الفصل الاول

10.8K 170 5
                                    



" لقد استلمت رسالتك التي تطلب فيها مني أن آتي وأقابلك ." قالت سارة ، وعيناها المليئتان بالحيرة ترمقان الرجل الأصلع والمنتفخ الودجين الذي كان يجلس خلف طاولة مكتبه .
" أنا مسرورٌ لقدومك ." حدق المحامي بنظرة تقييمية في الفتاة الواقفة أمامه ، نحيلة ، متوسطة الطول ، لون بشرتها مثل لون الكريمة ، شعرها بني داكن ويعلو أنفها النمش - لم تكن جميلة بمعايير العصر ، ولكن شعر أنها تملك جاذبية تشد الغير . فهي مليئة بالحيوية والنضارة وابتسامتها الدافئة العريضة والودودة كانت مثل شعاع الشمس الذي يدخل جو المكتب العفن.
"بصراحة." بدأت سارة الحديث ." لابد أن هناك خطأ . فأنا لم أستطع تخيل سبب تريد من أجله مقابلتي.
قال الرجل في نفسه :إن صوتها رقيق وواضح .
وتساءل كيف ستكون ردة فعلها عندما يخبرها عن السبب الذي من أجله طلب مقابلتها ." هل أنت الآنسة سارة ؟ سارة سميث؟"
" نعم ، هذا أنا . إسمع ." أخرجت سارة من حقيبتها ورقة مطوية ." لقد أحضرت وثيقة ميلادي كما طلبت ولكن لاأحد يطلق علي هذا الإسم الآن." وشعر المحامي أن ابتسامتها تأسره.
" حقاً؟" تغيرت نبرة صوته ." لماذا توقفوا عن تسميتك بهذا الإسم؟"
"لماذا؟" علقت سارة وهي تكاد أن تطلق ضحكة استغراب عالية ." ماذا سيكون شعورك لو كنت مضطراً لحمل هذا الإسم طيلة حياتك ؟ وكما تعرف ، أستطيع شراء اسمين مقابل بنس واحد ." أسرت له سارة ." عندما انتقلت من لندن إلى ديفون كي أقيم عند عمتي ، قررت أن أغير اسمي . ومنذ ذلك الوقت اتخذت لنفسي سنكلير وهو اسم عائلة والدتي . ألا تعتقد أن هذا الاسم افضل من اسم سميث القديم البالي ؟"
" بالطبع ، بالطبع ." ولكن المحامي - كما لاحظت سارة - لم يكن صاغياً وقد صب اهتمامه على مجموعة الأوراق الموضوعة أمامه على طاولة المكتب ." تبعاً للمعلومات التي تلقيتها من مكتب المحاماة في نيوزلندا . وذكروا فيها أنهم أمضوا سنة تقريباً وهم يحاولون العثور عليك ، حتى تتبعوا أثرك أخيراً إلى حيث تقيمين مع عمتك في ديفون ... كانت صعوبة العثور عليك هي بسبب تغيير اسمك!"
" اسمي أنا؟" أجابها المحامي بلهجة جافة :" خاصة عندما يتعلق الأمر بميراث كبير . أنا مُكلف بأن أبلغك ."
وأضاف بصوت جدي ورزين :" تبعاً لوصية المرحوم ستيفن جورافيش."
" ستيفن ؟" اتسعت عينا سارة من هول الصدمة ، وقالت بصوت متهدج :" لست تعني أنه ... لا أصدق ذلك ...؟"
رق صوت المحامي قليلاً عندما رأى الألم المفاجئ الذي اعتلى وجهها :" لقد مات فجأة ."
" لاأستطيع أن أصدق ذلك ." همست سارة وكأنها تهذي ، من هول الصدمة :" لقد كان شاباً وقوياً ، لا أستطيع أن أصدق أنه مات !"
" لقد أصيب بسكتة قلبية مفاجئة ." قال المحامي بلطف :" صدقيني إذا قلت لك إنها تحدث لرجال لم يناهزوا الثلاثين من عمرهم - مثلما كان ستيفن - أكثر بكثير مما نظن."
وبرغم كلام المحامي الملطف ، بقيت سارة مذهولة من سماع خبر موت ستيفن ، فيما عاد المحامي إلى التكلم بحزم :" هل كنت تعرفين ستيفن جورافيتش جيداً؟"
" نعم ... لا ...القصة ومافيها ..." قالت سارة وهي تلعق شفتيها الجافتين :" لقد عرفته لمدة أسابيع فقط ، كان يقوم بزيارة إلى لندن ." أضافت سارة وقد بدا عليها أنها تعاني صعوبة في التركيز :" يا إلهي ، لقد مضى وقت طويل على ذلك ، لقد كنت في الحادية عشرة من عمري ، وكانت أختي كاتي مخطوبة إليه ، ولكن ..." تحشرج صوتها وتوقفت عن الكلام .
أبعد المحامي مقعده عن طاولة المكتب ، ووضع رجلاً فوق رجل . " أخبريني القصة كلها ،تكلمي عنهما ."
" ليس هناك الكثير ." قالت سارة وهي تحاول أن تستجمع أفمكارها ." أختي كاتي وستيفن التقيا مصادفة ، كما يحدث في كثير من الأحيان . ستيفن كان يقوم في ذلك الحين برحلة سياحية حول أوروبا ، أتياً من نيوزلندا . وقرر البقاء في لندن لعدة أسابيع قبل العودة إلى بلاده . ودخل ذات يوم مخزن الأثريات الذي تعمل فيه شقيقتي والتقى بها ، تبادلا أطراف الحديث وطلب منها أن تكون دليله السياحي خلال فترة إقامته في المدينة . " قالت سارة بصوت خالٍ من التعابير وكأنها تتكلم وهي نائمة .
" انصب اهتمام ستيفن طوال فترة تجواله في أوروبا ، على زيارة كروم العنب ، فقد كانيملك في بلاده - نيوزلندا - حيث المناخ شبيه بمناخ البحر الأبيض المتوسط . وقد ورث هذا الكرم عن جده الذي جلب من ساحل دالمتيان الشتلات الأصلية عندما قرر الاستقرار في نيوزلندا . كان ستيفن يسعى من وراء زيارته للكروم في أوروبا أن يشتري أصنافاً جديدة من الكرمة ذات جودة ممتازة يزرعها في كرمه . وقد استفاد كثيراً من الزيارات التي قام بها إلى الكروم الأوروبية بالإضافة إلى أنه اقتبس أحدث الوسائل التي طبقها فيما بعد في كرمه ."
" يبدو هذا سخيفاً الآن ." استطردت سارة يصوت كأنه صادر عن الأموات :" ستيفن وكاتي وقعا في الحب من أول نظرة . لقد أحبا بعضهما البعض حباً شديداً ، ولكن ستيفن كان مضطراً للعودة إلى نيوزلندا في خلال ثلاثة اسابيع كي يشرف على زراعة الشتلات التي ابتاعها ،في الوقت الملائم من الموسم ،وقد وعد كاتي بالعودة إلى لندن بعد ثلاثة أشهر . وهو الوقت الذي كان يحتاجه في تشييد بيت جديد عوضاً عن الكوخ القديم الذي كان شغله . لقد أراد كل شيء مكتملاً في صن فالي حين يصطحب عروسه إلى الكرم ، ولكن ..." خفت صوت سارة إلى درجة أن المحامي اضطر معها للانحناء نحوها كي يسمع ما تقول " ... الرياح تجري بما لاتشتهي السفن ." وعاد بها شريط الذكريات إلى لحظة الوداع الأخير بين ستيفن وكاتي في مطار هيثرو ، حين اغرقت شقيقتها الوقورة في البكاء الشديد ن والتصقت بالرجل الضخم الذي كانت تحبه.
" لن أدعك تسافر."
" لن أغيب طويلاً ، ياحبيبتي ن ثلاثة أشهر فقط وأعود ، إنها مدة قصيرة." همس ستيفن في اذن كاتي :" وبعد ذلك نكون معاً ثانية ، ومدى العمر . ونبدأ حياة جديدة ."
تمردت الطفلة سارة على القدر الذي اخذ شقيقتها وقالت في نفسها ، انه لاعدالة في السماء ، في الأيام السوداء التي تلت مقتل كاتي ، كانت على وشك الزواج من ستيفن .
قطع المحامي الصمت الذي خيم بينهما بعد أن غرقت سترة في ذكرياتها، وسأل :" ما الذي حدث؟"
ط لقد كتلت كاتي في حادث سيارة ، بينما كانت في طريقها غلى المطار . كانت ستغادر لندن في ذلك اليوم . مسافرة إلى نيوزلندا ." ابتلعت سارة ريقها بصعوبة ." اصطدمت السيارة التي كانت تقلها وأمي بسيارة أخرى انحرف بها سائقها السكران عن الطريق . كلتاهما قتل على الفور ، كاتي وأمي."
" قتلت أمك أيضاً." صدم المحامي وهو يسمع تفاصيل الكارثة التي ألمت بسارة ولأول مرة في حياته المهنية لم يجد كلمات عزاء مناسبة يقدمها لها . وقطع عليها ، بنبرته الهادئة شريط الذكريات المؤلمة :" إذاً أنت لم تنسي هذا الرجل؟"
" أنسى ستيفن؟" قالت وقد عادت إلى نبرتها الجامدة ، دفعة واحدة ، كل الانفعالات العاطفية :" لا أحد يمكنه نسيان رجل مثله ! ببساطة أقول ، لا أحد يستطيع . ستيفن كان رجلاً من طراز فريد . رجلاً ذا وجه ويدين رقيقتين ، لوحتهما الشمس بسمرة شديدة بسبب عمله الدائم تحت أشعة الشمس ، وقد أخبرنا أنه يشرف على العرائش على مدار السنة . كان ملتحياً ، صوته عميق ، ويهتم بكل ما حوله . كم تمنيت أن أعثر على شخص مثله عندما أكبر ، يحبني مثلما كان يحب شقيقتي !" ظهرت ابتسامة قصيرة على وجهها ." أعتقد أنه كان مثالي الأعلى."
" هل كنت تراسلين ستيفن قبل موته ؟" سألها المحامي بعد أن سعل سعلة خفيفة.
" نعم لفترة قصيرة فقط ، وقد اقتصرت الرسائل التي كنت أبعثها إليه ن وكنت أخبره فيها عن علاماتي المدرسية ، وهواياتي ، والألعاب الرياضية التي أمارسها ... الخ . لم يكن بإمكان رجل مثله الاهتمام فعلياً بفتاة صغيرة مثلي. بعد ذلك ، في السنوات الأخيرة ، كنت أرسل إليه بطاقات التهنئة بعيد الميلاد ، ولكنه لم يرسل قط واحدة لي فخيل إليّ حينها ، أنه قد نسي أمري."
" لقد فهمت ." قال المحامي وهو يتأمل القلم الذي بيده :" لقد عرفت أن أباك ليس على قيد الحياة ، هل هذا صحيح ؟"
هزت سارة برأسها:" لقد هجرنا عندما كنت طفلة صغيرة ، وأنا لا أتذكر حتى صورة شكله."
" وعليه ..." تابع المحامي :" ... تكون عمتك هي قريبتك الوحيدة الباقية على قيد الحياة !"
" أوه ، نعم ." تغيرت ملامح وجه سارة وبان عليها السرور ." إنها رائعة ، وهي بالنسبة لي كل العالم ."
" ومن أجل ذلك ، انتقلت، بعد الحادثة ، للإقامة معها ." قال المحامي بطف.
" نعم ، هذا صحيح." أجابت سارة فيما كانت تحاول أن تدفع عنها الذكريات السوداء التي مازالت تؤلمها . ورفعت رأسها قليلاً وكأن الروح ردت إليها :" أنا مدينة لها بالكثير !"
" لاشك في ذلك ."ظهر على المحامي بوضوح أنه فقد الاهتمام بتاريخ عائلتها غير المثير . وقالت سارة في نفسها ، لايمكن إلقاء اللوم عليه لأن فتاة مثلها ، في العشرين من العمر ، عذراء ، لا تعيش حباً عاصفاً برغم كثرة عدد الرجال الذين دعوها للخروج وكثرة العلاقات الفاترة والقصيرة التي لاتترك أثراً في الذاكرة . هي فتاة مضجرة ومملة .
شمخت سارة بانفها وقالت :" إن قصة حياتي ليست مثيرة ، أليس كذلك؟"
" ستكون مثيرة في المستقبل ." لاحظت سارة . شيئاً من الغموض في صوته :" ثقي بي ، يا آنسة سميث ، ستكون حياتك في المستقبل مثيرة !"
" سارة ، يمكنك أن تناديني باسمي الصغير ."
" لايبدو يا سارة ، أنك استوعبت ما ألمحت إليه ، تبعاً للوصية التي كتبها ستيفن . أنت ترثين مبلغاً كبيراً من المال ، معظمه مستثمر الآن في البنوك والأسهم المالية وأنا أقدر أن هذا المبلغ يساوي ... " ذكر المحامي رقماً جعل سارة تفغر فاها على اتساعه ." بالإضافة إلى ..." وعادت سارة إلى تركيز انتباهها على ما يقول :" ... إلى الكروم في نيوزلندا وأعتقد أن قيمتها مرتفعة جداً ، وتقع في مقاطعة تدعى ... تدعى ..." توقف عن الحديث وهو يحاول قراءة اسم المقاطعة المكتوب على الوثيقة التي بين يديه .
" وايماري." أكملت سارة الجملة عنه ." إنه اسم من لغة الماوري ويعني الفال الحسن ، لقد أخبرني ستيفن عن هذه الأشياء وأراني صوراً فوتوغرافية عن الكرم ، الذي يقع في الوادي . وعن التلال المحيطة به والمغطاة بغابات كثيفة من الأشجار والنباتات المحلية . وقد قال لي إن الكثير من الطائرات الصغيرة التي سقطت هناك ، لم يستطع أحد العثور على بقاياها بسبب كثافة الأشجار ، وإنها ..."
" نعم ، نعم ." قاطعها المحامي وقد نفذ صبره :" من الواضح أنها منطقة نائية في نيوزلندا ، وهي مليئة بالغابات التي تفصل بين المناطق السكنية والمزارع."
" هل قلت أن ستيفن قد أورثني كرمه المحبب إليه ؟"
حدقت سارة في المحامي وهي غير مصدقة أذنيها ." أنا لا أفهم لماذا فعل ذلك؟"
" دعيني أشرح لك الوضع ، يبدو أن ستيفن جورافيش كان قد كتب وصيته عندما كان في لندن منذ سنوات بعيدة ، وفيها يحول الإرث إلى شقيقتك التي صار يعتبرها زوجة المستقبل . وحسب شروط الوصية ، في حال وفاة شقيقتك ينتقل الإرث إلى أقرب أقربائها ... في هذه الحالة تكونين أنت الوريثة ."
استغرقت سارة في التفكير فيما قاله ، واستنتجت :" إذاً ستيفن لم يتزوج بعد وفاة كاتي ؟ هل كان عنده أولاد أو أقارب ؟" لم يعطها المحامي جواباً مباشراً . فقد اعتاد ، من خلال خبرته السابقة ، ان يتخذ موقفاً متشائماً في مثل هذه الحالات . ولكن قد تكون الفتاة محظوظة . تمتم

بصوتٍ مرتفع :" على مايظهر ، ليس في الأفق مايشير إلى وجود أقارب أو أولاد ، لقد قمنا ببعض التحريات في نيوزلندا ، وحسب المعلومات التي وردت إلينا ، فإن ستيفن كان الولد الوحيد لأبويه وبقي عازباً."
غير المحامي موضوع الحديث بسلاسة :" لن تحصلي على المبالغ النقدية التي ستؤول إليك حسب الوصية قبل مضي فترة من الزمن ، وفي الوقت الحالي أستطيع أن أعطيك سلفة مقدماً ، بضمانة الأملاك ."
" هل ستفعل ذلك لاحقاً!" امتلأ وجهها بالحياة ." إن هذا رائع بالفعل."
تابع المحامي مناقشة بنود الوصية معها ، وجعلها توقع على بعض الأوراق القانونية ، كانت سارة خلالها تحاول أن تؤكد لنفسها أن ما يحدث هنا هو حقيقة وليس خيالاً .
" أخبريني ." اخترق صوته الجهوري مسار أفكارها الحائرة ." كم من المال أنت تحتاجين في الوقت الحاضر كي تتدبري أمورك ؟ هل بضعة آلاف من الجنيهات تكفي ؟"
" بضعة آلاف ؟ هل قال ذلك بالفعل ؟" أجابت سارة بسرعة :" يا إلهي ، إن كل ما أحتاجه هو ثمن تذكرة الذهاب إلى نيوزلندا ومبلغ بسيط كي أغطي مصاريفي هناك."
رمقها المحامي بنظرة حادة متسائلاً :" هل تعنين أنك تريدين الذهاب إلى حيث الكروم؟"
" بالطبع سأذهب !" نظرت إليه سارة وهي متعجبة من سؤاله ." لن أستطيع الانتظار طويلاً كي أرى الأملاك بنفسي ، وأريد البقاء هناك ثلاثة أشهر تقريباً ، كي أطلع على مسار العمل في الكرم وأحصل على كل ما أريد معرفته."
استقام المحامي ، بحركة فجائية ، على مقعده وقال من دون أن يحاول اخفاء معالم الانزعاج التي باتت على وجهه :" اسمحي لي باقتراح ... من الأفضل ، في حالات كهذه ، التريث بالأمور ، ولكن إذا كنت تصرين على الذهاب لرؤية الأملاك ..."
" نعم ، نعم ، أريد الذهاب ..." قالت سارة وعيناها تلمعان حماساً.
عض المحامي على شفتيه استياءً وقد عرف أنه لن يستطيع ثنيها عما عزمت عليه :" سأرتب اجراءات سفرك وأطلب من مكتبنا في أوكلاند أن يرسلوا شخصاً يستقبلك في المطار . الكروم ، كما تعرفين ، تقع في منطقة نائية وعليك تدبير أمورك في الوصول إلى هناك من أوكولاند ."
لم يبدُ على سارة أن كلام المحامي أحبط همتها :" أنا تفحصت خريطة نيوزلندا وأعرف أيت تقع الكروم!"
" هذا لايعني شيئاً ." قال المحامي مناوراً :" فعلى الأرجح لأن تجدي مكاناً تنامين فيه عندما تصلين إلى هناك."
" بالطبع سأجد مكاناً للمبيت ." قالت سارة بثقة :" لقد أقام ستيفن سنين عديدة في ذلك المكان ، ومن المرجح ، أن تكون هناك مدبرة منزل ... أو أحد آخر . لابد من وجود مدير للإشراف على العمل في هذا الوقت . على كل حال ..." عادت النظرة الراقصة في عينيها ." أنا على استعداد لتحمل هذه المجازفة ."
" على الأقل ..." أضاف المحامي بإلحاح :" دعيني أخبر المشرفين على الكرم بموعد وصولك ورقم الرحلة ، و..."
" لماذا تريد مني أن أفعل ذلك ." لاحظ المحامي أن سارة تصر ولم يعد هناك من مجال لتغير رأيها :ط إذا أخبرتهم ستضيع علي فرصة مفاجأتهم وستكون مفاجأة كبيرة لهم !"
إني أراهن على ذلك . قال المحامي في نفسه .
اختفت الضحكة فجاة عن وجهها وتلاشى الحماس في عينيها ." هل ستخبرهم عن قدومي غلى نيوزلندا ؟" لاحظ المحامي تغير النبرة في صوتها ." لن تفعل هذا ، أليس كذلك ظ أرجوك ألا تفعل ." قالت سارة متوسلة .
تردد المحامي في الجواب واستغلت سارة الفرصة لتقول :" ألا تستطيع ترك الأمور على ماهي عليه الآن لفترة اطول ظ أعني ن لابد أن هناك من يعتني بالكرم طول هذا الوقت الذي مضى على وفاة ستيفن!"
" في الواقع ، هناك شخص يقوم بهذا العمل ." أخبرها المحامي :" وهذا الشخص أمضى وقتاً طويلاً في العمل مع ستيفن."
" إذاً ، سأطلب منك خدمة ، دعه الآن يتابع عمله كالمعتاد ."
شعرت سارة بعدم ارتياح المحامي لهذا الاقتراح.
فاستطردت محاولة اقناعه :" هل تستطيع ان تخبر المحامين في نيوزلندا ، بأنك استطعت العثور على مكاني ، وسوف تتصل بهم فيما بعد؟ ولكن أرجوك ، لا تخبرهم بأني قادمة غلى نيوزلندا."
" إذا كان هذا ما تريدين ." تمتم المحامي بتردد.
" نعم، هذا ما أريده ، وشكراً لك!"
ابتسامتها الدافئة وتعابير السرور في عينها كانت خير تعويض له على خسارة المناقشة معها.
" نصيحة أخيرة لك ." ألح المحامي برغم تأكده من عدم انصياعها لنصائحه . فقد كانت مصممة بشكل نهائي على أن تفعل ماتريده . من كان يظن ان هذه الفتاة الشابة عنيدة غلى هذا الحد!
حاول المحامي في رجاء أخير ان يعيدها إلى واقع الأمور ، وفي هذه المرة ، طرح الموضوع من زاوية أخرى :" خذي ، على الأقل ، عمتك معك ، باستطاعتك تحمل المصاريف الإضافية ."
لمعت عيناها بنظرة تنم عن عدم تصديق ما تسمع ." آخذ عمتي في رحلة تقطع فيها نصف المسافة حول الكرة الأرضية ، أنت لاتعرفها حق المعرفة ." قالت سارة وقد اختفت البسمة من على محياها ، واعترف المحامي في نفسه ضرورة ما اقترحه عليها :" بصراحة ، عمتي لن ترضى أبداً بالقيام برحلة كهذه ، فهي تصاب بالدوخة عندما تنتقل داخل المدينة من طرف إلى آخر ، على أي حال ، سأطلب منها أن تسافر معي ، ولكني أعرف ما سيكون جوابها على ذلك."
لا فائدة من محاولة اقناعها بأي شيء . واستسلم المحامي لما لا يمكن تفاديه.
انتهت المعاملات القانونية بعد قليل ، وتسلمت سارة الشيك من المحامي ووضعته في حقيبة يدوية .
ترك المحامي مقعده ورافقها حتى باب المكتب ، ثم قال :" إذا احتجت إلى أي مشورة فأنا دائماً بالخدمة."
" أوه ، سأحتاج إلى الكثير من ذلك ، ولكن ليس بشأن سفري غلى نيوزلندا !"
اقفل الباب وراءها فيما كانت أصداء ضحكتها تملأ المكان.
ودعت سارة عمتها على رصيف محطة القطارات المحلية . فيما كانت الريح الباردة تلوح شالها حول كتفيها وتدفع بالدم إلى وجنتي المرأة المسنة ويجعلهما بلون زهري داكن.
" ساكتب لك رسالة كل أسبوع ." وعدت سارة عمتها :" وأرسل لك الصور التي التقطها عن الكروم."
امتلأت عينا العمة أديت بالدموع ولكنها بقيت على ابتسامتها ." كل ما أتمناه هو أن لا تقعي في حب نيوزلندي متعجرف وضخم الجثة ، ممن يطلقون عليهم الكيويز."
" لا تقلقي ، لن أفعل ذلك ، وسأعود قبل أن تبدئي بافتقادي . اعتبري أن سفري هو لقضاء العطلة فقط ، إلى جانب ..."
وأغرق هدير محركات القطار ما تبقى من كلام سارة.
" وداعاً ، وداعاً ، انتبهي لنفسك ." تعانقت المرأتان ثم افترقتا ، وقفزت سارة إلى القطار ، وأخذت مكانها قرب النافذة . لوحت بيدها مودعة عمتها حتى اختفت عن ناظريها .
وصلت سارة مبكرة إلى مطار غاتوك . وانتظرت طويلاً قبل الصعود إلى الطائرة وبعد انتهاء اجراءات السفر الرسمية . واخيراً ، ها هي الآن في مقعدها على متن طائرة الخطوط الجوية النيوزلندية بشعاراتها الوطنية المميزة

هدرت محركات الطائرة ، وربطت سارة حزام الأمان حول خصرها ، وانتلأت بالحماس وهي تودع سماء انكلترا الملبدة بالغيوم لتستقبل سماء جنوبي الباسيفيكي المشمسة!
" يبدو عليك السرور الشديد والارتياح !" رن صوت رجالي ممتع في أذن سارة ، واستدارت لتواجه صاحب الصوت ، الجالس على المقعد قربها . وقد لاحظت في سرعة أنه في الأربعين من عمره وملامح وجهه تدل على الحنكة.
" أوه ، أنا مسرورة جداً." ابتسمت سارة له فهي في هذا اليوم تشعر أنها تستطيع ان تبتسم في وجه أي كان.
أزاح الرجل خصلة من الشعر تدلت فوق جبينه وقال بلطف :" مرحباً ، أمامنا رحلة طويلة ، والأفضل أن نقضيها في التعرف على بعضنا ، اسمي إيوان ، ما اسمك ؟"
" سارة ."
" إن العودة إلى أرض نيوزلندا الطيبة ، شيء رائع ، أليس كذلك ؟" قال الرجل كلامه بسرعة .
" إنها متعة ." لمعت عينا سارة ." ولكن نيوزلندا ليست بلدي ." وضحكت في سرها ." على الآقل ، ليس بعد!"
حدق إيوان في عينيها الصافيتين والمليئتين بالحماس وقال :" ما هو هذا الشيء الخاص الذي يجذبك غلى بلاد الكيوي ويؤثر بك على هذه الصورة ؟ لا شك أن سفرتك هذه ليست رحلة سياحية عادية . إذا سمحت لي بالقول ، فإن رأيي هو أنك على وشك القيام برحلة العمر المليئة بالمغامرات ن وقد نفد صبرك وانت تنتظرين البدء بها . وواضح ان عينيك تلمعان كوميض البرق ، ولن أدعي وأقول في سري إن سبب ذلك هو وجودي معك."
" أنا أعرف ذلك ، ولا أستطيع منع نفسي ." تمتمت سارة ، بصوت خافت ونظت إليه بمودة :" لايمكنك أن تخمن ما يحدث معي ، فأنا نفسي غير مصدقة حتى الآن أن ذلك صحيح . إن الخبار التي تلقيتها كانت مثل السحر ! وأشعر أني مازلت في حلم ." تعثرت سارة بالكلام تحت تأثير نظراته الحادة :" كل ما في الأمر ، إنه إرث ، لقد ورثت مبلغاً كبيراً من المال وبيتاً و ... الشيء الذي أثارني أكثر من غيره ... كروم عنب واقعة في نيوزلندا . وقد حصلت على كل هذا من رجل ما كدت أعرفه ن لقد أوصى لي بكل ما يملك."
رمقها إيوان متفحصاً." لاشك أن هناك بقية لهذه القصة ."
" نعم ، إنها أمور خاصة ." اعترت عيني سارة غشاوة.
" لابأس ، لاحاجة لاخباري بذلك ، إذاً ، أنت في طريقك لاستلام ميراثك؟"
" أوه ، نعم ." ارتفعت معنوياتها بسرعة ." أنا ذاهبة لأقضي فصل الصيف في الكرم ، سأعمل هناك وأتعلم كل شيء ، أعني كيفية زراعة الشتلات ، القطاف ، رش الأدوية ، تعبئة الشراب ... إلى أخر السلسلة."
" أنا أعرف كل شيء عن صناعة الشراب ." علق إيوان على كلامها ." هذا جزء من عملي." ولاحظت سارة ابتسامة جانبية متهكمة على وجهه ." قد تريدين معلومات كثيرة عن هذا الموضوع او ذاك ، ولكنها تخرج من رأسي بمجرد أن تنتفي الحاجة إليها ، إلا ما يتعلق بصناعة الشراب ، فهذا هو الموضوع الذي يمتعني في مهنتي."
" لقد عرفت ." انطلقت الكلمات من فمها بنبرة تنم عن الانتصار :" أنت مؤلف أو كاتب صحافي أو شيء من هذا القبيل ، أليس كذلك؟"
أومأ إيوان رأسه بالإيجاب :" نعم أنا أعمل في الصحافة ومن مميزات هذه المهنة هو تنقلي المستمر في البلاد . العنب المنتج في نيوزلندا أصبحمادة صحافية في العالم كله . ومن أجل ذلك أجري المقابلات الصحافية مع معظم منتجي العنب في نيوزلندا ، وأنا متأكد أننا سنتقابل ثانية لاحقاً."
تبين لسارة من خلال الحديث مع إيوان ، إنه محدث لبق ومثير ، وقصص تجاربه السابقة وهو يغطي الأخبار في ماطق الحروب والكوارث تشد الانتباه وقد لجمتها عن الكلام وأمتعتها طوال فترة السفر الطويلة .
استيقظت سارة بعد نوم قصير على منظر الفق الذهبي اللون ، وعرفت أن رحلتها أوشكت على الانتهاء . ولم يمض وقت طويل قبل أن تشعر أن الطائرة بدأت بالهبوط ، ومالت في مقعدها إلى الأمام ، تنظر من النافذة وترى أضواء المدرج الخضراء.
وقفت سارة منتصبة ، عندما جثمت الطائرة على أرض المطار ، وتناولت حقيبتها من الرف العلوي فوق مقعدها .
وانضمت إلى صفوف المسافرين الذين ملأوا الممشى بين المقاعد ويسيرون باتجاه باب الخروج من الطائرة.
لمس إيوان كتفها ، واستدارت كي تواجهه ، قال لها مبتسماً :" حظاً سعيداً مع العنب ! سنلتقي قريباً."
" مع السلامة ." أجابته مبتسمة :" سنلتقي قريباً..." ليس إلا تعبيراً كلامياً وعلى الأرجح أنهما لن يلتقيا ثانية ، حتى ولو كانا في بلد لايتجاوز عدد سكانه الثلاثة ملايين وعدد رؤوس الغنم ثلاثين مليوناً . بعد دقائق نسيت سارة تماماً إيوان.
كانت الدنيا لا تسع فرحتها وهي تخرج من الطائرة إلى مبنى المطار حيث ألقت الشمس بأشعتها إلى الداخل .
هنأت سارة نفسها على حسن تدبيرها ، لأنها قررت أن تسافر وهي تحمل حقيبة واحدة فقط ، وأن تشتري ما تحتاجه من ملابس تناسب فصل الصيف في نيوزلندا.
أنهت اجراءات الجمرك بسرعة لأنها لا تحمل غير حقيبة يدها وحقيبة السفر الصغيرة ، وكانت من أول المسافرين الذين غادروا قاعة الوصول إلى الخارج.
غسلت سارة يديها ووجهها في غرفة الحمام الواسعة ذات الجدران المغطاة بالمرايا الطويلة وأحواض البورسلين اللماعة . ثم أخرجت من حقيبتها قميصاً قطنياً خفيفاً ونسروال جينز واستبدلت بهما البدلة الصوفية التي ارتدتها قبل مغادرة انكلترا . وبشعور من الراحة نزعت عن قدميها جوربي النايلون وانتعلت حذاءً صيفياً.
وضعت على وجهها قليلاً من الكريم المرطب ، وقليلاً من الكحل على أهدابها . هذا كل الماكياج الذي ستحتاجه في هذا الصباح الجاف حيث الحرارة ستزداد ارتفاعاً مع تقدم ساعات النهار . وبعد تمشيط شعرها ، ارتاحت لمنظرها في المرآة ، وشعرت أنها على استعداد لمواجهة أي شيء ، لاشك في ذلك ، فقد رأت في المرآة فتاة شابة على استعداد لمد يدها بالمساعدة لمن يحتاجها في الحياة الجديدة التي تنتظرها بدلاً من أن ترى نفسها المالكة الجديدة لكروم صن فالي التي وصلت لتوها من انكلترا.

روايات احلام / صيف القطاف حيث تعيش القصص. اكتشف الآن