الفصل الثامن

5.6K 117 5
                                    

تقلبت سارة في فراشها ، تلك الليلة ، وجفاها النوم .
كانت أفكارها تتصارع وصورة فيك لا تفارق مخيلتها . إنها تحبه وتهيم به . وأي شيء صغير منه يعني لها الكثير . شعره الأسود المجعد ، وعيناه الداكنتان وابتسامته ، الابتسامة التي أسرت قلبها وجعلتها تنسى كل شيء أخرى في العالم .
وحتى انتحالها شخصية فتاة أخرى ، وقد بدا لها حينذاك أنه خداع لا ضرر منه ، احتل أهمية يائسة في حياتها.
لو توجد وسيلة ما ، تستطيع معها الاستمرار في البقاء هنا ، حتى ولو لم يعرف حقيقة مشاعرها نحوه . أن تعترف له بكل الحقيقة وتوضح له أنها كانت تحت تأثير اعتقاد خاطئ وتأمل في تفهمه . هل يوجد بعض الأمل مع فيك العصامي والفخور والتزامه العميق بتحسين الكرم الذي عمل له باخلاص وبنى له سمعة كبيرة في عالم الصناعة .لا ، إنه لن يغفر لها أبداً كذبتها وانتحالها شخصية أخرى . أسوأ ما في الأمر ، أن يعتبرها محتالة ، تسللت إلى الكرم تتحقق من مدى اخلاصه وأمانته.
ما الذي يجب أن تفعله ؟ الحل الأمثل ... هو أن تترك الكرم ، فوراً ، ولا تعود إليه أبداً . هذا الحل يوفر عليها الألم من رؤية الخيبة في عيني فيك . غمرتها موجة من البؤس ، لا ، إنها لاتستطيع أن تفعل ذلك .
باستطاعتها أن تطلب من المحامين في لندن أن يرفعوا من راتب فيك كي يستمر في العمل ويدير صن فالي لحسابها .
ولكن هذا الحل لن يخفف من ألم الفراق ، وشوقها لأن تكون معه . إنها تحبه ، حتى ولو لم يبادلها ... أبداً ... أبداً الحب .
أخلدت إلى النوم ، بعد حين ، واستيقظت في ساعة متأخرة من الليل على صوت خبطة قوية على السطح ، وصوت أغصان تتكسر ، لاشك أن الذي أحدث هذه الأصوات ، لصوص يحاولون الدخول إلى الكوخ .
بحثت سارة بأصابع مرتجفة عن مفتاح النور قرب طاولة السرير ولكن بدلاً من ذلك ، ارتطمت يدها بالمصباح ورمته أرضاً . سمعت خبطة أخرى ، من داخل المنزل ، فيما كانت تنزل عن السرير مرتبكة وشعرت بوجود كائن ما ، مر قربها في الظلام . لم تدري كيف بدأت بالصراخ الهستيري :" النجدة ! النجدة !." تملكها الرعب واستمرت بالصراخ وهرولت عبر غرفة الطعام ، ومن خلال الباب الخلفي إلى الخارج . ثم

ركضت فوق العشب الندي باتجاه المنزل الكبير المضاء ، ووجدت نفسها في أحضان رجل كان يسرع لملاقاتها .
" فيك ! أهذا أنت ؟" أهذا أنت ؟ تنفست الصعداء وأحست برجفة عنيفة تعتري جسمها مما جعلها تتعلق بشدة بذراعه.
" هدئي من روعك ." قال فيك وهو يحتضن جسمها المرتجف :" ما الذي حدث ؟"
" يوجد شخص ما في الكوخ !" تنهدت بعمق واستطردت :" لص ، لصوص ، إنهم يحطون كل شيء ! لقد ارتطم أحدهم بي في الظلام ." قالت وهي لا تزال ترتجف فيما جزء منها أخذ يشعر بالأمان بفعل التصاقها بذراع فيك .
" سأتحقق من هذا الأمر ." لم يبدُ عليه الاهتمام الزائد ، فكرت سارة بحيرة ، ألم يخبرها أن الشراب قد سُرق عدة مرات ، من متجر الزجاجات في الماضي ؟
" كلا ، لا تدخل الكوخ !" نادته :" إنهم مجانين ، إنهم يحطمون كل شيء ... لا شك أنك سمعت كل هذا الضجيج ومن المحتمل أن يكونوا مسلَحين."
" أنا أشك بذلك ." لاحظت بوادر ضحكة على وجهه.
" ما هو الشيء الذي يضحك ." همست متلعثمة .
" ستعرفين ذلك ، بعد لحظة ."
ابتلعت ريقها ، ونظرت إليه باتهام :" أنت لا تصدقني ، أليس كذلك ؟"
" بالطبع ، أنا أصدقك ! ارتاحي يا سارة ، لا داعي للخوف . تخرج قرود البوسوم من حين لآخر في الليل من الغابة وتتسلق سطوح المنازل ، وتعيث فساداً، وقد يسقط أحدها داخل المدخنة ويثير الرعب في نفس أي شخص يكون نائماً ، حينها ، في الكوخ . إذا حشر أحد هذه القرود في زاوية ، يفقد صوابه تماماً ، ويحطم كل شيء تطاله يداه في محاولة مجنونة للهروب . وعندئذ تنزل مخالبه الحادة إلى الساحة . إنها الحالة الوحيدة التي يصبح فيها مؤذياً ولكنها في العودة يخافون من الناس أكثر من خوف الناس منهم ."
" قرود البوسوم ." لم تشعر سارة ظن قط ، بمثل هذا الخجل .
صرخت مرتاعة وأقامت الدنيا وأقعدتها بسبب ...
" سوف أريك ." أبعدها فيك عنه ." تعالي !"
تنحت جانباً وهي تشعر بالحيرة ولا تزال تحس بأثر التصاقها بذراع فيك . وتعثرت برداء النوم الطويل والمشبك الذي التف حول قدمها الحافية . ووجدت سارة نفسها ، في لحظة ، وقد حملها فيك بين ذراعيه واتجه بها

إلى الكوخ عبر الممشى والمنصة الأمامية وخلال باب غرفة الطعام المفتوح ، وضعها بلطف على الأريكة ثم أدار مفتاح النور .
" جهزي نفسك للمفاجأة !"
انتشر النور في الغرفة ، وتنفست سارة بعمق ثم اتسعت حدقتا عينيها من جراء الصدمة التي أصابتها وهي تشاهد الخراب حولها ، الأواني الخزفية المتكسرة ، تناثرت قطعها على الأرض . ووعاء الزهور المقلوب على الطاولة فيما سال ماؤه على السجادة . ورأت الغبار الأسود المنبعث من مدخنة المدفأة يغطي كل زاوية في الغرفة.
" هؤلاء هم لصوصك ... أو أحدهم ." ضحك فيك وهو يشير إلى الحيوان الذي سقط من داخل المدفئة على الغبار المتراكم في المدفأة ثم انطلق صائحاً ، مرتطماً بهما ، إلى الخارج عبر الباب المفتوح .
" ابق حيث أنت ، وأنا سأقوم بعملية التنظيف ، ثقي بي ، لقد اعتدت على القيام بهذا العمل."
جلست سارة على الأريكة ووضعت قدميها تحت رداء النوم الطويل وتمتمت :" أشكرك ." وللمرة الأولى ، لم تجد الرغبة في معارضة أوامره. لقد انهار دفاعها بأكمله في مواجهة نظرة عينيه العميقة . بالإضافة إلى أنها وجدت متعة في مراقبته وهو ينظف الغرفة من الغبار ، ويكنّس قطع الزجاج المكسورة ، ويمسح الماء عن الطاولة . ولكنها بعد دقيقة ، تذكرت حقيقة الموقف بينها وبين فيك وأحست بطعنة في قلبها .
" لا تبتئسي ." لاحظت سارة أن نظرته العميقة قد وقعت على شفتيها .
" سيبدو كل شيء جديداً ، هذا الصباح ."
" أنا أعرف ذلك ."
حاولت سارة أن تبتسم ، ولكن فيك لاحظ الغشاوة التي انسدلت على تعابير وجهها ، وجلس إلى جانبها على الأريكة ." ما المشكلة ." وضع يده على ذقنها ورفعها قليلاً برقة ، فيما تلاقت نظراتهما ، وأضاف :" هل ارتكبت شيئاً بحقك ؟ إذا كان ذلك ..."
" لا ! لا ! " وانطلقت الكلمات من فمها بعفوية ، بفعل عواطفها المكبوتة :" ليس منك يا فيك ! ليس أبداً!"
ارتمت سارة ، في اللحظة التي تلت ، بين ذراعيه ، فيما فيك يردد :
" أحبك يا سارة ، لقد أحببتك منذ اللحظة الأولى التي وقع فيها نظري عليك ، وتمنيت هذه اللحظة من ذلك الحين ..." ما كادت سارة تسمع صوته الخشن يتلفظ بهذه الكلمات.
همست سارة :" أنا أحبك ، أيضاً ، يا فيك ." وتجاوبت مع عواطفه .



" سوف احبك دائماً."
" يجب أن نخطط للمستقبل يا حبيبتي يا حياتي ، وكبداية ..." توقف عن متابعة الكلام ثم استطرد :" ... يجب أن تلغي تذكرة العودة إلى انكلترا فوراً ، من الآن وصاعداً نحن زوجان ، سارة ، لقد خلقنا لبعضنا ."
مضى وقت طويل قبل أن تستطيع سارة أن تفلت من بين ذراعي فيك . هنالك أمور يجب أن تقال ، إنه يحبها ، حباً عميقاً بامكانه أن يتخطى جميع العقبات . ولأنه يحبها ، سيتبين له ، لاحقاً ، أنها لم تكن تريد خداعه وهي لم تعتقد أن ما فعلته له أهمية . وقد تصرفت بعفوية واعتبرتها ، حينذاك ، مزحة .
بدا فيك وكأنه على وشك الدخول على موجة أفكارها :" لقد انتهت إلى غير رجعة فترة المشاكسات وسوء الفهم بيننا . وسنكون معا؛على الدوام."
" أنا وأنت فقط ." رددت سارة كلماته الحالمة . ثم تجمدت، دفعة واحدة ، وشعرت بالبرد يسري في عمودها الفقري . تملصت منه وقالت بتردد :
" فيك ، هنالك أمر يجب أن تعرفه ، إنه مهم جداً ..." صلت سارة في نفسها ، أرجوك يا إلهي ، دعه يتفهم ، ولا تتركني أحطم كل ماهو جميل في حياتي الآن .
قبّل فيك رأس أنفها برقة وقال بصوت عاطفي متهدج :" ليس هناك من أمر مهم كفاية ، كي لا نستطيع تأجيل البحث فيه ."
" ولكنه بالفعل أمر لا يحتمل التأجيل ، لا يحتمل ..." تلاشى صوتها وهي تحاول العثور على الكلمات المناسبة ، أخيراً قالت :" إنه أمر حدث في انكلترا ."
" انسي هذا الأمر ، الآن ." شدها إليه وقال :" أنت ترتجفين ، ليس هنالك ما تخافينه ."
ولكن الأمر الذي تخافه ، موجود فعلاً ."أنت لا تفهم الوضع ." وتعلقت عفوياً ، بذراعه .
وضع فيك أصبعاً على فمها وأسكت كلماتها المتلعثمة.
" غداً ، سيكون لدينا الوقت الكافي كي نخطط لكل أمر ."
وشعرت سارة أن نبرة صوته العميقة تأججت بالعاطفة .
" أما الليلة ، فهي لنا يا حبيبتي ، ويجب أن نتمتع بها ."

استيقظت سارة في ساعة متأخرة في الصباح ، ممتلئة سعادة وفرحاً . إنها وفيك يحبان بعضهما العض وتلذذت نفسياً بهذا الواقع ، لأنّه أصبح بمستطاعها أن تخبره عن خدعتها الغبية ، وهي واثقة من أنه سيتفهم . إنها


تعرف أنه سيذهل عندما تخبره ، ولكنه ، بعد أن توضح له جميع الملابسات سيسر ويشكر القدر الذي حقق أمله في أن يحظى بامرأة تعمل إلى جانبه في صن فالي ، ترعاه وتحبه وتشاركه الأتراح والمسرات.
لم تتناول سارة طعام الافطار ، لقد أفقدتها السعادة الكبيرة التي تشعر بها كل شهية للطعام ، وكل ما تتمناه في هذه اللحظة ، أن تشاهد فيك وتتمتع بلمعان عينيه عندما ينظر إليها .
أخذت حماماً ساخناً ، وارتدت ملابسها الداخلية ووضعت فوقها قميصاً قطنياً بلون زهرة الليلك وبنطالاً أبيض اللون ، وانتعلت حذاء من القماش الأبيض.
هرعت سارة ، تحت أشعة الشمس البراقة ، إلى مخزن الشراب ، ولكنها لم تجد إلا بول هناك يحاول أن يضع ملصقاً على زجاجة من منتوج الموسم الجديد .
" صباح الخير ." حيت سارة بول وهي تشعر أن السعادة واللهفة تفوران في داخلها ، وتجعلان من الصعب عليها أن تتصرف على طبيعتها ." هل رأيت فيك هذا الصباح ؟" سألت بول ، وفكرت في نفسها ، حتى نبرة صوتها تفصح عن مشاعرها ، وهل بمستطاعها أن تخفي السعادة التي تعتريها بمجرد أن تذكر اسم فيك ؟
" لحظة من فضلك !"أجابها بول وهو منهمك في إنهاء ما كان بصدده ، ولم يبدُ عليه أنه لاحظ حالتها النفسية . ثم أضاف :" لقد ذكر شيئاً عن مكالمة هاتفية تلقاها من مستوردين أوروبيين . لقد وصلوا نيوزيلندا لتوهم ويريدون مقابلته ."
" أنا مسرورة لأنك أخبرتني ." ارتاحت على صندوق خشب فارغ وراقبته مبتسمة . بامكان سارة اليوم الابتسام لأي شخص تقابله . وبدا أنها لن تستطيع اليوم الاهتمام بأي عمل لأن أعصابها مشدودة بفعل السعادة المجنونة التي تشعر بها . تمالكت نفسها ، بعد لحظة ، وقالت :" سأتلهى بدوزنة أوتار الغيتار ."
" أنا أملك غيتاراً ، أيضاً ." قال لها بول متحمساً :" هل تعطيني بعض الدروس في العزف ، طالما أنا هنا ؟ سوف أدفع لك أجراً من راتبي ."
ضحكت سارة بفرح وقالت :" لا مانع عندي !" إنها تشعر اليوم بالرغبة في مدّ يد المساعدة لمن يطلبها . لم تعرف أن بامكانها الاحساس بمثل هذه السعادة ، أضافت :" بامكانك استعمال غيتاري ، أنا أعزف عليه أحياناً ولكنه ليس ملكي ، فعلاً ! ولا أريد أجراً على هذه الدروس ."


" يا الله ، شكراً جزيلاً ، يا سارة ." أحست سارة سارة بالدفء والإخلاص ينبعثان من نبرة صوته .
" لا عليك ، هل تريد أن أساعدك في وضع الملصقات ؟ أعرف طريقة سهلة لوضعها . انظر إلى ما أفعله !" وضعت الملصق على زجاجة الشراب بأصابع ثابتة ثم تبعها بول حسب ارشاداتها .
" يجب أن أذهب ." أخبرت بول عندما شاهدت من خلال النافذة المفتوحة فيك يشتغل في أسفل العرائش . تسارعت نبضات قلبها ، ولم يعد باستطاعتها الانتظار أكثر ... بعد أن قضت معه أجمل ليلة في حياتها ... كي تحدق في عينيه الدافئتين.
وقفت وهرعت إلى الخارج وركضت على المنحدر العشبي الذي يقود إلى العرائش ، وقبل أن تصل بقليل ، خرج فيك من تحت عريشة واتجه نحوها ، ورأت ، كما توقعت ، عينيه الداكنتين تضيئان بالدفء والحب . وضع ذراعه بخفة حول كتفيها وانحنى عليها وعانقها . " أنت لم تنسي الليلة الماضية ." خاطبها ممازحاً.
" الليلة الماضية ؟" اصطنعت سارة الدهشة والأسف ." هل تعني قرود البوسوم ؟"
" ليس تماماً ." رد على ممازحتها له وسرت الحياة ، دفعة واحدة ، على تعابير وجهه ." عندنا الكثير من الأمور التي يجب أن نخطط لها مستقبلياً، وسوف نعمل إلى جانب بعضنا البعض هنا في الكرم ، هذا ..." رمقها متحدياً." ... إذا لم تغيري رأيك في مجرى الأمور ، هنا ، هل تعرفين ما أعني ؟ إنه التقليد المتبع في صن فالي ، رجل وامرأة يعيشان على أملاكهما ويعملان جنباً إلى جنب ."
نظرت سارة إليه ، بكل الحب الذي يتدفق من عينيها وأجابت :" كلا ، لم أغير رأيي ."
" هذا كل ما أريد معرفته ." أخذها بين ذراعيه ولثمها .
عندما استطاعت سارة التفكير في وضوح قالت في نفسها ، لقد حانت اللحظة المناسبة كي أخبره الحقيقة .
" أحبك يا سارة ." أخذها فيك مرة ثانية بين ذراعيه وعندما أحست بلمسته وشعرت بسعادته المتدفقة ، خانتها الشجاعة ولم تستطع الكلام .
هذا فيك الذي لم تعرفه من قبل . ممتلئ سعادة وينظر إليها وكأنها كل وجوده . كل ماتمنته تحقق . إنها واثقة من قوة حبه لها ، ولكن لماذا تتردد في الافصاح عن حقيقتها ؟ وأتاها الجواب على غير انتظار ، لأنه رجل
من الصنف الذي لا يخدع من يحب ، فيما هي ... وتسارعت الأفكار السيئة إلى مخيلتها ، وهبطت معنوياتها إلى الحضيض.
خيل لسارة وهما يسيران المنحدر معاً ، أن كل ما حولها أصبح أجمل . الأشجار الباسقة ، الأزهار المتنوعة والمتلونة بالأبيض والبرتقالي والأرجواني . والسماء الزرقاء الصافية وأشعة الشمس والتلال . وأحست بشفافية روحها . لقد وقع فيك في حبها وتحقق حلمها .
ثم انسدلت ، مرة أخرى ، الغشاوة السوداء على واقعها ، وانهارت معنوياتها ... هل سيبقى على حبه لها ، بعد أن تخبره الحقيقة ؟
" لماذا تبدين بائسة ؟" رفع نظره إليها وحاولت الابتسام في وجهه ، ولم تفته الغشاوة التي كانت تغطي عينيها ، وظهر الاهتمام ، فجأة ، على وجهه :" أخبريني ، عمّا إذا كان البقاء هنا يقلقك ، بامكاننا أن ننتقل من هنا في الحال ، ونبدأ بزراعة كرم جديد في مكان آخر ، في أي مكان يعجبك ." توقفا قليلاً ونظرا إلى بعضهما البعض ولم تستطع سارة تفادي نظرته المتسائلة .
" هل ستفتقدين عمتك ، ببقائك هنا ؟" سألها فيك :" أم أن عمتك ستفتقدك ، اسمعي باستطاعتك السفر مرة كل سنة لرؤيتها ورؤية أصدقائك القدامى ، عندي فكرة !" رن صوته بالحماس :" بامكان عمتك أن تأتي إلى صن فالي وتقيم معنا . يوجد الكثير من الغرف الشاغرة في المنزل . هذا ، إذا شاءت المجيء . أخبريني عما يزعجك ، يا عزيزتي وأنا كفيل بإزاحة ثقله عنك !"
" أوه ، يا فيك ." تنفست سارة الصعداء ." هل ستفعل حقاً ؟" وقالت بتردد وبصوت مرتفع :" إن ما يزعجني هو ..."
" اسمعي ! بامكانك أن تثقي بي ." ألح عليها فيك :" مهما كان الأمر جربيني ، أنا ..." تلاشى صوته ، استدارت سارة إلى حيث حول نظره ورأت سيارة فخمة تتوقف أمام المخزن . صر فيك على أسنانه ، وقال :" يا للجحيم ، لقد كنت أتوقع وصولهم بعد الظهر وليس الآن . إنهم مستوردو الشراب الذين جاءوا من أوروبا ، يجب أن أذهب لملاقاتهم ، هيا ، تعالي معي يا سارة ؟"
ترددت سارة وقالت :" لكنك لا تحتاج إلي في لجنة الاستقبال ."
أجابها بهدوء :" سوف أحتاج إليك ، كل الوقت الذي بقي لي من حياتي ، أنت حياتي كلها ."


كيف تستطيع أن تخبره الحقيقة ...بعد الذي قاله؟ولكن هذا مايجب أن تفعله , فيما بعد , ولن يفرق الأمر شيئاً إذا تأخرت عن ذلك ساعة أو أكثر,هل من المحتمل أن تشكل ساعة فرقاً؟ سارا معاً وتوجها لملاقاة الزوار الذين
انتظروا أمام باب غرفة المكتب . وبعد وصولهما بلحظة, ترجل رجل آخر من السيارة , نحيل يرتدي قميصاً صيفية خضراء وبنطالاً أبيض.خيل لسارة أن وجه هذا الغريب مألوف , وحاولت أن تتذكره, أين رأت هذا الرجل القبيح الوجه, وهاتين العينين المرهقتين اللتين تعلوهما نظارات طبية؟
أين قابلته؟ وتذكرت , بعد دقائق, كاد أن يغمى عليها .إنه الصحافي النيوزيلندي الذي قابلته على الطائرة عندما قدمت إلى نيوزيلاندا . تشنجت عضلاتها وأصابها الهلع.هل أخبرت هذا الرجل عن ميراثها وسبب قدومها إلى نيوزيلاندا ؟ وقد كانت حينذاك تشعر أنها في القمر من فرط السعادتها. ومن المحتمل,أنها أخبرته القصة كلها, لو كان باستطاعتها أن تتذكر؟
ثم لاحظت أن فيك يقوم بالتعريف عنها للزائرين:"سارة, اقدم لك..."
"مرحباً سارة , هذه مصادفة سعيدة أن نلتقي ثانية."صافحها بحرارة ."هل تذكرينني؟ إيوان؟ لقد تقابلنا في الطائرة منذ عدة أسابيع. وقلت لك حينها إني سأبحث عنك كي أتحقق ماذا نتج عن روايتك التي أخبرتني بها وماذا نتج عن مشروعك الجديد."استدار نحو فيك ضاحكاً:"صدقني ,أنت لاتحظى في كل رحلة بمقابلة فتاة أسعدها الحظ بان ترث كرماً يقع في الطرف الآخر من العالم .ليس كرماً عادياً , فقط بل كرماً له سمعة دولية في صناعة الشراب الجيد."
تجمدت سارة ونظرت بصمت إلى فيك وعرفت أن تعابير الخوف والهلع التي تركتها الصدمة عليها أكدت لفيك صحة كلام إيوان. وكان من الواضح أن فيك تلقى صدمة عنيفة لأن تعابير وجهه تحجرت.
نقّل إيوان نظره الحائر بين فيك وسارة وضحك ضحكة صفراء وقال بصوت خافت :"لقد كنت أمزح فقط."
"لاعليك." هز فيك كتفيه وطوى الموضوع.
لاحظت سارة وهي تشعر بالدوران أن فيك استمر بتقدميها إلى زواره وأحست أن الصوت يأتيها من بعيد :"هذه سارة سميث." الطريقة التي كان ينطق بها اسمها الحقيقي كانت تقطع قلبها ."سارة عاملة موسمية عندنا واحدى مساعداتي.استطاعت , بطريقة ما , الابتسام والايماء برأسها للآخرين.ولكنها في الوقت نفسه, لاحقتها الأفكار السوداء, لقد قدمها كسارة سميث وليس سارة سنكلير, الاسم الذي عرفها به. احدى العاملات
الموسميات , من الواضح أن فيك يحاول اعادتها إلى حجمها الطبيعي, الفتاة التي كانت لاتعني له اكثر من ذلك.
خيل لها ,عندما تابع الحديث مع زواره ,ان فيك بدا على طبيعته,لكنها لاحظت بحزن ,ان عينيه فقدتا لمعانهما واصبحتا باردتين وقاسيتين. وتلاشت من صوته النبرة الممغوطة والساخرة.قاد فيك زواره إلى غرفة الاستقبال ولم ينظر إليها ثانية.
نظرت سارة إلى فيك وهو يبتعد عنها وسألت نفسها وما الذي كانت تتوقعه,بعد هذا الخداع؟ لقد انتهى كل شيء, الاحلام الوردية والمستقبل الزاهر , وما تحتاجه هو ان يحبها إلى درجة يستطيع معها أن يغفر لها غلطتها ,حب,أي حب؟ سيكون سعيداً إذا استطاع التخلص منها.
لاحظت سارة بعد حين أن إيوان لم يترك الغرفة مع الآخرين, وعندما تقدم نحوها,خيل لها ان خطوط التجاعيد على وجهه قد تعمقت.
"أنا آسف ياسارة." اعتذر منها بصوت خافت:"لقد سببت لك الحزن والاحراج!لم يكن من الواجب أن أصدق كذبة بيضاء قالتها لي فتاة تحاول تمضية وقت الطيران الطويل.ولكنك اقنعتني بروايتك مع انها قصة أغرب من الخيال,كنت على استعداد كي أقسم على صحتها...كان يجب أن أتبين الحقيقة من الخيال, ماذا أستطيع أن أقول؟"
تمتمت من تحت أنفاسها :"لم تكن هذه غلطتك؟"
"لافرق..." القى إيوان نظرة ,من خلال الباب المفترح, على فيك الذي كان يتجه مع زواره الى الأقبية.
"لا شيء يهم." قالت سارة بيأس :"لاشيء يهم بعد الآن."
وغمرتها موجة من الحزن والألم.
تهدج,فجأة، صوته وقال:"لاتقولي لي أن ذلك صحيح, أعني القصة التي أخبرتني بها في الطائرة؟ انها صحيحة ولم تخبري فيك بحقيقة غرضك, أليس كذلك؟ وقد كان هذا الرجل الذي يشرف على الكرم,لايعرف حيقيقة المالك!"
اجابت سارة بصوتٍ خلت نبراته من الانفعال:"ان قصتي حقيقة , وهو لايعرف من ..." تلعثم صوتها :"لم يكن يعرف حتى الآن ,لقد كان بنيتي أن أخبره الحقيقة اليوم." سمعت صوتها و كأنه يصدر عن فتاة أخرى :"لم أكن أظن الأمور قد تتطور على هذا الشكل,عندما وصلت إلى هنا..." انهارت أعصابها وهي تتذكر آمالها وطموحاتها عندما جاءت من انكلترا , وتتذكر سعادتها البالغة بتطور الأحداث المثيرة التي غيرت مجرى حياتها.

"استمري في الحديث." طلب منها إيوان , وهو يصغي إليها باهتمام , وتفكير عميق.
تنفست بعمق، لقد آن أوان الاعتراف, وعليها أن تعتاد ذلك .يجب عليها أن توضح الكثير من الأمور .أما فيك ...قفي عن التفكير بفيك! قالت في نفسها.
"عندما وصلت إلى هنا, وجدت نفسي في موقف لا أحسد عليه, لقد طردتني عمة فيك وهي تظن , صواباً, أنني سارة سميث."
أومأ إيوان برأسه متفهماً :"لقد رفضتك لأنك المالك الجديد للكرم ولانها تعتقد أن فيك أحق بذلك , هذا التصرف طبيعي."
استمرت سارة بسرد قصتها بصوت مرتجف:"اجل ,شيء من هذا القبيل, على أي حال, كانت كيت على وشك ان ترمي بي إلى الطريق,عندما تدخل فيك معتقداً اني فتاة جاءت رداً على اعلان نشرة في الصحف ويطلب فيه فتاة للعمل في الكرم ,عدة اسابيع."
"فهمت, وهكذا انتهزت الفرصة كي تبقي في صن فالي , ويتسنى لك الكشف على الممتلكات!"
أومأت براسها:" لقد بدا لي ذلك سهلاً , حينها, لانني استعملت ,لسنين طويلة اسماً غير اسمي الحقيقي عندما كنت أقيم في انكلترا, والجميع بمن فيهم أقربائي عرفوني باسمي المستعار, سارة سنكلير, وكل مافعلته ,اني انتزعت ملصق الخطوط الجوية النيوزيلندية الذي يحمل اسمي الحقيقي ،عن حقيبة السفر . كان يجب أن أستعمل اسمي الحقيقي على جواز السفر وتذكرة السفر .ولم أعتقد , حينها اني قد أسبب ضرراً لأحد." تلاشى صوت سارة تدريجياً.
"لاشك أن فيك يتألم جداً الآن , لقد لاحظت وجهه عندما فضحت سرك,كان الأجدر بي أن أضرب نفسي."
قالت سارة ببطء وبصوت يائس:"كان يجب أن أفصح له عن الحقيقة قبل الآن, وكنت أحاول أن أفعل ذلك اليوم, ولكن الأوان قد فات."
ظهرت, فجأة ,على تعابير وجه إيوان الدهشة والندم عندما لاحظ من خلال نبرة صوتها البائس وقرأ في تعابير وجهها الألم الذي تعاني منه.
" هل تحاولين أن تقولي لي، انك وفيك..."
أومأت براسها وقالت:" أجل ,نحن نحب بعضنا."
نظر إليها بصمت لعدة دقائق وبعينين مليئتين بالعطف , ثم قال:"إنه موقف صعب, هل بامكاني المساعدة , بأي شيء. أي امر على الاطلاق كي اصلح مابينك وبين فيك...."
هزت رأسها :" أنت لاتسطيع ,لا أحد يستطيع المساعدة."
حاولت سارة أن تعيد صوتها إلى طبيعته :" إن قصتي هي واحدة من قصص الحب الفاشلة ولايعني ذلك نهاية العالم."
نظر اليها متفحصاً :" لو صدقتك , لكنت كذّبت عيني وأنا أرى آثار الصدمة على وجهك."
"انها غلطتي...لقد بدت لي حينذاك فكرة جيدة!"
" وكان من سوء حظي ,أن أكون الشخص الذي فضح سرك."
"كيف كان لك أن تعرف , على أي حال,سأعود إلى انكلتراغداً، أو بعد غد."
قال إيوان بحسرة وتعابير الأس تعلو وجهه:"هل أنت متأكدة أن ذلك هو خير حل؟"
هزت رأسها:" لا تقلق من أجلي, سوف أتمالك نفسي واستمر في الحياة." ولكن الكلمات الشجاعة خرجت منها بصوت مرتجف :"على أي حال..." تنفست بعمق "..... من المفترض أن أذهب إلى غرفة الاستقبال,
وأعزف على الغيتارخلال تناولهم وجبة الغداء."
نظر إيوان إلى أصابعها المرتجفة :"هل تسطيعين القيام بمثل هذا العمل؟"
ابتسمت سارة ابتسامة صفراء ."يجب أن أذهب,هذا عملي." مشت في تمهل إلى الخزانة وفتحت بابها وأخرجت الغيتار من داخلها.
ذهبا معاً إلى غرفة الاستقبال, واتخذت سارة مكاناً في زاوية الغرفة , وابتسمت لأيوان الذي قال :" حظاً سعيداً."
لم تستطع سارة أن تنظر إلى فيك عندما دخل مع زواره الغرفة , واكتفت بالانحناء على الغيتار والتلاعب بأوتاره .تلاشت أصوات الرجال عندما تناهى إلى سمعهم أصوات عزفها, وبسبب براعتها بالعزف ومعرفتها التامة بالألحان , لم تجد صعوبة في الاستمرار بنجاح.
وجدت سارة نفسها , فيما بعد , تجلس على مقعد طاولتها في المكتب من دون أن تدري كيف وصلت .حاولت، وهي تشعر بالزوغان, أن تشغل نفسها بالحسابات ولكن الأرقام التي حدقت بها, لم تعنِ لها شيئاً .قالت سارة في نفسها, وهي تشعر بالحزن العميق والألم , لو أنها استطاعت أن تخبره الحقيقة بنفسها, وأوضحت له جميع الملابسات التي أدت إلى خدعتها, لربما كان صدقها وغفر لها, أما الآن...
مرت الساعات , على سارة ببطء, وأفاقت لتجد إيوان يتقدم نحوها ويقف إلى جانبها, ونظرت إليه بعينين مثقلتين.

"لقد انتهت مهمتي, والآخرون ينتظرونني في السيارة ,لقد أردت الاطمئنان عليك قبل أن أذهب."
حاولت الابتسام ولكنها لم تفلح:" سأكون بخير , حقاً."
"لايبدو عليك ذلك!" قال وهو ينظر إلى وجهها الشاحب ويلاحظ الألم الذي في عينيها:" أنا آسف على ما انتهت إليه الأمور, ولا أستطيع أن أضيف شيئاً ماعدا كلمة الوداع والتمني أن نلتقي ثانية."
هزت رأسها وترقرقت الدموع في عينيها . لن يكون هناك مرة ثانية, ولن ترى صن فالي ثانية, وكل ذلك بسبب غلطتها الغبية!
رأت سارة , بعد أن ترك إيوان الغرفة, من خلال النافذة فيك يستقبل قادمين جدداً, ورأت سياراتهم وشاحناتهم متوقفة أمام مخزن الشراب. تمالكت سارة نفسها وهرعت إلى المخزن وأصبحت على استعداد لخدمة الزائرين قبل دقائق من دخولهم مع فيك إلى المخزن.
التقت نظراتها بنظراته الباردة وهو يعرف عنها:"هذه سارة , ستقوم على خدمتكم إذا أردتم شراء الشراب.انها تعمل هنا."
"سأكون سعيدة بمساعدتكم." ابتسمت لهم ونقلت نظرها المتعب فيما بينهم.
وفي الوقت نفسه كانت تتسارع في أفكارها الاحتمالات السئية.لقد كان كلام فيك عنها قاطعاً كالسيف. وأحست مرة ثانية أنه يحاول بقوة أن يرجعها إلى حجمها الطبيعي في صن فالي.أي ليست شخصاً مميزاً , بل فتاة عادية تعمل في الكرم.فتاة خدعته وخانته... وهذا ما قرأته في عينيه.
أسرعت سارة, في نهاية هذا اليوم المشحون بالأحداث, باقفال المكتب والعودة إلى الكوخ ... ملجئها الأخير . ألقت بنفسها على أريكة غرفة الجلوس واستسلمت لحزنها, وتركت الحرية لدموعها بعد أن حبستها طويلاً.
رأت سارة فيما بعد , الظلال تنسحب على النوافذ المشرعة وسمعت قرعاً شديداً على الباب.هرعت , بعد أن مسحت دموعها, لتفتح الباب وهي تعرف تماماً من هو الشخص الذي يسمح لنفسها بهذا القرع العنيف على بابها. وجدت سارة نفسها وجهاً لوجه فيك, عندما فتحت الباب, وألقى بظله , من شمس الغروب عليها.وقد لاحظت الغضب الظاهر على وجهه برغم الضوء الخافت.
حاولت أن تجعل صوتها عادياً :" تفضل بالدخول."
تجاهل دعوتها ووقف ساكناً, واضعاً يداً داخل حزام بنطاله الجينز."أنت سارة سميث." وأحست أنه يصفعها بكلماته:"الفتاة التي ورثت الأملاك هنا؟ أوه ,لاتحاولي النكران , ان الشعور بالذنب بادٍ على وجهك بوضوح!"
"أجل , أنا سارة سميث, ولكن لاتخطئ الظن بي."
تلعثمت بالكلام بصورة مريعة:" لقد كنت , حقاً , على وشك أن أخبرك بالحقيقة هذا الصباح , لو لا ..."
"لو لا ..." قاطعها ساخراً :"... كنت جبانة..."
"دعني أوضح لك ."قالت يبأس.
" لماذا المزيد من الأكاذيب؟" قاطعها بحركة من يده:" لماذا لاتعترفين بأنك خططت لكل شيء قبل مجيئك إلى هنا؟ أنا أهنئك على براعتك!" رفعت عيناها وهي تسمع نبرة الاهانة في صوته:"وكنت على وشك النجاح بختطك لو لا ظهور رفيق سفرك, المفاجئ, وافتضاح سرّك,لقد كنت أعمى وغبياً ,لأني ابتلعت خديعتك."
شعرت بالألم يعصرها , كان الأحرى به أن يقول:" لولم أقع في حبك, لتبينت حقيقتك..."
قالت بصوت خافت:"كنت أريد أن أخبرك الحقيقة الليلة الماضية , ولكن ..."
صرخ فيك في وجهها :"انسي الليلة الماضية."
"أرجوك أن تسمعني." توسلت إليه بيأس.
"لماذا..." جهدت سارة كي تستطيع أن تتجاهل نبرته الفولاذية:".. وأنا أعرف تمام المعرفة ماسوف تقولين؟ من الذي وضع الخطة أنت أم المحامي حتى تتحققي من أمري؟ لماذا لا يأتي هذا الشخص الذي يدير العملية من وراء الستار إلى نيوزيلندا.ويحقق في الأمر؟ هل ظنّ أن نيوزيلندا البعيدة عن انكلترا بلدٌ متوحش والناس فيها يرتكبون جرائم القتل يدون رادع وخاصة عندما يتعلق الأمر بشخص اشتغل في الكرم سنين طويلة وكان الشخص الوحيد المسؤول عنه بعد أن مات صاحبه.وكان من السهل عليه أن يزور في الحسابات ويختلس آلاف الدولارات لو شاء ذلك.
وربما طمع في حصة من الأرباح بعد أن ارتفعت مبيعات شراب صن فالي وأصبح راتبه كمدير لايكفي. إنه الشخص المؤهل لإدارة العمل في الكرم, ولهذا يجب التأكد من أمانته واخلاصه. ولا داعي لأن تخبريه من أنت ... لأنك لن تحصلي على معلومات هامة, إذا أعلنت عن نفسك.وهكذا من الأفضل أن تذهبي مثل أي فتاة نكليزية أخرى تسعى للعمل في العطلة الصيفية . إنه وقت القطاف في هذا الجزء من العلم.جربي هذه الخطة! ولاتنكري ياسارة هذا السيناريو!"
أصابتها كلماته كأنها طلقات رصاص من مسدس.
شعرت ان اتهاماته الباطلة تمزق أحشاءها, وصرخت في وجهه:"كلا, هذا ليس صحيحاً..."
"هل أنا على خطأ ؟" دقت كلماته على أعصابها بقسوة:"أتريدين القول, إنك كنت مهتمة بمعرفة طرق الصناعة والتسويق وكل هذا؟ وإنك أردت اتقان هذه المهنة كما أخبرتني." أضاف متهكماً:"حتى ولو كانت عندك أسباب خاصة بك..."
قاطعته سارة مرتجفة:"أجل أنا مهتمة بكل ذلك."
" أنا أرهن على ذلك, أخبريني, هل أنت راضية عن نتيجة عملك؟ هل عندك أي تحفظات على المدير... آسف ,على المدير المؤقت؟ أوه , لاتقلقي, سوف أستمر في العمل حتى تجدي من يحل مكاني, ولن يصعب عليك ذلك وانت تملكين كرماً مزدهراً مثل كرم صن فالي."
قالت سارة بصوت خافت:"لا أحد يستطيع أن يدير الكرم مثلما تفعل, أنت صن فالي , وصن فالي هو أنت."
"أنا مسرور لتقديرك جهودي." أجابها فيك بنبرة باردة خالية من أي انفعال مما جعل قلبها يتقطع.
حل الغضب , دفعة واحدة, مكان اليأس والألم. لقد تبين لها صعوبة اقناعه فيما كل الأدلة ضدها.لمعت عيناها الخضراوان , سوف تجعله يصغي إليها, ان صدقها أم لا, واجهته بعنفوان وقالت:" لقد اسأت الفهم! لم أحاول أن أتي إلى هنا كفتاة عادية.عندما عرفت بأمر الميراث, فرحت كثيراً ولم أستطع الانتظار طويلاً كي آتي إلى هنا وأبقى لأتعلم هذه المهنة وأسلوب الحياة في الكروم.لأن ستيفن أخبرني الكثير عنها.وكنت أشعر حينها اني أعرف الكثير, من خلال حديثه,عنها. أنا التي قلت للمحامي أن لا يخبرك بقدومي, كنت أظن أن مجيئي سيكون مفاجأة سارة للجميع..."
"مفاجأة سارة؟" سألها بمرارة :"هل هذا ماتطلقين على هذا الوضع؟"
حصنت سارة نفسها عقلياً وتجاهلت المرارة في نبرته. "عندما وصلت, رأت كيت ملصق الخطوط الجوية النيوزيلندية على حقيبتي وتأكدت من اني الفتاة التي ورثت صن فالي." هذه الفتاة المريعة من انكلترا." هذا ما أطلقت علي, وكانت على وشك طردي من المنزل. وعرفت حينها , انه لن أسطتيع البقاء هنا تحت هذه الظروف ولو لليلة واحدة.ثم جئت أنت وتدخلت ظاناً اني فتاة جاءت للعمل. ومنذ اللحظة الأولى أردتني ..." توقفت عن الكلام ولعنت نفسها في سرها لأنها لاتعثر على الكلام المناسب, وعندما حاولت أن تصحح نفسها وقعت في الخطأ ثانية:" ولما وافقت على أن أعمل في الكرم, اغتنمت الفرصة وقلت في نفسي حينئذ أن
لا ضرر يقع من خدعة بسيطة كهذه خاصة اني نويت العودة إلى انكلترا في نهاية الصيف , فأين المشكلة إذاً؟"
بقى فيك صامتاً ولم يبد أي تعليق, وكان في صمته برود أشد وأقسى عليها من نظراته الغاضبة.ماذا يدور في ذهنه؟ الجواب بكل بساطة،انه يحتقرها!
أفاقت من تأملها على نبرته الممغوطة والمتهكمة " لسوء الحظ,كشف صديقك الصحافي لعبتك, وأيفاء لحقه , لقد حاول المستحيل كي يغطي كذبك, وأنا لا ألومه..."
"بالطبع, ولكنك تلومني!" احمرت وجنتاها وتطاير الشرر من عينيها.
" مهما قلت لك, فأنت لن تصدقني, أليس كذلك؟"
" ولماذا أصدقك؟" مرة أخرى هذه النبرة الممغوطة التي تصيبها بالجنون.
تبين لسارة بوضوح انها مهما قالت ومهما حاولت افهامه , فلن يصغي إليها . ولكنها تمالكت نفسها وصممت على أن تكافح من أجل حبها حتى النهاية :" أي شخص سيفهم من مغزى حديثك ,اني حقاً تعمدت الاساءة إليك."
"ألم تفعلي ذلك؟"
"كلا!" صرخت في وجهه:"هذا ما أحاول أن أفهمك إياه على أي حال..." واعترتها دفعة واحدة , موجة من الغضب الأسود في داخلها ثم تلاشت في سرعة:" أريدك أن تأخذ الكرم والمال وكل شيء آخر ورثته عن ستيفن, وفي الحقيقة ,كل هذا ملكك." واستطردت بصوت منفعل:" لقد اعتراني الشعور بالذنب منذ أن توضحت لي حقيقة الأمور هنا, لقد كانت غلطة وسوف أطلع المحامي في لندن على قراري, وأطلب منه تحويل الميراث لك , عندما أعود إلى هناك."
"أوه , فعلاً." سخر فيك منها." لاتلعبي معي هذه اللعبة,انها لن تمر علي, ليس بعد كل هذه الأكاذيب التي قلتها لي."
"حسناً , إذاً!" صرخت :"لاحاجة بك كي تتحملني أكثر من ذلك, سأغادر الكرم مجرد أن أحجز مكاناً على أول طائرة مغادرة, سأتصل بمكتب السفر اليوم وبقليل من الحظ..." واجهته بتحدٍ ."... سأكون في طريقي إلى المطار، غداً."
"لن تفعلي , وأنت تعرفين ذلك." عاد إلى نبرته الممغوطة.
حبست سارة دموعها ورفعت نظرها إليه متحدية :"لا تستطيع منعي."
"لا أستطيع , أنا مازلت بحاجة إليك , يا سارة."
"تحتاج لي؟" قفز قلبها بجنون ثم عادت إلى صوابها، كيف من السهل أن تعود إلى أحلام البارحة الوردية!
"احتاج لك في المكتب." استطرد برقة :" وفي الواقع لا تستطيعين ترك العمل قبل اعطائي مهلة أسبوعين.لقد اتفقنا شفهياً على ذلك, هل تذكرين؟"
" أنا لا..." تلاشى صوتها بفعل الحيرة التي اعترتها. ان فكرها مضطرب , إلى درجة أنها لم تستطع تذكر تفاصيل اتفاقها مع فيك.
" ولكنك من الصنف الذي لايحترم اتفاقاً شفهياً, ولا تفهمين مغزى الالتزام , فهذا أمر بعيد عن تفكيرك."
صرخت سارة في وجهه وقد اعتراها غضب شديد:"سأبقى هذين الأسبوعين ,كما اتفقنا, وحتى تعثر على من يحل مكاني."
هز فيك كتفيه."هذا ما أردت معرفته, وهذا ينهي حديثنا."
وتبين لها دفعة واحدة , ان كلماته اسدلت الستار نهائياً على حبهما. لقد انتهى كل شيء مات كل شيء جميل بداخلها.
لايمكن لحبهما أن ينتهي هكذا. ولكنه انتهى في هذه اللحظة بالذات وصرخت بصوت عالٍ:" على ما أعتقد." وهرعت إلى غرفة النوم فيما انهمرت الدموع من عينيها مثل الفيضان.

روايات احلام / صيف القطاف حيث تعيش القصص. اكتشف الآن