الفصل الخامس

6.5K 129 6
                                    

عادت سارة ، في صباح اليوم التالي ، إلى المكتب لتجد رزمة صحف وضعت على طاولتها إلى جانب البريد المتراكم ، وفي اللحظة التي ألقت فيها نظرها على البريد ، شردت أفكارها وقالت في نفسها ، من الآن وصاعداً سوف تتصرف كأي فتاة تعمل بصورة اعتيادية في بلد أجنبي.
لقد نجحت خطتها ، تقريباً ، حتى الآن ، لولا تأثير فيك المربك والغريب عليها . لابد أن السبب هو رجولته وجاذبيته اللتان تشعان على ما حوله ، لماذا تشعر ، عندما تتواجد معه في غرفة واحدة ، أن جاذبيته تخترق أعماقها بجنون . هل لأنها جاذبية متوحشة ! هذه هي المرة الأولى التي تجد نفسها في وضع لا تستطيع التعامل معه أو معالجته ، ولا يترك لها من دفاع ، غير تفادي قدر الإمكان ... هذا إذا استطاعت ... وسيكون ذلك صعباً لأنها ن في هذه اللحظة بالذات ، تفتقده.
راقبت سارة فيك ، وقد رأته قادماً من ناحية وادي العرائش ، بجسمه المتناسق المفتول العضلات ، يسير بخطوات متمهلة على المنحدر العشبي. بدت عليه السعادة والنشاط ، عندما اقترب من المكتب وهو يدندن لحناً . سرت سارة من نفسها ، إذا كان سبب سعادته الظاهرة هو اعتقاده أنها غيرت رأيها في شأن إنشاد أغنيته العزيزة من الفولكلور اليوغسلافي. فسرعان ما يصاب بالخيبة بمجرد أن يتكلم معها !
أجابت سارة بطفولية :" إن جلدي يتقشر ."
تقدم فيك إلى داخل الغرفة وهو يحدق بها ، متفحصاً أولاً ، حالة ذراعيها ثم حالة رقبتها ووجهها المحروقة ." لن تطول هذه المرحلة ، وبعد فترة قصيرة . لن تصدقي أنك نجوت من تأثير الجرعة الضخمة من أشعة الشمس التي تناولتها دفعة واحدة ."
" أجل ، لن أصدق ." وافقت سارة على كلامه :" خاصة ، وإنني لم أكتسب السمرة التي كنت أسعى إليها ، ولا حتى لون فاكهة الكيوي ، كي أعوض نفسياً عمَا اصابني !"
" يجب أن تبعدي عن ذهنك فكرة اكتساب اللون البرونزي ." تقلصت عضلات سارة عندما سمعت نبرته الآمرة :" لأن بشرتك التي بلون الخوخ الأصفر والكريمة لا تتحمل ذلك ." شعرت أن حركاتها أصبحت مرتبكة تحت تأثير نظراته ... لماذا لايتوقف عن النظر إليها !
انحنى فيك على طاولة المكتب واعتلى ، جالساً على إحدى زواياها ، وأخذ يهز إحدى ساقيه وقال لها :" أريدك أن تعملي في عطلة نهاية الأسبوع ."

" لا بأس ، ولا مانع عندي إذا كان العمل يتضمن تدقيق دفاتر المحاسبة . لقد صرفت وقتاً طويلاً في تصفية حسابات الضرائب لأنها جديدة عليّ ، سوف أتعود عليها سريعاً . العمل في عطلة نهاية الأسبوع لا يضرني ولا يختلف عن العمل في أيام الأسبوع الأخرى ."
ضحك فيك وقال :" لكن هذا العمل مختلف ، لقد تلقيت اتصالاً هاتفياً من دارين ، الفنان الذي تعاقدنا معه في السابق ، وقد اعتذر مني كثيراً لعدم استطاعته الغناء في المهرجان ، وقلت له ، بأن يهتم بصحته في الوقت الحاضر ، وبأني سوف أتعاقد مع فنان آخر كي يحيي هذه الحفلة ، ولا توجد أي مشكلة ."
" قلت له ذلك ." هزت سارة رأسها ، لأنها ما زالت مستاءة من الطريقة الجافة التي طلب بها منها أن تنشد أغنية لا تعرفها . وتذكرت كيف رفضت ذلك في غضب شديد :" أنا غير متأكدة في ما إذا كنت راغبة ..."
لم يبد على فيك أي انفعال ." لقد اتفقنا على كل شيء عندما طلبت عملاً هنا ." ذكرها ببرودة :" والفكرة أعجبتك كثيراً في حينها . عندما أفهمتك أنه يكون هناك مناسبات كهذا المهرجان ..."
" أحتاج وقتاً أطول كي أتمرن على الأغاني ." أجابته سارة وهي تصر على أسنانها :" هذا ، إذا كنت سأغني أمام جمهور ."
لوح فيك بيده وكأنه ينثر هذا الاعتراض في الهواء .
" لماذا ؟ الجمهور الذي يحضر المهرجان لا ينتقد شيئاً ، إنها حفلة مجانية ، وذلك يتضمن الأكل والشرب ، ولا أفهم سبب لقلقك ؟"
" لا ، لن تفهم ." هاجمته وهي نعض على شضفتيها ." على أي حال ." أضافت ، وهي تشعر بازدياد احمرار وجهها " أين الغيتار ، فكما أخبرتك ، لم أجلب غيتاراً معي !"
" لقد اهتممت بهذا الأمر ." ضحك فيك بتهكم كاد أن يصيبها بالجنون ." تحتفظ إحدى قريبات كيت بغيتار في المنزل الكبير ، كي تعزف عليه عندما تأتي إلى هنا لتمضية عطلاتها ." أضاف بلا مبالاة :" وسنجد هذا الغيتار في إحدى الغرف ، عندما نبحث عنه."
رمقت سارة فيك باستياء ، إذا كان يعتقد أنها ستعزف للجمهور على غيتار قديم مهمل وملقى في إحدى زوايا المنزل ، فهو يحلم ... وهذا لا يطاق.
" لا تنظري إليّ بهذا الشكل ." قطع صوته المفعم بالرجولة ، عليها أفكارها المتمردة :" إنها آلة موسيقية جيدة وقد دوزنت أوتارها مؤخراً ، ستعجبك !"

رمقته بنظرة حارقة ، إنه الأسوأ بين جميع الرجال الأنانيين الذين قابلتهم في حياتها ! وقالت بصوت مرتفع حاولت أن تجعل نبرته هادئة :" سأرى ما إذا كنت أستطيع العزف عليه ، وإلا ..." هزت بكتفيها ." ... ننسى هذا الموضوع !"
لم يؤثر هذا التهديد في فيك ، وتمتم بكل بساطة :" سوف تألفين هذا الغيتار ." يا إلهي ! إن فيك شيطان ! فكرت سارة .
وقف فيك وقال :" اسمعي ، يجب أن أذهب الآن ، سوف أعود بعد دقيقة."
نظرت سارة إليه بصمت ، ونظرة الغضب في عينيها الخضراوين تقول في وضوح ؛ وكأن ذلك يهمني !
عاد فيك ، بعد قليل ، يمشي متمهلاً . مرة أخرى ، جذب الحن الغريب الذي يدندنه ، انتباهها . تعمدت سارة الانشغال بترتيب البريد ، متجاهلة قدومه ، وحتى أنها لم ترفع رأسها إلى أن أصبح واقفاً إلى جانبها .
" لقد جلبت لك غرضاً معي ." تلاقى نظرها مع النظرة الشيطانية الصادرة من عينيه الداكنتين اللتين ، لا تثق ، بهما على الإطلاق ." انظري إلى هذا الشيء ."
أحست سارة أن أعصابها المشدودة قد استرخت دفعة واحدة . " ما هو هذا الشيء ؟" سألته ، وهي تشيح ، كالعادة ، بنظرها عنه لأنها لا تستطيع تحمل جاذبيته.
" هذا !" انحنى على أرض الغرفة والتقط غيتاراً ، وضعه على طاولة المكتب أمامها ." إنه لك ، اعزفي عليه ما دمت هنا معنا ."
تفحصت سارة بعد تردد فيك ، بحذر ." ولكني لن أعزف إلا الألحان التي أريدها ؟ الألحان المألوفة مني ؟"
" بالطبع ، بالطبع ." عاد إلى النبرة المطاطة :" ماذا تظنين ؟"
التقطت سارة الغيتار من على الطاولة ، ولعبت بالأوتار .
" هذا الغيتار ثمين جداً ... لقد صنع في جنوبي المكسيك . لم تسنح لي الفرصة من قبل بالعزف على غيتار بهذه الجودة ."
لم تبد على فيك الدهشة ." لا تشتري إيلين إلا الأفضل ، إنها معلمة الموسيقى في جامعة أوكلاند !"
" وهل تمانع في استعماله ؟"
" ولماذا تمانع ، وكما قلت لك ، هذا الغيتار هو لك ما دمت معنا ."
انحنت سارة على الغيتار وضبطت أوتاره ." أنت تجازف بالاعتماد علي ، أليس كذلك ؟ كيف لك أن تعرف أني لن أفشل وأخيب أملك ؟ وأفسد عليك يوم المهرجان الكبير !"

" لا تقلقي ، لن يكون الجمهور في مزاج انتقادي ، خاصة في آخر النهار ."
" حقاً ." ردت سارة بنبرة شرسة ." إذاً ، هم لا يستحقون أن أعزف وأغني لهم !" أضافت باستياء وطرحت جانباً الغيتار.
" إنه جزء من اتفاقنا ." ذكرها فيك ببرودة ." ولا أزال أذكر قولك لي ..."
" حسناً ، حسناً." أوه ، لقد أزعجها كثيراً ! واستطاعت بجهد منع الكلمات الغاضبة التي كادت تخرج من بين شفتيها . أضافت سارة بشموخ :" لن يكون عندي الوقت الكافي كي أتمرن على أي أغنية خاصة !"
" اعزفي فقط ما تشائين ، سأترك الخيار لك ."
زمت سارة شفتيها الرقيقتين غضباً ، لاستهانته ببراعتها ومقدرتها على العزف والغناء . سوف تبرهن له أنها تستحق كل قرش سوف يدفعه أجراً لها . لماذا فتحت فمها وتكلمت عن خبرتها الفنية ؟ إنها خبرة متواضعة نسبياً لا تتعدى الغناء في بضع حفلات خاصة ، وحفلة موسيقية عامة في الصيف الفائت ، اقيمت لمناسبة اجتماعية .
قال فيك :" حسناً ، هذا ينهي كل نقاش ."
هذا الغرور لا يطاق ! فكرت سارة وهي تشتعل غضباً.
" هذا إذا قررت أن أقوم بذلك نهائياً." قالت ، وعرفت ، بعد فوات الآوان ، من خلال نظرته الساخرة ، أنها قد خدعت نفسها ، لأنها أقرت بالموافقة على الغناء في هذه المناسبة الاجتماعية . لعنة الله عليه !
عادت عن أفكارها وتابعت الاصغاء إلى نبرة صوته الموسيقية :" أخبريني عما عندك من ملابس ؟ فستان طويل ؟ زي يعطي الانطباع عن الحياة المنزلية السعيدة ؟ لقد وقفت أمام الجمهور في السابق ... و أعني أنك أدرى بما سوف ترتدين ."
" أوه ، أنا أعرف أي نوع من الملابس ، تعتبره ملائماً." أجابته سارة وقد اعتراها السرور لأنها لا تستطيع تلبية طلبه في هذا الأمر ... على الرغم من تدخله في شأن ملابسها الخاصة . " لم أحضر معي الكثير من الملابس ... والذي أحضرته معي هو ملابس عمل ، سراويل جينز ، قمصاناً رياضية وسراويل قصيرة ... وما شابه ."
" لا جدوى من هذه الملابس ." أجاب فيك باستخفاف على ما ذكرت عن ملابسها ." ما أفكر به هو زي مختلف تماماً ، وهذا لايعني أن ملابسك رديئة ، يوجد هنا ، في مكان ما في الكوخ ، زي تقليدي ، ربما لايزال معلقاً في الخزانة ، جلبته صديقة دارين معها عندما رافقته إلى هنا وصاحبته في العزف على الغيتار في مهرجان السنة الفائتة ." ثم أضاف
فيك اطراءً لقوام سارة النحيل مما جعل لون الاحمرار الفاضح للمشاعر يعتلي وجنتيها :" هيا جربيه ، أعتقد أنه بقياس جسمك."
" لا ، شكراً ! " تنهدت سارة بعمق وجهدت كي تسيطر على أعصابها . يا لوقاحته ، هل يظن أن له الحق ، إذا كان رئيسها في العمل ، في التدخل في حياتها الخاصة ؟
رقت ، فجأة ، تعابير وجهه وقال :" صدقيني ، ستبدين أكثر جاذبية ، في هذا الفستان ، مما بدت فيه صديقة دارين !"
إنه يطري على جمالها ! فيك ... من دون سائر الرجال ! هذا لايصدق . نظرت إليه بارتياب . وأدركت من ملامحه أن اطراءه لها هو غير شخصي بتاتاً . كان يجب عليها أن تعرف !
حلت الدهشة ، بعد لحظة مكان الغضب وبان على خديها اللون الزهري ." هل تعتقد حقاً؟" انفجرت وقد كاد تنفسها أن يتوقف :" إني سأرتدي ملابس فتاة أخرى مستعملة ، لهذا التجمع المنتظر ؟"
" إننا نطلق على هذا التجمع اسم ، مهرجان القطاف ." مغط فيك نبرة صوته.
أحست سارة ، بطريقة ما ، أنه من الأسهل أن تبتلع تحديها له وأن تستسلم لمناورته ، حين تفادت تأثير نظراته الخارقة . " تطلب مني كل هذا . كي أرضيك؟"
" لِمَ لا ." أتى صوته هادئاً ، يوحي بالخطر .
لاحظت سارة أن شفتي فيك مطبقتان على بعضهما والغضب يلوح في عينيه ، على الرغم من أنه كان مسيطراً على هدوء أعصابه . إنها تستطيع الآن أن تدرك مشاعره من الطريقة التي يتلفظ بها الكلام . ومن الواضح أن هذا الرئيس لم يتعود عدم تلبية مطالبه ، أو الاستخفاف بها ، حسناً ، لقد آن الأوان كي يتعلم ، كيف سيكون مخزن هذا الكرم ، كل عالمه الخاص والصغير ، ولو أن الكرم لم يصبح ملكها رسمياً حتى الآن.
" أفهم من ذلك ..." ما كادت تحجب نبرة صوته الخافتة والمتعثرة غضبه المكبوت :" ... أن لا نية عندك ، البتة ، لتغيير قرارك ؟"
" أبداً ! لا نية عندي في إنشاد أغنيتك الفولكلورية ، حتى لو كنت أعرفها ."
" باستطاعتك الاستماع إلى هذه الأغنية قريباً."
" لا تزعج نفسك ." تنفست سارة بعمق وأعدت نفسها للصراع :" سأعزف وأنشد بضع أغنيات أعرفها ... أغنيات من الفولكلور الإنكليزي ، وأغاني حديثة شعبية يعرفها الجميع ويستطيعون المشاركة في غنائها ، إذا أرادوا
." كانت عيناها تتطاير شرراً ." ولكن لن أرتدي أبداً في نهاية هذا المهرجان زياً وطنياً."
اضطربت سارة وهي تلاحظ اندفاع الدم الحار إلى خدي فيك . ولكنها تابعت تحديها ورفعت ذقنها إلى الأعلى ...
وهي حركة أصبحت تستعملها كثيراً ، مؤخراً ... ولم تسمح لنفسها بالانهيار أمام قوة نظراته الحارقة التي واجهتها .
" لا أعرف لماذا تهتم إلى هذه الدرجة بهذه الأغنية ." قالت بصوت رقيق لا مبالٍ :" ما أعنيه هو أنك لست مهاجراً أوروبياً من الجيل الأول ، وأنت ما تكاد تستطيع أن تدعي الانتماء إلى أي بلد في الجانب الأخر من العالم ، ولا أرى سبباً لكل هذه الضجة ..."
" ألا ترين ؟" كاد الغضب أن ينطق من نبراته :" دعيني أخبرك !" اقترب منها في خطوة مفاجئة وأمسك بها من كتفيها بقبضة فولاذية وهزها بعنف ." هذه الأغنية هي من التقاليد الهامة هنا ، ألا تفهمين ؟"
حاولت سارة عبثاً التخلص من قبضته ." ما أفهمه الآن ، هو أنطك تؤلمني ، أبعد يديك عني !"
كادت سارة أن تفقد توازنها عندما أفلتها فيك فجأة . استدركت نفسها كي تستمع لما يقوله :" لقد كنت آمل أن تكون أكثر منطقية ..."
" انس ذلك ." قاومت سارة برغم ارتباك مشاعرها .
" دعني أخبرك أمراً ، هذه المرة ! عندما يأتي اليوم الذي سوف أرتدي فيه زياً وطنياً وأنشد أغنية كتبها أحد النيوزيلنديين عن حفاري الصمغ في الأيام الأوائل ، ستعرف أني غيرت رأيي ، وهذا ..." اعتراها شعور بالنصر ." ... بأن أقرر ... بأن أقرر ..." وحاولت ، بجنون أن تعثر على أسوأ احتمال يمكن أن تحلم به ." ... البقاء معك هنا في صن فالي ... إلى الأبد ."
معك ... إلى الأبد ؟ ما هذا الذي قالته ! يالسوء تصرفها ! كان من الأفضل أن تركل نفسها ولا تنطق بهذا التعبير . وأدركت سارة من خلال الابتسامة الساخرة التي بانت على شفتيه ، أن مغزى كلماتها الأخيرة ، لم يفته.
قال فيك ببرودة الفولاذ :" طالما أنا أعرف ذلك ."
نظرت إليه بارتياب ، ولكن نظرته الجامدة لم تنم عن شيء ورغبت في هذه اللحظة برمي الغيتار في وجهه الداكن والمتهكم.
" اسمعي ." قال فيك وقد تغير مزاجه فجأة ، وانحنى بالقرب من وجهها ، مما جعلها تشيح بنظرها عن نظرته الحارقة :" يجب أن أذهب إلى المدينة
غداً ... من أجل نتسويق بعض المنتجات . لماذا لا تذهبين معي ؟ وهناك نمر على أحد الحوانيت ، وتنتقي لك فستاناً ترتدينه."
إن فيك فعلاً ... قالت سارة في نفسها وهي لا تزال غاضبة والاحمرار يعلو وجهها ... يعتبرها مطية له ! هذا التفكير دعاها للقول بروح عالية :" أجل ، سوف أذهب برفقتك ، ولكن أنا من سنتقي الفستان وسوف أدفع ثمنه من مالي الخاص ، وإلاّ لن أقبله أبداً !" أن تصبح مدينة له أمر لا تطيق حتى التفكير به ." وأنا أعني ما أقول ."
" اتفقنا إذاً." أشعلت ، النظرة المتهكمة في عينيه ، غضبها أكثر من أي وقت مضى . " سأمر عليك في الثامنة صباحاً ، هل ستكونين جاهزة؟"
" أجل ، على ما أعتقد ." قالت وقد جرحت مشاعرها ، بعد خروج فيك ، أدركت في أي موقف قد وضعت نفسها ، رحلة الذهاب والإياب إلى أوكلاند ، ستأخذ معظم وقت النهار ... وستكون بمفردها مع فيك ! ولأن من طبيعتها أن تكون صريحة و منفتحة ، فهي بحاجة للانتباه إلى كل كلمة ستقولها . فزلة لسان واحدة كفيلة بأن تفضح هويتها الحقيقية . ولم تستغرب سارة ، أن تضعها فكرة التواجد معه في حالة من التوتر النفسي ، لم تمر به من قبل.
ولكنها لم تقابل قط ، رجلاً يستطيع أن يخترق دفاعاتها ، و لايبقى لها إلا طريق الهروب ... أي تفادي لقائه ... إذا استطاعت ذلك أيضاً... لقد فات أوان الندم ... لقد علقت في الفخ.

استيقضت سارة في اليوم التالي باكراً ، وانتظرت على منصة الكوخ الأمامية ، وسرعان ما رأت فيك وهو يضغط على مكابح سيارة اللاند روفر ويرقفها أمام الكوخ.
راقبته وهو يسير نحوها فوق العشب ، وأسرت في نفسها ، أن الرجل رائع بالفعل ، ومن الصعوبة على أي كان ، تفادي تألق قوة شخصيته ورجولته . برغم ما يبدو عليه من عدم الاحساس بتأثيرهما عليها ... أو على أي أنثى شابة ، سلسة الانقياد تقع أسيرة جاذبيته المغناطيسية ... ولا غرابة في ذلك . عدلت بسرعة فكرتها ... أي فتاة لا تعرفه جيداً وغير مضطرة للعمل عنده . هنالك كلمة وحيدة يمكن أن يوصف بها ... إنه متسلط ! ويجب ان لا تنسى ذلك !
" صباح الخير ." حياها فيك ." أنت تبدين الآن كأنك على استعداد لغزو العالم !" قال وهو يلقي نظرة الاعجاب على الفتاة ذات الشعر الداكن ،
التي ارتدت فستاناً بسيطاً بلا كمين من قماش ناعم ، باللون الوردي الفاتح ، وتلمع عيناها بالمشاعر الباطنية.
بدأت الحديث بخجل فيما كانت تدفع عنها أفكاراً محرجة :" أعتقد أن جو العطلة هو الذي جعلني أبدو هكذا ."
" العطلة ؟" تساءل فيك وهو يضحك.
" أعني عطلة العمل ." عدلت سارة جملتها وهي تبتسم .
إنها تشعر أن في استطاعتها أن تبتسم ، اليوم ، في وجه فيك ، ويبدو أن سبب انشراحها هو هذا الصباح المشمس والرائع .
قالت في نفسها.
ترجل فيك من السيارة ، وفتح لسارة الباب كي تأخذ مقعدها ، ثم أغلق الباب بشدة ، ودار حول السيارة وتسلقها ليأخذ مقعد السائق . انطلقت بهما على الطريق المحاط بالأدغال ، وكانت أغصان الأشجار المنخفضة ترتطم بالسطح من حين إلى آخر ، ثم مرا ، في نهاية المنحدر ، فوق جسر وعر يعلو جدولاً . ومن هناك اتجها إلى الطريق الرئيسي للسيارات ، الذي أحاطت بجانبيه غابات كثيفة من الأشجار المختلفة التي رمت بظلالها عليه.
دهشت سارة ، وهي قابعة في مقعد اللاندروفر المرتفع ، لاحساسها بأن ركوب هذه السيارة هو أكثر متعة وإثارة من ركوب الحافلة الفخمة التي أقلتها إلى صن فالي وقد يكون السبب هو الارهاق الذي اعتراها من جراء رحلتها الطويلة بالطائرة ، أما الآن ...
" أنت لا تتكلمين عن نفسك كثيراً ، وتحتفظين بهذه الأمور في داخلك ، أليس كذلك ؟" هزت كلمات فيك ، سارة وأخرجتها من مزاجها الحالم.
دقت أجراس الخطر ، مرة أخرى ، في رأسها ." ماذا تعني بذلك ؟"
" أعني ، أنت لا تتكلمين عن عائلتك وأصدقائك وكل هذه الأمور ." تمتم فيك :" أنت لا تتحدثين عن ذلك ، أبداً."
" لا أتحدث عنهم ؟" لعقت سارة شفتيها الجافتين فيما كانت تحول كسب الوقت . هل هو يرتاب بهويتها الحقيقية ؟ جهدت سارة كي تأتي نبرة صوتها لا مبالية .
" هذا ، لأنه ليس عندي أحد أتكلم عنه ... ما أعني ، هو ليس عندي أقرباء . إني أقيم مع عمتي ." أضافت سارة وحبست أنفاسها بانتظار أسئلة أخرى.
ولكنها وجدت ، بعد دقائق ، أنه لايوجد أساس لمخاوفها . كل ما هنالك ، أن فيك أظهر بعض الفضول في هذا الأمر . ثم سمعته يقول :" معظم
الفتيات كن قد فضلن اختيار مكان آخر للسكنى ." كان يحدق في الطريق الممتد أمامه ، ورأت سارة عصفوراً ينطلق من بين الأشجار ويطير قليلاً حول السيارة ثم يحلق مرتفعاً إلى أعلى الأشجار .
" يبدو أنك سعيدة وقانعة بالإقامة عند عمتك؟"
" أجل ، أنا سعيدة ." أكدت سارة له :" لو لم أكن كذلك لما بقيت عندها ." لماذا يلقي عليها الأسئلة بشأن حياتها العائلية ؟
نظر فيك إليها جانبياً ." أو ... لو عثرت على شخص تريدين البقاء معه ، طول الوقت ." اقترح عليها بنبرته الممغوطة التي تكاد أن تصيبها بالجنون.
" لا أدري ، ولكني لم أعثر بعد على مثل هذا الشخص ." أجابت بانفعال ، وأدركت بعد ثوان ، أن فيك نجح مرة أخرى ، في انتزاع معلومات عن حياتها الخاصة في انكلترا . ولم تستطع أن تفهم سبب اهتمامه وفضوله بهذا الأمر.
" إني أستشف الأمر ، فقط ." قال فيك هذه الجملة بصوت خافت جداً إلى درجة أن سارة تساءلت عما إذا كانت قد سمعتها حقاً . يستشف أي أمر ؟ وأحست بطعنة من الخوف تخترق أعماقها ، ولكنها طرحت الشك جانباً.
أوقف فيك اللاندروفر في ظل الأشجار الباسقة على جانب الطريق ، عندما انتصف النهار وبانت الشمس في قرص السماء الزرقاء الصافية . ورأت بالقرب من مكان توقفهما ، فسحة منحدرة من الأرض مغطاة بالأعشاب وفي أسفلها يجري جدول ماء صافٍ رقراق.
" حان وقت الغذاء." قال لها باختصار وهو يترجل من اللاندروفر ويدور حول السيارة إلى الجانب الآخر ويساعدها في النزل على السلم المرتفع للسيارة .
" اقفزي ، وسوف أمسك بك ." رأت ابتسامته الفتاكة . هل من المحتمل أن يكون اللمعان الكسول الذي يظهر في أعماق عينيه الداكنتين ، هو الذي يثير أعصابها ويجعلها تتعثر بخطواتها وترمي بنفسها بين ذراعيه المنتظرتين ؟
لم تكن سارة مهيأة لتتحمل ردة الفعل عندما أحاطت ذراعاه المفتولتان بجسمها . تولد عندها شعور بقوته ورجولته . تباطأ فيك في افلاتها ، ولما فعل ، كانت سارة تتنفس بسرعة وأخذ قلبها ينبض بسرعة . استرقت النظر إليه من تحت أهدابها ولم يبد عليه أنه شعر بتأثير قربه عليها.
لأنه استدار مبتعداً إلى مؤخرةاللاندروفر وجلب من داخلها سلة الطعام . ولم تعن له شيئاً ، اللحظة المجنونة ، حين التصق بها . وسارة لم تفهم لماذا اعتراها هذا الشعور المفاجئ بالاحباط.
ألقت بنفسها على العشب الجاف ، ولحق بها فيك وجلس القرفصاء إلى جانبها . ثم فتح براد الثلج وأخرج منه زجاجة من شراب الفاكهة . ورأت سارة داخل سلة الطعام شطائر من البيتزا ، ومخللات متنوعة وكعكة جزر مغطاة بكريمة الليمون اللذيذة ، وفاكهة الكيوي والدراقن بحجمه الكبير ولونه الذهبي.
أمسكت سارة بكوب من البلاستيك فيما صب فيك الشراب فيه ." إن هذا النوع من الشراب ، يلذ مذاقه أكثر في الأماكن الخارجية ، ألا توافقين ؟"
" حتماً!" ابتسمت سارة ." هل تعرف أنها المرة الأولى في حياتي التي أتذوق فيها الكيوي ؟ إن سعرها في انكلترا مرتفع جداً وليست في متناول الجميع ."
ضحك فيك ."هنالك مرة أولى لكل شيء ." وشطر إلى نصفين ، حبة كيوي البيضاوية الشكل والخضراء اللون وناولها نصفاً. تأملت سارة ، وهي تلتهم الكيوي اللذيذة الطعم ، في أنها لم تتمتع منذ مدة طويلة بغداء كهذا .
" أنا لم أستغرب إقامتك في المنزل الكبير ." تمتمت سارة :" خاصة و أن لديك طباخة رائعة مثل كيت ..." توقفت فجأة عن متابعة الكلام ، عندما أدركت من خلال اسوداد ملامحه ، أنها ارتكبت خطأ ما ! ومن الواضح أن تعليقها البريء قد أثار ذكريات أليمة في نفسه ، عن الفتاة التي كاد أن يتزوجها منذ سنة ، ولا يزال يهيم بها ... شعرت سارة بطعنة في قلبها عندما وصل تفكيرها إلى حبيبته السابقة .
من المؤكد أنه لايزال يحبها ، لأن رجلاً من نوعيته يستطيع أن ينتزع الاهتمام العاطفي من أي فتاة تعجبه ، ما عداها ... بالطبع فهي مختلفة عن غيرها!
" هيا ، لنتابع رحلتنا ؟" قال فيك باختصار.
نسيت سارة مزاج فيك المتعكر ، عندما استأنفا طريقهما ولفح الهواء المنعش وجهها . بقيت صامتة وهما يقطعان الكيلومترات على الطريق ، وغرقت في إحساس من الاسترخاء الممزوج بالمتعة .
شاهدت سارة من نافذة اللاندروفر على التتابع ، التلال المغطاة بالغابات ثم الأراضي المنبسطة حيث المزارع ومراعي الغنم وبعد ذلك مراعي
الغزلان الرشيقة المحاطة بالأسلاك وأخيراً المنحدرات الخضراء حيث بساتين البرتقال وفاكهة الكيوي .
دخلت اللاندروفر ، بعد ذلك ، المناطق الآهلة بالسكان وشاهدت سارة القرى والبلدات الصغيرة المتناثرة هنا وهناك ثم مرا في طريق سيارات فوق المستنقعات التي تحدثها مياه المد والجزر وحيث توجد أرصفة اليخوت وقوارب النزهة . ولما انتهت هذه الطريق الملتوية ، وجدت سارة نفسها في شارع زرع جانباه بالأشجار ، ورأت مياه مرفأ أوكلاند . نسيت كل اضطرابها وانزعاجها من فيك .
وأعتراها شعور بالشفافية والمتعة والسرور ، دفعة واحدة . بتأثير الجو الجديد الذي أحاط بها وسحر الشمس الساطعة .
قاد فيك اللاندروفر حول متنزه عام ممتلئ بالزهور الجميلة المتنوعة ثم أوقفها إلى جانب الشارع . وأقفل أبواب السيارة ، ثم سارا معاً على الرصيف مع المتبضعين .
توقف فيك عند مدخل سوق تجارية مليئة بالحوانيت المزينة ثم أشار بيده نحو ناطحة سحاب :" يجب أن أقابل شخصاً في مكتبه هناك ، والبناية تقع على الشارع الثاني ، ستجدين في هذا السوق عدة محلات ." تابع فيك توجيهها :" وقد يسعدك الحظ وتعثرين على ملابس تعجبك ." ألقى عليها الضحكة التي تأسر القلوب والتي بدا أنها لن تستطيع مقاومتها أبداً." هل تعتقدين أن ساعة تكفيك كي تعثري على شيء يناسبك ؟"
ابتسمت سارة في وجهه الذي سمرته الشمس . إنها تجد في نفسها اليوم سهولة في التعامل معه ، وأجابته ضاحكة :" هذا يعتمد على الأسعار!"
" لا تعيري بالاً لذلك ." لمع شيئاً ما في عينيه ، للحظة ، ثم اختفى وكأنه أراد أن يضيف شيئاً ثم غير رأيه.
" سأراك بعد ساعة ."
حاولت سارة الاعتراض ، على ما ارتابت في معنى كلامه ولكن الأوان فات ، لأنه لوح بيده واستدار مبتعداً ، ورأته يعبر الشارع إلى الجانب الآخر.
حدقت سارة في ظهر فيك وهو يبتعد وقالت في نفسها .
إنها أصبحت تتخيل أموراً سخيفة من جراء تأثير نظرته الغامضة والساحرة . ولكنها لن تهتم لهذا الأمر ، ألم توضح له أن لا نية عندها للسماح له بدفع ثمن الفستان الذي سوف تشتريه من أجل الاحتفال ؟ وقررت وهي تشعر بالسعادة والانشراح ، أنها لن تشتري إلا فستاناً معتدل
الثمن ويعجبها ، لترتديه في مهرجان الشراب أو أي مناسبة أخرى شبيهة قد تحصل لاحقاً في صن فالي .
أصرت سارة على عدم التلهي بالنظر إلى واجهات الحوانيت التي تعرض الملابس المختلفة والخلابة .
وتوقفت أخيراً أمام حانوت صغير وكتب على لافته الإسم أنطوان بأحرف ذهبية مضيئة ، دخلت إلى الحانوت وبنظرة سريعة متفحصة للملابس المعروضة أدركت أنها لن تجد طلبها ، ولم يعجبها أي شيء ولم يحالفها الحظ أيضاً في مخزن كبير يحتوي على أنواع عديدة من ملابس النساء . ياللسماء ، فكرت سارة ، إذا لم تتوقف في العثور على شيء يناسب ولم تجد في الحانوت التالي الذي تقصده فستاناً يعجبها ...
دخلت سارة مخزناً مؤلفاص من غرفة صغيرة علوية وحجرة تبديل . ورأت بداخله عدداً قليلاً من الفساتين المعروضة التي يمكن الاختيار منها .
حيت البائعة المتوسطة العمر ، التي كانت تلبس زياً أسود اللون ، سارة بابتسامة لطيفة . وكونت بنظرة خاطفة انطباعاً عن قوام سارة النحيل وتقاطيع جسمها ، فيما أصغت إلى زبونتها وهي تشرح لها ماتريد.
لم تضع البائعة أي وقت ودخلت إلى الغرفة الخلفية ثم خرجت وبيدها فستان قرمزي اللون, تفصيله مميز يشد الأنظار."قد تجدين هذا الزي غير محتشم قليلا..." قالت وهي تبسط الفستان على الطاولة أمام سارة كي تتفحصه:"..... ولكن بالنسبة إلى فنان...."
تفحصت سارة الفستان بعناية وهزت برأسها:"لا,ليس هذا طلبي!"
تأبطت سارة حقيبتها وكانت على وشك الخروج عندما نادتها البائعة:"انتظري,لدي بعض الأزياء التي لم يأت اصحابها لتسلمها. وقد دفعوا عربونا عليها في بداية الصيف.لذلك خفضنا كثيرا أسعارها, وهي صفقة جيدة في حال انطبق واحد منها على مقاسك."
أزاحت البائعة ستارة في زاوية الغرفة لتكشف عن مجموعة من الفساتين المختلفة .وجدت سارة بينها فستاناً أسود من قماش ناعم, يهتز على علاقته بفعل النسيم الذي يهب من النافذه المفتوحة .أعجبها الفستان من اللحظة الأولى ولاحظت بنظرة خاطفة , تفصيل الياقة الجذابة, وتفصيل الخصر الذي تلف الجسم ويظهر التقاطيع النحيلة.
وبدا أنه على مقاسها وأن طوله مناسب.
وقبل أن تلتقط سارة الفستان الأسود , امتدت يد سمراء وراءها وانتزعت الفستان من علاَقته.
"انظري إلى هذا ." الصوت المطاطي المألوف لها , ثانية , استدرات لترى فيك يحدق بها. ياللوقاحة , فكرت سارة باستياء .يصل إلى مكان لقائهما قبل الوقت المحدد ويلاحقها إلى هذا الحانوت في الوقت الذي تتمنى فيه أن يكون بعيداً عنها آلاف الكيلومترات!
ولاحظت سارة بإضطراب أن نظرته الفاحصة قد وقعت على تقاطيع جسمها النحيل ومن دون سبب وجدت صعوبة في النظر إلى وجهه المبتسم ."كأن هذا الفستان قد فُصّل خصيصاً لك, وعلى مقاسك تماماً, هل أنت راضية." قال فيك بحماس.
"أنا أشك بذلك." كذبت سارة.
وكالعادة , لم يدخل فيك معها في نقاش.: "جربيه!" قال لها وهو يرمي بالفستان فوق ذراعها.
تقلصت شفتا سارة تمرداً, لو كان فيك أي رجل آخر, فكرت وهي تبدأ بالغليان,لأتت الجملة منه كاقتراح , أما من فيك فقد أتت كأمر عسكري !
وصممت سارة على أن لاتدعه يتخطى إرادتها,ألم تكن الغاية من قدومها معه إلى أوكلاند اليوم هي أن تنتقي بنفسها الفستان الذي سوف ترتديه في يوم المهرجان؟
جهدت سارة بأقصى استطاعتها كي تنم نبرة صوتها عن اللامبالاة وتمتمت :"سأفكر به, وسأجرب هذا الفستان أيضاً." وانتزعت بعنف أقرب فستان معلق على السكة ودخلت حجرة تبديل الملابس.شيء مافي داخلها كان يشعرها أن الفستان الأسود هو الذي تمنت الحصول عليه....
مميز وناعم وبسيط ويماشي أحدث تطورات الموضة.تمنت سارة في نفسها أن لا يطابق مقاس الفستان مقاسها! ولكنه من مقاسها تماماً. نظرت إلى نفسها في المرآة الطويلة... وشاهدت أطراف القماش الأسود المشبك والناعم تتراقص مثل النسيم حول كاحليها.لماذا لم ترتدي ملابس سوداء من قبل؟ لأنها لم تعتقد في مامضى أن هذا اللون يلائم بشرتها, وهنأت نفسها على حسن قوامها ولون بشرتها الشديد البياض...
لم يعد عندها أدنى شك ... هذا هو الفستان الذي تريده.
رفت عينا سارة عندما وقع نظرها على الرقم المكتوب على بطاقة السعر .إذا كانت هذه هي الأسعار العادية...ولكن مرة واحدة في حياتها...فكرت سارة بتهور,سوف تسرف على نفسها وتشتري ماتريده فعلاً, مهما كان الثمن.وعلى أي حال, هي لم تنفق أي شيء ,تقريباً, من مدخراتها أضف إلى ذلك راتبها الأسبوعي من العمل في الكرم.
"هل أستطيع الدخول؟" أتاها صوت فيك في ذات الوقت الذي تحاول فيه اتخاذ قرارها بشأن الفستان.
أزاحت سارة الستارة التي تفصلهما ورأته ينظر إليها باعجاب." إنه رائع ويعجبني!" تعابير الأنشراح والسرور البادية على وجهه كادت أن تصيب سارة بالجنون.أي شخص موجود هنا كان سيتخيل ... فكرت سارة ... من خلال تعابير وجه فيك أنه مصمم هذا الزي .أدار وجهه نحو البائعة التي كانت منشغلة في مؤخرة الغرفة وقال لها بحماس :" هذا هو !مانريده , سوف نشتريه!"
"نشتريه ,بصيغة الجمع؟" حدقت سارة في وجه فيك الطفولي وعيناها تكادان أن تلتهماه.
نقلت البائعة نظرها بين فيك وسارة وهي حائرة في ما يجب أن تفعله ." هل أنت مقتنعة بهذا الفستان ياسيدتي؟"
استفهمت من سارة بلطف ."وماذا عن السعر؟"
مرة أخرى ,هدد طوفان الغضب بإ غراق مشاعرها, وأسدلت الستارة عليها محدثة ضجة بفعل احتكاك علاقاتها المعدنية بالسكة ولم يبق إلا رأسها ظاهرا للأعين.
"باستطاعة هذه السيدة أن تقرر بنفسها ماتريد شراءه!"
انفجرت بالكلام ."واجل..." أضافت وهي ترمق فيك بنظرة حارقة:" أعتقد أن هذا الفستان هو مناسب لي!"
وكأن دهراً قد مر عليها داخل الحجرة عندما خرجت بشعرها المتطاير في كل الاتجاهات وبفستانها الأحمر القديم يجرجر نفسه عليها بخجل وشاهدت البائعة تكتب الفاتورة .
"أنا الذي سأدفع ثمنه." قالت وهي تلاحظ بسرعة أن فيك كان واقفاً إلى جانب البائعة , وقد وقعت عليها نظرته المتهكمة على خديها المحمرين وشعرها المنبوش.مدت يدها داخل حقيبتها."لقد أتيت من انكلترا وليس معي غير الشيكات السياحية , هل تقبلين بها؟"
"بالطبع!"
بحثت عن الشيكات في حقيبتها من دون جدوى:"أنا متاكدة أني أحملها ...في مكان ما هنا ." وفتشت بيدين مرتجفتين . وبشعور من الحرج, محتويات حقيبتها ثم تذكرت أنها لم تجلب معها دفتر الشيكات لأنها أزالت المغلف الطرف الذي يحتويه من حقيبتها في الليلة الماضية ولم ترجعه إلى مكانه.


" أنا أسفة ." تمتمت بحسرة للبائعة المنتظرة:"لن أستطيع شراء هذا الفستان بعد كل هذا التعب."
"لابأس " قال فيك برقة ,لم تساعدها في تخفيف شعورها بالخجل الشديد , ووضع بطاقة اعتماده على الطاولة أمام البائعة, فيما كانت سارة تنتظر في صمت وعيناها ترسلان الشرر في اتجاهه, وكانت البائعة تكتب وصلاً بالمبلغ.
لفت البائعة الفستان بورق خاص ووضعته في كيس من البلاستيك الأبيض والذهبي وناولته لفيك , ألقى عليها تحية الوداع عندما قالت بلطف وهي ترمقهما :" أتمنى أن أراكما ثانية."
"لا أعتقد , إذا وجدت سبيلاً لذلك!" قالت سارة من تحت أنفها وسارت إلى جانب فيك , وهي تحس أن خديها يحترقان من كثرة تدفق الدم إليهما, بإتجاه الشارع حيث كانت اللاندروفر متوقفة .
"لاتتكدري." قال فيك بنبرة أسرت قلبها ,إنه على الرغم من كل شيء ,مازال يستطيع التأثير في عواطفها:"إن كلفة هذا الفستان هي جزء من كلفة العرض الغنائي وأنا لا أفهم معنى لهذا الاستياء الذي تبدينه."
رمقته سارة بنظرة متعالية , وأدركت من التهكم البادي على طرفي شفتيه ,أنه يدري تماماً مدى شعورها في هذا الشأن.
"ماكنت اشتريته , لوعرفت ذلك."قالت وهي تحاول أن ترفع من معنوياتها:"... على الأقل ,ليس قبل أن أحصل على ثمنه! كنت سأعود لشرائه عندما أعثر على دفتر شيكاتي... بطريقة ما ."
"أنت تعرفين أنك لن تعثري عليه." وصلا إلى حيث كانت اللاندروفر متوقفة وفتح فيك أبوابها:" ولن يكون بمستطاعك العودة إلى هنا , حسناً, لقد خمنت!" قال وقد لاحظ غضبها :"إني لن آتي بك إلى هنا ثانية."
"لم تكن عندي النية لطلب ذلك منك." ثم أضافت بعد أن راودتها فكرة مفاجئة:" هل تقبل الشيكات السياحية؟"
أجابها فيك بهدوء:"كلا , ليس منك ياسارة."
سارة لم تشعر بالرغبة في الاستسلام " إذاً , أريدك أن تحسم ثمن الفستان من راتبي الأسبوعي!" قالت وهي تشعر بأن الأهواء تعصف بها فيما كانت تتسلق درج اللاندروفر العالي:"لايهمني إذا كنت سأدفع آخر قرش أقبضه."
أغلق فيك باب السيارة الثقيل عليها , ثم دار حولها واتخذ مقعده ونظر نحوها :"أريدك أن تفهمي الأمر نهائياً,أنا الذي يدفع كل تكاليف الاحتفال في صن فالي بما فيه ثمن الفستان ولاحاجة لأن أقول , كان عليك أن

تدركي هذا الأمر عندما كنت تراجعين حسابات المصاريف للعام الماضي!"
"أجل , لقد فعلت! ولكن الحسابات لم تتضمن ثمن ملابس دارين التي ارتداها في يوم المهرجان !أو ثمن الزي التقليدي الذي ارتدته الفتاة التي صاحبته في العزف والغناء.ولم يكن مسجلاً إلا المبلغ الذي قبضه أجراً على إقامة الحفلة." شعرت بالخيبة لارتجاف صوتها ."لقد أخبرتك مراراً ولكن يبدو أنك لم تفهم بعد ! إني لا أحتاج لك , كي تشتري لي أي شيء, وكما قلت , سأدفع ثمن الفستان من راتبي."
هز فيك كتفيه العريضتين."لا بأس , إذا كان هذا ما تريدين."أجابها فيك .إن نشوة الأنتصار لم تدم أكثر من لحظة لأن فيك أضاف :"بالطبع سوف أزيد راتبك ليصبح متناسباً مع مدفوعاتك."
فتحت سارة فمها كي تعترض ثم أغلقته ثانية , أوه , إنه يجننها , مغرور , مترفع , أناني ويبدو أنه لاتوجد وسيلة لقهره.
اعتلت شفتيها ابتسامة رياء ولم تفت الحركة نظر فيك ."ماهو الشيء الذي يضحكك؟" سألها .
أجابت سارة بصوت خافت :"لاشيء, لاشيء بتاتاً, كنت أتأمل فقط. كم أنت عنيد , لاشيء يقف في طريقك عندما تصمم على شيء."
نظر فيك إليها جانبياً بتهكم ."مضحك , ها , لقد كنت أفكر في هذه اللحظة , كم أنت عنيدة .رأس تيس , هذا مايطلقون على العنيد في لغة الكيوي." قال فيك فيما كان يدير محرك السيارة ويبدأ رحلة العودة إلى الكروم.
قاد فيك اللاندروفر على الشارع المزدان بأنوار الحوانيت المختلفة والمبهجة , وواجهات العرض الخلابة, وتوقف الجدال والنقاش الحاد بينهما.
" هذا الحي يحتوي على كثير من الحوانيت التي تبيع بضائع مسروقة , هل تريدين إلقاء نظرة وسأقلك لاحقاً."
"لا , شكراً." أجابته سارة ببرود , من دون أي مال في حقيبتها , يفقد التبضع -حتى التبضع النظري- اغراءه، وهي تفضل بكل بساطة أن تموت على أن تطلب من فيك أن يسلفها , اليوم , أي مبلغ.
"لم أعتقد انك ستقبلين." عاد ثانية إلى النبرة الممغوطة.
ياله من أخرق لايرحم !

روايات احلام / صيف القطاف حيث تعيش القصص. اكتشف الآن