفي حال لم تستطيعي الاتصال هاتفياً ، ارسلي إليهم الدعوة بالبريد . لقد رتبت شؤون الحفلة ، دارين سيقوم بالغناء . لقد تعاقدت معه في مهرجان العام الفائت ، سأتصل به وأخبره رغبتي في التعاقد معه لمهرجان هذه السنة وأؤكد على مجيئه وأن يجلب غيتاراً معه . إنه شخص ، من الصعب الاتصال به."
" لقد عمل معنا لفتر من الوقت ." أخبرت كيت سارة .
" عندما كان يلائمه ذلك ." قال فيك بلهجة جافة :ط ستجدين قائمة بأسماء المدعوين إلى يوم المهرجان في درج طاولة المكتب ، وسأراجعها معك فيما بعد ، يا سارة !"
قالت كيت متأملة بعد أن ترك فيك المخزن :" لا أحد يستطيع منع نفسه من الإعجاب بدارين ، له اسلوب خاص ، وغناؤه يدخل القلوب ويأسرها . ولكن مشكلته ، هي عدم إمكان الاعتماد عليه . يشتغل فترة من الزمان في مكان ثم ينتقل فجأة إلى مكان آخر ، لا يمكن الاعتماد عليه أبداً ، فيك تماماً." رق صوتها عندما ذكرت اسم فيك ." عندما يكون الأمر متعلقاً بأي شيء في صن فالي هو بالفعل ..." وتعثرت كيت في العثور على الكلمة المناسبة .
" ملتزم باخلاص ." أكملت سارة الجملة عنها وزمت شفتيها ." لقد لاحظت ذلك ."
" سوف تستمتعين بيوم المهرجان ." قالت كيت :" يأتي الناس فيه من أنحاء البلاد كافة ، كل سنة ، إنه يوم للفرح !"
طلبت سارة هاتفياً ، فيما بعد ، أول اسم موجود على قائمة المدعوين وسمعت صوتاً مرحاً يجيبها .
" مرحباً ، أنا لاري ماتيو ."
" مرحباً أنا أتصل بك من كروم صن فالي ." قالت سارة بصوت واضح :" وأريد أن أعلمك أن يوم انعقاد مهرجان الشراب السنوي هو الثامن عشر من هذا الشهر . طلب فيك مني أن أخبرك أنه يتوقع قدومك لحضور المهرجان ، هل ستحضر ؟"
" وهل ستحضرين أنت ؟" أجابها الصوت الصبياني باهتمام.
" بالطبع ، أنا أعمل هنا ."
رنت ضحكته عبر الهاتف :" هل قدمت من انكلترا مؤخراً ؟ لقد عرفت ذلك من صوتك . لا تقلقي ، سأكون عندكم يوم المهرجان ، ولو لكي أتشرف بمعرفتك فقط ، ماذا قلت ، اسمك ؟"
" لم أذكر اسمي بعد ، اسمي سارة ."
" اسم جميل ، إنه يعجبني ، حتى ولو كنت بنصف جمال صوتك ..."
" مع السلامة يا لاري." كانت سارة ما تزال مبتسمة عندما وضعت سماعة الهاتف مكانها.
عملت سارة خلال الصباح على الاتصال بمعظم المدعوين الموجودة أسماؤهم على القائمة . وبينما كانت تتصل بأحد المدعوين ، لمحت فتاة مبتسمة ذات شعر قصير تقف في باب المخزن وتنظر إليها . وكان من الواضح أنها حامل .
" مرحباً." قالت الفتاة وهي تدخل المخزن :" أعتقد ، أنك سارة ، الفتاة الإنكليزية ؟"
" أجل أنا ." أجابتها سارة بود وانفتاح :" لقد حصلت على العمل هنا منذ البارحة ."
" أعرف ، لقد سمعت كل شيء ، اسمي باتي ، وزوجي يدعى بيل ، نحن جيرانكم ، ونملك بستان فاكهة الكيوي ، ألا تعرفين ؟ يا إلهي ." قالت باتي وهي تلاحظ وجه سارة المحترق :" لقد حصلت على جرعة كبيرة من أشعة الشمس المحرقة بالأمس ! هل كنت تعملين بين العرائش وتقطفين العنب ؟"
أومأت سارة برأسها إيجاباً.
" ألم يحذرك فيك من مغبة التعرض لأشعة الشمس المحرقة في هذا الجزء من العالم ؟" قالت باتي وهي غير مصدقة أن فيك لم يحذرها .
" للحقيقة ..." شعرت سارة بالاعياء من جراء الحديث في هذا الموضوع الذي أصبح له نغمة مألوفة وحاولت تفادي نظرات باتي الفضولية .
ولكن باتي ضحكت وقالت :" لعل فيك كان مضجراً ، أليس كذلك ؟ هل كان يوزع نصائحه المجانية ؟ استطيع تصور ذلك ، إنه هكذا في بعض الأحيان ، ولكنه شخص رائع ولن تجدي شخصاً أفضل منه كمدير عمل . هل ستبقين معنا طويلاً ؟" وقبل أن تتمكن سارة من الجواب ، أضافت باتي :ط إنها عطلة عمل ، أهذا كل مافي الأمر؟"
" سأبقى فترة الصيف فقط ." وقالت في سرها ، إذا كنت سعيدة الحظ ! " أريد أن اكتسب الخبرة في هذه المهنة ." اعترى صوتها الحماس :" وأتعلم
كل ما يمكنني عن زراعة العرائش ، صناعة الشراب والتعبئة ... كل شيء ."
" يبدو لي أنك واثقة من نفسك ، هل تخططين لامتهان هذه الصناعة ؟"
" لا ، لا ." وقالت سارة في نفسها إن عليها أن تحترس من زلات اللسان .
ولم يكن هناك من داعٍ لتحذير نفسها ، لأن باتي نسيت الموضوع في دقيقة ، بينما كانت تدفع بشعرها الناعم المنسدل إلى خلف أذنيها وتقول :" أوه ، لقد نسيت تقريباً ما جئت من أجله ، أريد زجاجة من شراب فيك الأحمر المشهور ، لقد دعونا بعض الأصدقاء على العشاء هذا المساء ، هم يفضلون هذا الشراب على غيره . هل تعرفين أن فيك قد ربح الجائزة القومية لأفضل إنتاج من الشراب الممتاز ، وهذا أمر رائع بالنسبة لكرم صغير مثل هذا ، ألا تعتقدين ذلك ؟"
لم تستطع سارة الإجابة ، لأن الاعياء قد أصابها بسبب ترداد مثل هذا الكلام على مسامعها ، عن قدرة فيك واخلاصه وتفانيه في العمل ، وعن شرابه الأحمر المشهور . ولكنها تمتمت بعد ثوان :" سأجلب لك زجاجة ." ومشت نحو أحد الرفوف لتتناول من منه إحدى الزجاجات.
دفعت باتي ثمن زجاجة الشراب وكانت على وشك الذهاب عندما توقفت وقالت وهي تدير ظهرها :" سارة هل سمعت قصة صن فالي؟" ومن دون أن تنتظر جواباً استطردت :" من العدل أن يكون الكرم ملكاً لفيك ، عوضاً عن أن يكون المدير فقط ، وعلى أساس مؤقت فقط ! وكان سيصبح المالك فعلاً لو عدل ستيفن وصيته ، فهو كان يتكلم دائماً عن فيك على أساس أنه وارث الكرم ، ولكن الوقت لم يتسن له كي يعدل وصيته ، هل تصدقين ، أن كل شيء هنا سترثه فتاة ما من انكلترا ، كان ستيفن قد قابلها عدة مرات منذ سنوات طويلة ؟"
لم تجد سارة كلاماً ترد به ، ولحسن الحظ لم تنتبه باتي إلى صمتها ." أسوأ ما في الأمر هو أن فيك متعلق جداً بهذا المكان وهو بالنسبة له ، ليس بيته ومكان عمله فقط ، إنه محور حياته كلها ، وهو لا يفكر إلا بالكرم وخاصة بعد ما جرى بينه وبين لين ..."
" لين ؟" سألت سارة .
" الفتاة التي كانت مخطوبة إليه ، لقد فسخا الخطوبة في ذات اليوم الذي عرف فيه فيك أنه لن يرث الكرم . أنا شخصياً أعتقد أن ذلك من حسن حظه ، إنه أفلت من تلك الفتاة ." اضافت باتي :" لين حصلت على لقب ملكة جمال نيوزيلندا في تلك السنة وهي جميلة الشكل . بالطبع . ولكنه جمال بارد مثل تمثال . على ما أعتقد ، فيك لا يزال يحبها وعلى الرغم
من كل شيء انتهى بينهما ، عندما فسخا الخطوبة منذ سنة . لم يبدُ عليه أنه أظهر اهتماماً بفتاة أخرى . يا للسماء ..." نظرت إلى ساعة يدها وأكملت :" ... هل مضى كل هذا الوقت ؟ بيل سيكون في البيت الآن ، يجب أن أسرع ! أراك قريباً !"
رمقتها سارة تبتعد وهي تشعر بعدم الارتياح ، أفكارها تتسارع متضاربة وقد غمرها الاحساس بالذنب والمرض وشعور غريب من الندم . هل يجب أن تعترف لفيك بالحقيقة ، وتتنازل عن حقها في ملكة الكرم ؟ يبدو أن هذا ما يجب أن تفعله ، ولكن برغم ذلك ... انتظري ، صرخ صوت ما في داخلها ، لا تتعجلي الأمور ، دعي كل شيء على حاله حتى نهاية فصل الصيف . وتصرفي ، وكأن شيئاً لم يحدث ويغير شعورك بشأن الميراث ، كأي فتاة أخرى جاءت من انكلترا لتعمل وتمضي عطلتها في آن واحد .
وفيما كان النهار الطويل يجر نفسه جراً ، اقتصرت سارة على القيام بمهام المكتب فقط ، وكانت تقنع نفسها أن الحرارة المزعجة في المخزن هي أفضل بمئات المرات من الحر القاتل والرطوبة المرتفعة بين صفوف العرائش حيث العاملات يقطفن العنب في هذا الوقت . شعرت مرة أو مرتين ، في فترة العصر ، بالغثيان ، ولكنها قاومت ولعنت نفسها لتعثر أصابعها وارتكابها أخطاء مطبعية على الآلة الكاتبة التي كانت تزداد مع الوقت .
" لقد حان وقت الذهاب ." قال صوت رجالي عميق . نظرت سارة إلى الأعلى ورأت فيك يقترب منها بمشيته المتهملة القوية ، انشرحت باقتراحه ، على كل حال ، لا ضير من إطاعة أوامر كهذه فهي لمصلحتها ، وليس لهذه المرة فقط .
" هل تريدين تناول بعض المرطبات ." قال لها وهو يصب عصير المانغا في كوب من الزجاج ، ثم قدمه لها . أحست سارة بشعور لذيذ بينما كان العصير المثلج يرطب حلقها .
صب فيك كوباً من العصير لنفسه وألقى بنفسه على مقعد .
" كيف كان سير العمل بالنسبة لقائمة المدعوين ؟" سألها فيك .
" إنها جاهزة للارسال بالبريد ." أجابته وقد أدهشها كيف اختلف إحساسها وكأن حيويته قد لفحها وأعطاها جرعة كبيرة من القوة.
" عظيم ." وضع فيك كوب العصير على الطاولة ." لقد اتصلت بدارين وتكلمت معه ، لقد وقع له حادث تصادم مع شاحنة وتجطمت سيارته ثانية ، قال لي إنه لم يصب بأذى يذكر ، ولكنه ترك المستشفى لتوه وربما لا يستطيع المشاركة في مهرجان هذه السنة ، ثم اتصلت بعدد من الفنانين
الآخرين كي يحلوا مكانه ولكني لم أوفق ، لسوء الحظ ، مع أحد ، ولذا ..." ظهرت على محياه ابتسامة تأسر الألباب جعلت عواطفها تدور حول نفسها برغم تصرفاته المزعجة ، وهي حالة نفسية جديدة على سارة ، وقد يحدث بسببها شيء . جهدت كي تركز على ما يقول :" ... من هنا يبدأ دورك وتظهرين في الصورة ."
" أنا ؟" سألت وهي تحاول أن تستجمع أفكارها :" هل تعني أنك ستحتاج إليّ في يوم المهرجان كي استقبل الزائرين وأغني لهم ؟"
" من المحتمل ." عيناه الداكنتين لمعتا ." إذا لم يتمكن دارين من الحضور ، هل من الممكن أن تأخذي مكانه وتغني للزائرين ؟ كل ما أطلب منك أن تغني بضع أغنيات ، واحدة منها أغنية خاصة ، من النوع الفولكلوري."
و أضاف برعونة :" لا أعتقد أنه أمر يصعب عليك اداؤه ؟"
" لقد وعدت ان أغني وأعزف الغيتار في المناسبات ."
قالت سارة باحتراس :" هل هذا هو كل المطلوب مني ؟"
" المطلوب منك ، يا سارة ؟" لاحظت لبرهة الشرر في عينيه الذي خمد على الفور ." أغنية واحدة فقط ." مَطَ فيك نبرته .
" في الوقت الحاضر ." وقبل أن تتمكن من التعليق ، أكمل فيك حديثه :" لقد جلبت لك النوتة الموسيقية كي تتدربي عليها وتؤلفي اللحن ، وأعتقد أنك ستعشقين هذا اللحن بمجرد أن تجربي غناءه ."
" أخذت سارة بتردد النوتة الموسيقية من يده وتفحصتها وقالت باندهاش:
" إن كلمات الأغنية مكتوبة بلغة أخرى ."
" لقد كتبت الترجمة الإنكليزية بقلم الرصاص تحت أسطر اللغة الأجنبية ."
رمقته سارة باستغراب :" هل هذه الأغنية ، يوغسلافيه ؟"
" شيء من هذا القبيل ، إنها عن الأيام الصعبة التي عانى منها المستوطنون الأوروبيون الأوائل عندما استقروا في هذا البلد ، وهو يا يشبه وضعك الآن ." رفع فيك حاجبيه ببراءة خادعة وأضاف :" الم تذكري أنك تنشدين الأغاني الفولكلورية والأهازيج وكل هذه الأنواع؟"
" نعم ، لقد ذكرت ذلك ولكن ..."
استمر في كلامه غير مبالٍ بمحاولتها الاعتراض :" لقد فرض ستيفن إنشاء هذه الأغنية كل سنة في يوم مهرجان الشراب احتفالاً بانتهاء موسم القطاف . وقد أصبحت تقليداً متبعاً." وأضاف بصوت عميق :" وخاصة في هذه السنة . لأنه سيكون آخر مهرجان أحضره في صن فالي!" خيم الصمت بينهما بعد هذه الكلمات فلم تتجرأ سارة على الاسترسال في التفكير على هذا النمط.
"حسناً ، لقد اهتممنا بكل شيء تقريباً." شعرت سارة ببوادر التمرد على تصرفاته المترفعة وعلى نبرة - افعلي ما أقول - التي كانت أقرب إلى الأمر المباشر منها إلى طلب.
" لا ." لمعت عيناها الخضراوان تحدياً. لماذا يجب عليها أن تنشد أغنيته الغربية غير المألوفة ، فقط لأنه طلب منها ذلك ، لا بل أمرها بذلك ؟ قالت بحزم :" عليك أن تجد شخصاً آخر كي ينشد هذه الأغنية ."
زم فيك فمه غضباً وتقلصت عضلات وجهه ." هذا جزء من اتفاقنا ن أم هل نسيت ؟ط ذكَرها فيك باتفاقهما.
" أوه ، أنا اتذكر وعدي لك بالغناء وعزف الغيتار ."
انفجرت سارة وقد عاقها التنفس :"ولكن فقط الأغاني المألوفة لي أو الأغاني الميلودية التي كتبتها بنفسي."
رمقته بنظرة من انتصر في معركة ." هل تذكر ذلك ؟" لكن ازرقاق وجهه لم يترك عندها انطباعاً بأنها سجلت نقطة عليه .
" أما أن يكون الأمر ، أن أنشد أغنية كتبت بلغة أجنبية ، حتى ولو ترجمت ، وأن أعزف لحناً لم أسمعه قط من قبل ..."
أطلقت سارة العنان لمشاعرها ولم تستطع التوقف :" ... فقط لأنك ..." بدأ صوتها بالتعثر وأسرعت بالمتابعة :" ... تريد مني ذلك ! حسناً ، إني أرفض ذلك ، سأقوم بالغناء ، كما وعدت ولكني لن أغني غير الأغاني التي أعرفها ."
" أحقاً ما تقولين ." كان الغضب ينضح من تعابير صوته .
" لو لم تكوني على قائمة المرضى ..."
" ماذا كنت ستفعل ؟" تابعت سارة التحدي :" تجبرني على قبول منطقك ؟ تطردني من البيت ؟" يا للسماء ، ماذا يحدث لها لو فعل ذلك ؟ فكرت سارة باستياء في نفسها وأقفلت فمها .
ولكن بدلاً من طردها قال فيك لها بنعومة قاتلة :" احتفظي بالنوتة الموسيقية ." وبرزانة وهدوء دس ورقة النوتة في جيب بنطالها .
" ستغيرين رأيك في هذه الأغنية عندما تتحسن حالتك النفسية ."
" لن أغير رأيي ، انت تعرف ذلك ؟" ولكن لماذا تجد سارة نفسها ترتجف.
مدحت سارة نفسها على دفاعه المتوسل ، ولكنه أدار لها ظهره وخرج من دون أن ينبس بكلمة أخرى . وفجأة شعرت بالوحشة والوحدة والفراغ القاتل تخيم على الغرفة ، أبعدت بسرعة هذا الشعور عنها . لقد سئمت بما فيه الكفاية ، ترفع هذا الرجل الذي لا يأبه لشيء وكبرياءه وسيطرته من دون أن تضيع وقتاً ، هرعت للخروج من المخزن وأغلقت الباب وراءها.
أنت تقرأ
روايات احلام / صيف القطاف
Romanceالملخص : كانت سارة متلهفة كي تستلم ميراثها ... كروم مزدهرة في وسط منطقة زراعة العنب في نيوزلندا . ولكن الرجل الذي كان يشرف على الأملاك ، لم يكن على استعداد للترحيب بالمالكة الجديدة . ولهذا قررت سارة استعمال طريقة ملتوية ، والإدعاء بأنها تبحث عن عمل...