ذكر الله عز وجل في كتابه عن بشارته لخليله إبراهيم عليه السلام على كبره بالولد الثاني وهو اسحاق عليه السلام من زوجه سارة التي كانت عجوزا وعقيما لا تلد , أخبر الله تعالى عن ذلك في عدة مواضع من كتابه العزيز وفي كل موضع يبيّن عز وجل الله البشارة بكلام مؤثّر يزداد المؤمن فيه أيمانا ويقينا بقدرته سبحانه وتعالى , يقول الملك جل في عُلاه :"وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَاوَيْلَتَى آلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ*فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَىَ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مّنِيبٌ * يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـَذَآ إِنّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبّكَ وَإِنّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ"وقال عز وجل : "هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ "
وقفات عند الآيات:
يخبر سبحانه وتعالى أن البشارة بإسحاق عليه السلام كانت بإرسال الرسل من الملائكة لإبراهيم الخليل وزوجه سارة, وكان الله عز وجل قد أرسلهم إلى مدائن قوم لوط ليُدمّروا عليهم ويُنبّؤوا رسول الله لوطا عليه السلام بذلك لِيَنْجو هو والذين امنوا معه, فمرّوا عليهم السلام بإبراهيم قبل ذهابهم إلى لوط عليه السلام, قال عز وجل : " وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ" دخلت الملائكة على ابراهيم عليه السلام على صورة بشر فحسبهم الخليل عليه السلام أضيافا فعاملهم معاملة الأضياف فراغ إلى بقرات عنده وشوى لهم عجلا سمينا , فجاء به عليه السلام إليهم ووضعه بين أيديهم " فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً" وذلك لأن الملائكة ليس فيهم الحاجة إلى الطعام ,فنكرهم عليه السلام وظنّ أنه ثمّ أمر مكروه قد جاء به هؤلاء الضيوف, وذلك قبل أن يعرف أمرهم , فهدّؤوا من روعه قائلين " لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ" فسمعت ذلك امرأته سارة فضحكت واستبشرت غضبا لله على قوم لوط وعلى أفعالهم القبيحة, قال عز وجل : "وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ" عندها جائت البشارة من الملائكة إلى ابراهيم وزوجه بالولد وبالذريّة من بعده, قال عز وجل : " وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ" فتعجّبت سارّة من ذلك وفعلت كما يفعل النساء عند التعجب وصكّت وجهها وقالت متعجّبة وقد طار فؤادها بالبشرى : " قَالَتْ يَاوَيْلَتَى آلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ" وفي اية أخرى : " وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ " فذكرت ثلاثة موانع من وجود الولد ,عندها قالت الملائكة : " أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ " أخبرتها الملائكة أن أمر الله عز وجل لا عجب فيه، لنفوذ مشيئته التامة في كل شيء قال عز وجل : " إنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئًا أن يقول لَهُ كُنْ فَيَكون" وأنه سبحانه وتعالى لا تزال رحماته وبركاته واحسانه تتنزل عليها وعلى زوجها الخليل عليه السلام , وانه يفيض على عباده المتّقين من خيراته وجوده فهو الحميد في صفاته ذات الكمال والجمال والجلال وهو محمود سبحانه وتعالى على كل افعاله التي فيها الإحسان والجود والكرم والعطاء بغير حساب , وهو سبحانه المجيد عظيم الصفات المتناهية في الكمال والسّعة وله من كل صفة كمال أكملها وأتمها وأعمها.
فتأمّل رحمك الله قول الملائكة : " أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ" لتعلم أنه ليس هناك أمر مُستبعد في أفعاله سبحانه وتعالى ,فكل كرب مهما اشتد وتلبّد فإن فرج الله قريب وكلّ ذنب مهما عظم وتراكم فإن عفو الله واسع قال عز وجل : "وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت وسبّح بحمده".
ثم قال عز وجل : "فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَىَ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مّنِيبٌ * يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـَذَآ إِنّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبّكَ وَإِنّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ"سبحان الله , وهذا حال إبراهيم عليه السلام مع ابن أخيه لوط عليه السلام والذين امنوا معه , خاف عليهم من أن يكون العذاب قد عمّ الجميع فصار يُجادل الملائكة في ذلك قائلا : " إن فيها لوطاً" فطمأنته الملائكة بقولها : " نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين" , عند ذلك سكنت نفس إبراهيم عليه السلام وسكن روعه , ثم بيّن سبحانه وتعالى الخصال الحميدة في خليله بأنه "حليم " أي ذو خلق حسن وعَدَمِ غَضَبٍ عند جهل الجاهلين وأنه واسع الصدر, صبور عن المحن والإبتلاءات ووصفه بأنه "أوّاه" أي متضرع إلى الله بالدعاء في جميع الأوقات والأحوال , وبال"منيب" وهو الرجّاع إلى الله عز وجل بمعرفته ومحبته والإقبال عليه والإعراض عمّن سواه وذلك أن كل شيء بيد الله عز وجل وأنه هو الأول والاخر , فلمّا اجتمعت هذه الخصال في ابراهيم عليه السلام صار يجادل في إهلاك قوم لوط , سلام على إبراهيم. وسيأتي إن شاء الله الكلام عن نبي الله لوط عليه السلام في موضعه.