كان إبراهيم عليه السلام يزور زوجه هاجر وابنه اسماعيل عليه السلام من حين لآخر، وفي إحدى هذه الزيارات رأى إبراهيم عليه السلام في منامه أن الله عز وجل يأمره بذبح ولده إسماعيل, ورؤية الأنبياء حق لأنها بمثابة الوحي من الله عز وجل . قال الله تعالى مخبرا عن ذلك البلاء المبين:
" رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ"
لمّا رغب ابراهيم عليه السلام بالولد دعا ربّه قائلا : رَبِّ هَبْ لِي ولدا يكون مِنَ الصَّالِحِينَ ينفعني في حياتي، وبعد مماتي. فاستجاب اللّه له وقال: "فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ" وهذا إسماعيل عليه السلام بلا شك وذلك من عدّة وجوه منها :1. هذه الايات تشير إلى أن البكر هو الغلام الحليم ثم ذكر بعده البشارة بإسحاق فدل على أن إسحاق غير الذبيح ، ووصف اللّه إسماعيل عليه السلام بالحلم ، وهو يتضمن الصبر، وحسن الخلق، وسعة الصدر والعفو عمن جنى. وأما اسحاق عليه السلام فوصفه الله عز وجل بالعليم يقول تعالى : "فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ"
2. ولأن اللّه تعالى قال في بُشراه بإسحاق "فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ"فكيف يامر بعد ذلك بذبحه؟ والبشارة بيعقوب تقتضى ان اسحاق يعيش ويولد له يعقوب
3. واسماعيل وصف بالصبر في قوله تعالى: "واسماعيل وادريس وذا الكفل كل من الصابرين" وذلك انه قال عز وجل في الذبيح : "يا ابت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين" والقران يفسر بعضه بعضا.
4. ووصف الله تعالى اسماعيل عليه السلام ايضا بصدق الوعد في قوله تعالى: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا" لانه وعد اباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به .
"فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ" أي:لما أدرك أن يسعى معه، وبلغ سنّا يكون في الغالب، أحب ما يكون لوالديه، قد ذهبت مشقته، وأقبلت منفعته، قال له إبراهيم عليه السلام: "إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ" ورؤيا الأنبياء وحي "فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى" فإن أمر اللّه تعالى لا بد من تنفيذه، قَالَ إسماعيل عليه السلام صابرا محتسبا، مرضّيا لربه، وبارا بوالده: "يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ" يعني امض لما أمرك اللّه "سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" فأخبر أباه أنه موطّن نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة اللّه تعالى، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة اللّه تعالى."فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ" يعني لما انقاد واستسلم إبراهيم وابنه إسماعيل لأمر الله عزو جل،فالوالد انقاد واستسلم لامر الله بقتل ابنه وثمرة فؤاده، امتثالا لأمر ربه، وخوفا من عقابه، والابن قد استسلم بأن وطَّن نفسه على الصبر، وهانت عليه في طاعة ربه، ورضا والده وطاعته، تلّ إبراهيمُ إسماعيلَ على جبينه، ليضجعه فيذبحه، وقد انكب لوجهه، لئلا ينظر إلى وجه ابنه وقت الذبح , وفي تلك الحال المزعجة، والأمر المدهش ناداه الله عز وجل: "أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا" أي: قد فعلت ما أمرت به، فإنك وطَّنت نفسك على ذلك، وفعلت كل سبب، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلق ابنك اسماعيل , قال الله تعالى "إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" في العبادة والاستسلام والتسليم لأوامر الله عز وجل، والمحسنين في تقديم رضا الله عز وجل على شهوات أنفسهم.
قال تعالى : "إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ " أي:ان هذا الذي امتحنا به إبراهيم عليه السلام هو الإمتحان الواضح، الذي تبين به صفاء إبراهيم، وكمال محبته لربه وخلته، فإن إسماعيل عليه السلام لما وهبه اللّه لإبراهيم، أحبه حبا شديدا، وهو خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب، فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، أراد تعالى أن يصفي وُدَّه ويختبر خلته، فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه، فلما قدّم حب اللّه، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه، وزال ما في القلب من المزاحم، بقي الذبح لا فائدة فيه، فلهذا قال:"وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ" فصار بدله ذبح من الغنم عظيم، ذبحه إبراهيم، فكان عظيما من جهة أنه كان فداء لإسماعيل عليه السلام، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قربانا وسنة إلى يوم القيامة.
"وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ" أي: وأبقينا عليه ثناء صادقا في الآخرين، كما كان في الأولين، فكل وقت بعد إبراهيم عليه السلام، فإنه محبوب مُثني عليه وعليه التحية من الله عز وجل وهو الثناء والمباهاة بالخليل عليه السلام , "إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" في عبادة اللّه، ومعاملة خلقه، أن نفرج عنهم الشدائد، ونجعل لهم العاقبة، والثناء الحسن. ثم قال عز وجل : "إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ" بما أمر اللّه بالإيمان به، الذين بلغ بهم الإيمان إلى درجة اليقين، كما قال تعالى: "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ"