جهدت سارة ، في صباح اليوم التالي ، كي تتمالك نفسها . يجب أن تهتم بعدة أمور ، وأن تقوم بعملها في الأيام الباقية ، ولكن كيف سيمضي عليها هذان الأسبوعان وهي على ماهي عليه من حزن وبؤس ، بسبب اضطرارها لترك فيك الذي تهيم به . يجب أولاً ، أن تقابل كيت ، فقد كانت تشعر أن فيك لم يخبرها بحقيقة وضعها ، ولإسباب خاصة به ، احتفظ بالسر لنفسه ولم يخبر أحداً آخر .
وجدت كيت في المطبخ منشغله بتحضير الكاتو ." صباح الخير ، يا كيت." أخذت نفساً عميقاً وتدفقت الكلمات بسرعة ، منها :" جئت لأخبرك أني سأغادر الكرم بعد أسبوعين ..." توقفت سارة عن الكلام وقد لاحظت أن كيت ترمقها بنظرة حادة بعد أن رأت جفنيها المتورمين.
" تغادرين ؟" سألتها كيت وقد أصابها الذهول لسماعها الخبر ، وحاولت سارة أن ترد عليها من دون انفعال.
" أجل ، سأغادر ، أنت تعلمين أنا أعمل بصورة مؤقتة وقد أمضيت فترة هنا ، ولكن يجب أن أغادر ، كي أهتم بأمر مستعجل هناك ..."
لم يبدُ على كيت أنها أصغت إلى سارة ، وقالت بصوت رقيق لم تسمعه سارة من قبل :" هل فيك يعرف بهذا ."
" هل ترتاب كيت بالحقيقة ؟" تساءلت سارة وقالت في صوت مرتفع وبهدوء :" نعم ، إنه يعرف."
" ماهذا الذي تقولينه ، يا سارة ؟" قال بول باستياء بعد أن اندفع إلى داخل المطبخ ، ثم استطرد بصوت يشبه العويل :" لا يمكنك مغادرة صن فالي ! لايمكنك ، وقد أعطيتني وعداً ، بأن تعلميني العزف على الغيتار !"
أجابته سارة على غير وعي :" أنا آسفة ، ويجب أن أعود إلى انكلترا في أقرب وقت ." أحست بالعطف عليه وهي تشاهد تعابير الخيبة على وجهه. " عندي فكرة ! سأعطيك دروساً مكثفة ، درساً كل ليلة . أيوافقك ذلك ؟ وهكذا تمسك طرف الخيط وتتعلم المبادئ الأساسية للعزف ، ماعليك بعد ذلك سوى أن تتمرن حتى تحظى بمعلم جيد ." ولكنها كانت تقول في نفسها ، لماذا لا أساعده في تعلم العزف ؟ وهكذا يكون عندي مايشغلني في الأمسيات الباقية ، ويخفف من اللوعة والندم ... نفضت عنها هذه الأفكار وعادت تصغي إلى نبرته الطفولية .
" حسناً ، إذا كان ذلك السبب الوحيد ." تمتم بول.
جلست سارة إلى طاولة المكتب وحدقت في الآلة الكاتبة التي أمامها ، فيما الأفكار المؤلمة تتصارع في رأسها . كيف تستطيع تحمل هذا العذاب ، أن تكون بالقرب منه ، وتشاهده كل يوم ، وتسمع صوته ، وتحبه . أمضت معظم وقت الصباح وهي تحاول أن تحصن وتهيء نفسها كي يكون باستطاعتها تحمل ألم لقياه عندما تفرض ظروف العمل ذلك .
مرت الأيام ولاحظت سارة أن فيك يمضي معظم وقته خارج الكرم ، هل هي تتخيل ذلك ؟ هل هو يتجنب مقابلتها ، عمداً ؟ ولكن سارة فكرت أن ذلك مجرد تمنيات منها ، فالشعور الوحيد الذي يكنه لها هو الاحتقار ، لاألم يقل لها بوضوح إن الشيء الوحيد الذي يريده منها هو أن تختفي من حياته إلى الأبد ؟
تسارع الوقت بصورة مخيفة ولم يبق عندا إلا يومان فقط ، في صن فالي ! وقد بدأت بحزم أمتعتها ووضعت قمصانها الصيفية وسراويلها القصيرة في حقيبة السفر .
لقد بقيت ملابسها على حالها ولم تستطع أن تضيف شيئاً عليها ... ماعدا الفستان الأسود عندما ذهبت مع فيك إلى المدينة ... ولم تحقق رغبتها في شراء ملابس صيفية من نيوزيلندا . لأنها لم تلاحظ في البداية ، سعادتها في البقاء مع فيك وعدم رغبتها في مغادرة صن فالي للتبضع ، حتى ولو ليوم واحد . أحست بالاختناق ، لأن هذا الشعور لايزال على حاله . طرحت حقيبة السفر جانباً ودخلت الحمام كي تغسل شعرها أو تعمل أي شيء يشغلها عن التفكير والشوق إليه . وجففت شعرها بعد دقائق .
" لا حاجة لأن تشتغلي في اليومين الأخرين ." قال لها فيك بنبرة جافة :
" وسوف أقلك إلى المطار ، في الصباح الباكر ."
أجابته وهي تشعر بالاعياء والبؤس :" شكراً لك ."
" سوف أتصل بالمطار وأتأكد من أن الرحلة ستحصل في موعدها ." أضاف فيك :" الرحلات تتأخر دائما ً عن مواعيدها ."
" أجل ، بالطبع ." وتمنت في قرارة نفسها أن تتأخر طائرتها عن الاقلاع ... هل تماتع يا فيك ، حقاً ، في أن أبقى هنا إلى الأبد ؟ تخيلت سارة في لحظة مجنونة أنها قالت له هذه الكلمات . ومن الواضح أنه لايهتم بمشاعرها الآن.
أرادت سارة في النهاية أن تودع بيل وباتي ، فيما بدأت أوراق العرائش تكتسب اللون الذهبي ويغرب صيفها . بيل وباتي عادا إلى مزرعتهما بعد زيارة قصيرة لأقربائهما.
رأت سارة ، عندما وصلت المزرعة ، باب منزلهما مفتوحاً على مصراعيه ، ودخلت أشعة الشمس إلى الصالون المفروش ، ورأت باتي تقف على منصة الدار وتلوح بيدها محيية ثم تقدمت لمقابلتها.
" مرحباً ." طبعت سارة قبلة على خد باتي وقالت وهي تحاول أن تبتسم ابتسامة مخلصة من دون أن تنتبه للدوائر السوداء التي تكونت حول عينيها : " إنه لممتع أن أراك ثانية ، لقد ظننت أنك لن تعودي أبداً إلى المزرعة!"
" تفضلي بالدخول ." تقدمتها باتي عبر المنصة ." عندي الكثير لأخبرك به ."
إرتمت سارة على كرسي مصنوع من القصب وسألت :" هل تشعرين بخير ؟ وهل الجنين يحسن التصرف ؟"
" أوه ، نعم ، أنا على أفضل مايرام ، ولكنه يركلني كثيراً في هذه الأيام !"
رفعت سارة حاجبيها المثقلين بتعجب وقالت :" هو ."
" أجل ، إن بيل متأكد أن المولود سيكون ذكراً ، وإذا حدث ذلك ، فسنطلق عليه اسم فيك ونحن متفقان على ذلك !"
" وإذا كان المولود بنتاً ؟"
" لن تصدقي ، سنطلق عليها اسم سارة !"
شعرت سارة بنبضة متسارعة في قلبها ، لو فقط ... وقالت بصوت مرتفع :" لاشك أن خيالكما ضيق ولولا ذلك لوجدتما أسماء أخرى غبر هذين الاسمين ."
" لماذا لانطلق اسمي ألطف شخصبن نعرفهما ، على مولودنا . أنت وفيك شخصان مميزان ."
قالت سارة وهي تحاول تغيير الموضوع بسرعة :" سأقوم اليوم بتحضير القهوة ، أنت بحاجة إلى الراحة ."
" سأوافقك على ذلك ، ولا خيار لي في هذا الحر ."
أجابتها باتي واسترخت على كرسيها ، واستمتعت بالهواء الذي تحركه مروحة يد ، أمام وجهها .
وجدت سارة في المطبخ المطلي باللونين الأبيض والأزرق ، خزانة من الطراز الهولندي مليئة بالفناجين وعلب القهوة السريعة التحضير . حضرت القهوة وعادت إلى الصالون وضعت الفناجين على الطاولة التي بينهما .
مالت سارة على باتي وقالت باهتمام مصطنع :" أخبريني كيف قضيت عطلتك ، أين ذهبت ، وماذا فعلت ، وهل ذهبت لحضور أي عروض مسرحية ؟"
" هل تمتعنا !" سردت باتي تفاصيل عن عطلتها :" لقد تمتعنا بكل لحظة فيها ..." توقفت فجأة ، واتهمت سارة وهي تضحك :" أنت لا تصغين إلى ما أقول ."
" أنت لا تصغين ، وتعرفين ذلك ، وقد لاحظت أن أمراً يشغل بالك !"
ترددت سارة ، ولفت بعصبية خصلة من شعرها حول إصبعها :" هذا سبب مجيئي لعندك ، سأغادر صن فالي بعد غد إلى انكلترا ..." حاولت تفادي نظرة باتي ." ... وهذا أبكر مما كنت أتوقع ." حاولت إخفاء مشاعرها الحقيقة ولكنها عرفت من خلال نظرة العطف التي بانت في عيني باتي ، أن ذلك لن يجدي .
" سوف نشتاق إليك ." قالت باتي .
" وأنا كذلك ." أجابتها سارة .
" إذاً ، أنت لن تعودي إلى هنا ؟"
هزت سارة برأسها ، سوف تؤلمها الذكريات إذا عادت في المستقبل ، خاصة أن عمر سعادتها مع فيك كان أقصر من عمر الورود . وتمتمت بصوت مرتفع :" سوف يأخذني فيك إلى المطار ، صباح الخميس القادم ."
" أنا أعرف ."
" ماذا ؟" اتسعت عينا سارة من الدهشة . " وكيف عرفت ذلك ؟"
" لقد وجدنا فيك بانتظارنا ، عندما وصلنا ليلة أمس كان في حالة نفسية رهيبة وأراد أن يسري عن نفسه بأي وسيلة . لقد أخبرنا عما حدث بينكما ، هو يشعر بالبؤس والندم بسبب الكلام الذي قاله لك ، إنه يعبد التراب الذي تمشين عليه ولايستطيع مواجهة ألم الفراق عنك إلى الأبد ."
انتعش أمل مجنون في عيني سارة للحظة ثم خبا دفعة واحدة ، وقالت بهدوء :" إنه يحتقرني ... هل أخبرك من أنا في الحقيقة ؟"
" أجل ، لقد أخبرنا كل شيء ..."
" لم أتعمد أن أمثل دور تلميذة تبحث عن عمل موسمي ، حتى وصلت إلى المنزل وحاولت كيت طردي . وقد أوضح لي فيك أنه لن يغفر لي أبداً خداعي له ."
" ولكنه لايفكر هكذا الآن ." أخبرتها باتي.
احتاجت سارة إلى لحظة كي تدرك مغزى هذه الكلمات الخرافية ، وكاد تنفسها أن ينقطع :" هل تعنين أنه الآن يصدق قصتي ، وأن ما فعله كان فورياً وظننت حينذاك أنها مزحة ؟ أنت لا تعنين ..."
أومأت باتي برأسها :" إنه يصدق قصتك الآن ، وهو آسف الآن ، لأنه فقد أعصابه عندما عرف حقيقة شخصيتك . وقد ندم لأنه شك بنواياك نحوه ، بعد أن عرف أي نوع من الفتيات أنت ."
تنهدت سارة :" أتمنى أن أصدق ذلك ، ولكنه تغير منذ أن عرف الحقيقة عني ، إنه لاينظر مباشرة إليّ ، وإذا استطاع سبيلاً لذلك ، وإذا فعل أرى التغيير في عينيه اللتين أصبحتا باردتين وقاسيتين كأنه يكرهني ."
" إنه مجنون بك ... أي شخص يمكنه أن يلاحظ ذلك ."
" ولكنه لايبدو لي كذلك ..."
" هذا لأنه لايريدك أن تعرفي حقيقة مشاعره ، وهذا لايعني أنه توقف عن حبه لك ."
" ولكن ... ولكن ..." وشعرت سارة أن السعادة التي كادت أن تضيع منها ، أصبحت في متناول يدها ." ومع ذلك ... لماذا لايخبرني بنفسه عن حقيقة مشاعره ؟ هل أتوقع أن يفعل ذلك قريباً ؟" تمتمت مترددة .
" لن يخبرك أبداً ." أجابتها باتي بصوت ممتلئ بالعطف :" إفهمي ذلك من الآن . السبب الأول ، أنه مقتنع تمام الاقتناع بأنك لن تصدقي أبداً أنه غير رأيه في صحة قصتك ، ثانياً ، إن كبرياءه لاتسمح في الضروف الحالية بأن يطلب منك البقاء هنا ."
" هل تعنين ." قالت سارة ببطء :" أن السبب هو أني ورثت الكرم والممتلكات ؟ ولكن ذلك لن يغير شيئاً ..."
" هذا الفرق هو كل الفرق في العالم ، ليس بالنسبة لك ... ربما ... ولكن بالنسبة له ، هذا الوضع يغير كل شيء . هل تتخيلين صعوبة وضعه الآن . أنت تملكين الكرم وهو المدير فقط ... هذا إذا شئت استمراره في العمل؟ وهو على ثقة من أنه لن يتمكن من أن يطلب منك البقاء ، حتى ولو صدقت أنه غير رأيه في صحة قصتك ..."
" كنا سنتزوج ." قالت سارة في يأس :" ونعيش هنا ، ونعمل معاً هنا ، لقد كاد أن يطير من الفرح ، ثم تحطم كل شيء ."
"ى كان سيعرف الحقيقة في وقت ما ." قالت باتي :" ولم نستطع ... أنا وبيل ، اقناعه بالتقدم لخطبتك ، وسبب ذلك ، كي لاتظنين أنه يفعل ذلك لأنه يطمع بميراثك . لقد تجادلنا معه طويلاً وتوسلنا إليه أن يفكر ثانية ، على غير جدوى . إنه صائد ثروات وضيع ، يتحين الفرص الكبيرة ، وسوف يغتنم هذه الفرصة الحقيرة ويسترجع بها صن فالي . هذا ما قاله فيك : إنك ستظنين به ولاتوجد أي وسيلة كي نزيح هذه الفكرة من رأسه ."
بكت سارة من فرط يأسها وقالت :" ولكنني لن أشعر ، أبداً كهذا تجاه فيك ، إنني مستعدة لأن أضحي بالعالم كله في سبيل أن نعود لبعضنا البعض ... وبدون أسرار هذه المرة ." نظرت إلى باتي بوجه ممتلئ بالمشاعر والتعابير . " أنا أحبه ... كثيراً ، ويجب أن أفعل شيئاً ، لابد من وجود وسيلة لإقناعه بنظرتي لهذا الأمر . لو يتكلم معي فقط ."
بدا من عيني باتي أنها استغرقت في تفكير عميق ، ثم قالت :" يالكبرياءه اللعينة ! عندما يصمم على شيء ..."
" أنا أعرف ، أنا أعرف ، ولم يبق لي إلا يوم واحد ."
" وليلة واحدة ، أيضاً ." أكملت باتي بنيرة صوت غريبة ومليئة بالعطف :" أوه ، ستجدين وسيلة ما ." تغيرت لهجة صوتها وأضافت :" لقد كدت أنسى ، لقد دعونا بعض الأصدقاء ، كي يأتوا ، ليلة الغد ، لوداعك ، لاشيء رسمياً ، رفيقاتك في العمل وأزواجهن . هل بإمكانك الحضور ؟"
" كنت أتمنى أن لايكون بإمكاني ذلك ." قالت سارة متنهدة. ولكنها كانت مستغرقة في التفكير بما قالته باتي لها . لقد تغير كل شيء ، إنها تعرف الآن ، أن فيك مازال يحبها ...
قطعت باتي عليها التفكير :" اجلبي الغيتار معك ، لاتنسي ! قد يطلب أحد المدعوين أن تعزفي لحناً."
نظرت سارة إليها بوجه خالٍ من التعابير ." أجل سأفعل ، إذا كان هذا ما تريدين ." أجابت بصوت خال من أي نبرة ، وهي شبه واعية لطلب صديقتها .
أمضت سارة ليلتها ماقبل الأخيرة في صن فالي وهي مثقلة بالحزن . فكرت بجميع الوسائل التي يمكن بها أن تسترجع فيك ، وهي تتقلب على فراشها ، ولكنها أقنعت نفسها أخيراً بعدم جدوى التفكير بهذا الأمر ، وأنها حتماً ستغادر صن فالي صباح بعد غد . لو أنها استطاعت فقط التحدث مع فيك ، لربما تمكنت من إقناعه بما تفكر به بالنسبة لعلاقتهما . ولكنه ، غاب عن البيت طوال النهار ، عن سابق تصور وتصميم ، وقد قالت لها كيت ، إنه لن يعود حتى وقت الحفلة المسائية التي ستقام في بيت بيل وباتي ، لوداعها.
استطاعت سارة بجهد أن تتمالك أعصابها ، عندما حان الوقت كي تهيء نفسها لحضور حفلة الوداع . كان لايزال فستانها الأسود معلقاً في الخزانة ، ولكنها لاتريد أن ترتديه ثانية ، لأن ذلك سيثير فيها الحنين ، إلى اليوم الذي ابتاعته فيه ، برفقة فيك .
ارتدت ، بدلاً عن الفستان الأسود ، قميصاً من قماش الموسلين الأبيض ، ووضعت على خصرها النحيل تنورة القطن المطبوع بالأزهار . وكان هذا هو كل ما استطاعت العثور عليه بين ثيابها القليلة .
لم تستطع تفسير الدافع الذي اعتراها ، بأن تبحث في أعلى الخزانة ، المكان الوحيد الذي أهملت استطلاعه عندما حزمت أمتعتها ، ربما كي تتأكد من عدم نسيان أي شيء . لم تجد شيئاً ، عندما تفحصت بيدها هذا الجزء من الخزانة ، في بادئ الأمر ، ولكن ما هذا ؟ لقد لمست يدها كومة من القماش وقطعة مطوية من الورق . وجدت سارة نفسها ، بعد لحظة ، تحدق في لفة من القماش الرفيع . ها ... إنه الزي اليوغسلافي الفلوكلوري ، والذي تجادلت بشأنه ، مع فيك كثيراً . ووجدت أن الورقة المطوية ، هي النوتة الموسيقية لأغنيته الفوكلورية . تذكرت غضبها ، وكيف وضعت الزي والنوتة في زاوية الخزانة ، بعيداً عن النظر ، وهي تتمنى أن لايقع نظرها عليهما ثانية .
ترقرقت الدموع في عينيها ... كم يبدو سخيفاً ، الآن ، عدم تنازلهما لبعضهما البعض ، حول هذا الأمر .
حاولت سارة أن تتذكر شيئاً هاماً ، قالته لفيك في أوج غضبها ، ماذا قالت له تحديداً ؟ وتذكرت تحديداً ، عندما قالت له :" إن اليوم الذي سأرتدي فيه زيك الفوكلوري وأعزف وأغني ماتريد ، سيكون اليوم الذي أرضى فيه أن أبقى معك ... إلى الأبد ."
رجفت سارة عندما أدركت أنها عثرت على الوسيلة التي ستصلح بينها وبين فيك ، أيمكن ذلك ؟ على أي حال ، إنها جديرة بالمحاولة ، ولن تزيد الأمور سوءاً . تفحصت الزي بسرعة ووجدت أن قماشه الناعم غير مجعد . وأمسكت ، في الوقت نفسه ، بورقة النوتة الموسيقية والكلمات . تسارعت نبضات قلبها . هل سيتذكر لو لو ارتديت هذا الزي ، في ليلتي الأخيرة هنا ، وأنشدت أغنيته ؟ وماذا لو فعل ... وهي تعرف تمام المعرفة أنه لن يطلب منها أن تبقى هنا معه ، أبداً ، ويبقى أن تطلب هي ذلك منه ، بكل بساطة . هذه فرصتها الوحيدة كي تنفذ خطتها . إنها بالفعل مجازفة كبيرة ، ولكن ... ولكن ، في سبيل سعادتها ... وصممت ، دفعة واحدة ، على استغلال هذه الفرصة إلى أبعد الحدود .
ألقت بنفسها على السرير ، والتقطت الغيتار ، ودوزنت الأوتار ، وأخذت تتمرن على على اللحن الفوكلوري ، ووجدت غرابة ، في أن اللحن والكلمات ، قد طبعت في ذاكرتها . ومع إيقاع اللحن ، بدأت الثقة بنفسها تعود إليها ، وارتفعت معنوياتها وأمالها
عندما نظرت إلى نفسها في المرآة رأت أن ملامح وجهها قد تبدلت ، اختفى الشحوب والحزن والهزيمة ليحل مكانها التصميم والنضارة . يجب أن تنجح ، وكي تبرهن على ثقتها بالنجاح ، فكت حقيبة سفرها ، واقتلعت ملصق شركة الطيران عنها . أرجوك يا إلهي ، صلت سارة بصمت ، دع هذه المعجزة تحدث ، ولاتدعني أصعد على متن الطائرة المسافرة إلى لندن ،غداً.
كانت سارة لاتزال منشرحة ، عندما دخلت في المساء ، المنزل الكبير ووجدت كيت تنتظرها على المنصة الأمامية ... ترتدي فستاناً من الحرير المزهر ، والمتناسق لونه مع لون عينيها ، بعد أن مشطت شعرها في جدائل رفيعة .
اصطنعت سارة الابتسام :" كما أرى ، أنت مستعدة للذهاب ."
" أوه ، أجل ، لاأريد أن أتأخر عن هذه السهرة . هل تعرفين يا سارة ..." كان صوت كيت دافئاً وحنوناً . " ... سوف أفتقدك عندما ترحلين ." أحست سارة بالسرور ، عندما أدركت ، من خلال حديث كيت وأطرائها لها ، أن المرأة أصبحت تحبها ، ولكن ذلك ، بالطبع ، لأن فيك لم يخبرها بحقيقة الأمر . وأحست أن سرورها تلاشى .
" لقد سبقنا فيك إلى هناك ." قالت كيت لسارة عندما نزلتا الدرج :" لا أدري ما الذي حدث له مؤخراً ، في العادة ، هو إنسان هادئ ، ولكنه ، في الأيام الأخيرة الماضية ، أصبح متوتراً وسيئ المزاج ، لاشك أن ذلك يتعلق بمتاعب العمل . لقد تبدل مزاجه منذ زيارة مستوردي الشراب للكرم قبل أسبوعين ."
" أعيدي ما قلت ." قال بول الذي لحق بهما :" إني مسرور لتخلص من فيك ." أخبر سارة :" لقد أصبح في اليومين الآخرين ، لا يطاق ، ويجد علّة في كل شيء أفعله ..." ثم أضاف :" سأحمل الغيتار عنك ."
" لقد كنت أعتقد ." قالت سارة ممازحة :" إنك تجد فيك رئيساً رائعاً ! الأفضل !"
" هذا ." قال بول بحزن :" قبل أن يصل مستوردو الشراب ومعهم هذا الصحافي . ومنذ ذلك الحين لا يرضيه شيء . افعل هذا ، افعل ذلك ... إنه يتكلم بصوت مثل هدير الرعد ، وأنا أحاول أن أتجنبه قدر الإمكان ، أنت سعيدة الحظ بالابتعاد عنه !"
" سعيدة الحظ ." رددت سارة الكلمة بصمت .
مشوا على الطريق الترابية حتى وصلوا إلى البوابة المفتوحة . " كنا في ما مضى نتسلق السور للذهاب إلى مزرعة بيل ، ليس الآن ، لأنه زرع
الأشجار العالية ضد الريح ." تمتمت كيت . " يا إلهي ، إن المكان مزدحم بالمدعوين ." أضافت سارة بعد أن شاهدت صفاً طويلاً من السيارات المتوقفة أمام منزل بيل وباتي .
انسابت الموسيقى الحالمة من المنزل ، فيما بيل وباتي وقفا على المنصة يستقبلان المدعوين .
" أعطني الغيتار ." أخذته باتي من بول ووضعته بعيداً في غرفة النوم ، ثم دخلوا الصالون المفروش بسجاد من صوف الغنم . وشاهدت سارة عدداً من الراقصين يتمايلون مع لحن شعبي في منتصف الغرفة . هل سيطلب فيك منها الرقص معه ؟ وقفز قلبها عندما شاهدته يقف ضمن زمرة من الرجال في آخر الغرفة ، وأحست بنظرها ينجذب كالمغناطيس إليه . لايزال كما عرفته متناسق القوام ، مفتول العضلات ، وذا ابتسامة متهكمة . لكنه لايبتسم الآن . وأفاقت إلى نفسها عندما لاحظت أن المدعوين بدأوا يتحلقون حولها ويتمنون لها رحلة سعيدة .
" ما رأيك في موعد للعشاء ، الأسبوع القادم ، في لندن ." صاح بها ، رجل ، بصوت منشرح ، وعندما استدارت ، رأت جسماً نحيلاً يتقدم منها.
" لاري !" قالت بدهشة عندما اقترب منها :" لم أرك منذ زمن طويل ."
" من سبب هذه الغلطة ؟ لقد رفضتِ رؤيتي في كل مرة طلبت ذلك ..."
" أعرف ، أعرف ذلك . ولم أتوقع مجيئك إلى هذه السهرة ، أنت تقيم بعيداً ، وأعرف أن طائرة الميكرولايت ... لاتطير في الليل ." قالت بنبرة طفولية :" لاشيء على هذه الأرض كان قد منعني من القدوم ! وكنت مسروراً عندما علمت بأنك قررت فجأة ، العودة إلى انكلترا، أنا متأكد ، من أني حطمت الرقم القياسي في السرعة ، في طريقي إلى هنا ، ولن يذهب ذلك سدى !" أمسك هذا الشاب السعيد بيدها وقادها إلى حلبة الرقص.
" عندي أخبار سوف تسرك ." قال لها لاري بحماس :" أنا ذاهب إلى لندن ، الأسبوع القادم ! كنت أنتظر هذه الرحلة ، منذ زمن طويل ، ويبدو ..." شد ذراعه حول وسطها ." ... أن الرحلة جاءت في وقت مناسب."
لم تكن سارة تصغي ولم تنتبه إلاّ لتحديق فيك المستمر بها . كان يقف بين مجموعة من المدعوين ، يحمل كأس شراب بيده ، وفمه منطبق بشدة .
شعرت سارة مع مرور الوقت ، إنها تتحرك في حلم ، ولاري ملتصق إلى جانبها معظم الوقت ، وبسبب انشراحه لم يلاحظ أن سارة لاتصغي إلى ما يقوله عن عمله وحياته وعن رغبته في الاجتماع بها في لندن .
ازداد توتر أعصابها وانفعالها مع مرور الوقت ، واقتراب الصباح ، وفيما تفكر كيف ستعلن عن رغبتها في الغناء لهم ، علا صوت رجل :" نريد أغنية منك ، يا سارة ، لحناً نتذكرك به !"
لقد لاحت الفرصة المناسبة ، كي تضع خطتها موضع التنفيذ ربما ، سيكون القدر إلى جانبها ، الليلة . نظرت إلى الجمع مبتسمة وأجابت :
" سأغني بكل سرور ." تسارعت نبضات قلبها ولم تجرؤ على النظر في اتجاه فيك . " سأجلب الغيتار ."
سمعت الصيحات والتصفيق وهي تستدير لتذهب وتجلب الغيتار . بدلت بسرعة ثيابها ، وارتدت الزي الفوكلوري الأوروبي الذي كان مخبأً داخل الغيتار . وقد أبهجها منظرها عندما نظرت في المرآة ، وكأن الزي الفوكلوري صمم لأجلها . لقد حانت اللحظة التي فيها سيتقرر ما إذا كانت ستعيش بقية حياتها مع الرجل الذي تحبه . يجب أن تنجح .
خيم الصمت على الغرفة عندما دخلتها وأخذت مكاناً في وسطها ، ابتسمت للجميع ، ودوزنت أوتار الغيتار ، هل هذا ما يشعر به المقامرون عندما يراهنون بكل شيء ؟ لا تنظري إلى فيك ، ليس بعد !
أتى صوتها واضحاً وقوياً ، عندما بدأت غناء أنشودة حفاري الصمغ ، وتلاشت جميع الأصوات الأخرى .
نظرت مباشرة إلى فيك ، عندما انتهت من غناء الأنشودة ، وسط موجة من التصفيق . وبدا عليه التحول عما كان في بداية السهرة ، لقد لاحظت بداية لمعان في عينيه . والنظرة التي حدق فيها ... وفي لحظة اتجه نحوها.
وصل إليها لاري ، بجزء من ثانية ، ولم تأبه للخيبة التي ظهرت على وجه لاري ، فهي لم تعد ترى شيئاً في العالم غير فيك ، فيما هو يقودها إلى حلبة الرقص على أنغام لحن فالس.
غمرها بين ذراعيه ، تحركا معاً ، فيما كانت تجتاحها موجة من السعادة الطاغية . اختفت الوجوه وتلاشت الأصوات ولم تعد تشعر إلا بوجود فيك.
تمايلا بصمت حول حلبة الرقص ثم قادها فيك إلى الحديقة التي زينتها أضواء النجوم . وفي ظل شجرة أخذها فيك بين ذراعيه وشدها إليه ، ثم لثمها وقال بصوت منفعل :" أحبك ."
" أنا أحبك أيضاً ، يا فيك ." واجتاحتها السعادة عندما تجاوبت مع عناقه وعندما استطاعت كلاماً قالت له :" لقد تذكرت ؟"
" يا حبيبتي ..." وضع وجهها بين يديه " ... لا يمكن أن أنسى شيئاً عنك ، لقد أحببتك منذ اللحظة الأولى لقدومك ..."
قالت ممازحة :" حتى عندما عرفت من أنا في الحقيقة ؟"
" أحببتك كل الوقت ." تهدج صوته فجأة :" لقد مرت علي الأيام الماضية مثل الجحيم . واعتقدت أني لن أراك ثانية أبداً."
" ظننت أنك لا تريدني ."
" لا أريدك ، يا حبيبتي ؟" عانقها بشوق وكأنه يؤكد شعوره نحوها ." لن أتركك أبداً ." همس في أذنها :" سنكون فريقاً رائعاً ، أنا وأنت ، ستبقين إلى جانبي دائماً ، وربما ، مستقبلاً ، لن نبقى أنا وأنت بمفردنا ، هل تعرفين ما أعني ..."
رفعت سارة نظرها إليه وأجابت :" أجل ، كي نصل للكمال في صناعتنا ، يجب أن نصنع كل شيء بالحب ."
عندما رجعا أخيراً إلى الحفل ، كانت عينا سارة تلمعان وبدا على وجهها السعادة .
رفع فيك يده في الهواء وقال :" يا أصحابي عندي مفاجأة سارة لكم . إن سارة لن تغادر صن فالي غداً ، ستبقى هنا معنا ..." توقف عن الكلام .
" ... لقد قررنا ، أنا وهي ، الزواج قريباً ، وجميعكم مدعوون إلى حفل الزفاف ..."
غرق صوته بين الصيحات والهتافات التي ترددت في الغرفة ، ورأت سارة وجه لاري المذهول . ولكنه منحها ابتسامة مخلصة . واختفى عن ناظريها .
ونسيت كل شيء فيما عدا هتاف :" مبروك !"
تمت
أنت تقرأ
روايات احلام / صيف القطاف
Romanceالملخص : كانت سارة متلهفة كي تستلم ميراثها ... كروم مزدهرة في وسط منطقة زراعة العنب في نيوزلندا . ولكن الرجل الذي كان يشرف على الأملاك ، لم يكن على استعداد للترحيب بالمالكة الجديدة . ولهذا قررت سارة استعمال طريقة ملتوية ، والإدعاء بأنها تبحث عن عمل...