وذكر الله عز وجل في كتابه مناظرة وقعت بين ابراهيم عليه السلام وبين ذلك الطاغية النمرود الذي كان حاكما لبلاد بابل فادّعى الربوبية واستكبر في الأرض وكفر برب العالمين. قال الله عز وجل عن ذلك :
"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"قوله عز وجل : "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ" , أي هل أتاك خبر الذي خاصم وجادل إبراهيم في ربه؟! وهذا تعجيب من الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وكل مؤمن بعده من ذلك الطاغية .. ألأن الله عز وجل اتاه ملكا لم يؤته احدا غيره من قومه يدفعه ذلك الى ان يكفر بربّه الذي أسبغ عليه النعم ظاهرة وباطنة ؟! بل لم ينته الأمر الى ذلك حيث ادّعى الربوبية وجعل يخاصم ويجادل إمامَ الحنيفية عليه السلام في ربّه عز وجل.
فجعل ابراهيم عليه السلام يبيّن ان الله عز وجل هو المنفرد بأنواع التصرف فقال عليه السلام : " رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ" [فخص من انواع التصرّف الإحياء والإماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير، ولأن الإحياء مبدأ الحياة الدنيا والإماتة مبدأ ما يكون في الآخرة](السعدي)
فقال المُعاند مستكبرا : " أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ" قال أهل التفسير : "وذلك أنه إذا آتى بالرجلين قد تحتم قتلهما، فإذا أمر بقتل أحدهما، وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر"
وهذا حقيقة ليس بمعارضة للخليل وليس بحجة ولا كلام في مقام المناظرة، بل هو تشغيب محض ، فإن الخليل استدل على وجود الله سبحانه وتعالى بأيجاد كل هذه الحيوانات وموتها أنه لا بد من موجد لها ومصرّف ومدبّر لها. فلما رآه إبراهيم يغالط في مجادلته ويتكلم بشيء لا يصلح أن يكون حجة، اطرد معه في الدليل فقال إبراهيم:" فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ" اذا كنت كما تدعي من أنك أنت الذي تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في كل ما خلق فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهًا كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب." فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ" فبين ضلاله، وجهله، وكذبه فيما ادعاه، وبطلان ما سلكه، وتبجّح به عند جهلة قومه، ولم يبقَ له كلام يجيب الخليل به، بل سكت وبهت وتحير فلم يرجع إليه جوابا وانقطعت حجته"وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"بل يبقيهم على كفرهم وضلالهم، وهم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك ورضوا به.فالمقام الأول من المناظرة يكون كالمقدمة للثاني, فإن الدليل الثاني الذي ذكره ابراهيم عليه السلام على تفرّد الله عز وجل بالتصرّف والتدبير يبَيّن بطلان ما ادعاه النمروذ في المقام الأول , لأن الذي لا يتصرّف بالمخلوقات نُفِيَ عنه فعل الإحياء والإماتة.