التلمذة على الحياة

41 1 0
                                    

التلمذة على الحياة 

      أنت لا تتلمذ على كلام المعلمين فقط ، وإنما على حياتهم ، حتى دون ان يتكلموا. تمتص الحياة منهم ، بما فيهم من أمثولة طيبة وقدوة صالحة.

      فليست الأذون وحدها وسيلة التعليم ، وانما العين أيضا: يروى عن القديس الأنباشيشوى ، انه من فرط تواضعه ما كان يعطى تعليما لمن يتتلمذ أليه . فلما عاتبه الآباء لانه لم يعط أية إشادات لأخ جديد سلموه إليه ليعلمه … قال لهم : [ أنا لست رئيسا ولا معلما . فان أراد هو ان يتعلم شيئا ، فلينظر كيف أتصرف وكيف أعمل ، ويعمل هكذا مثلى ، دون ان آمره]. ومن أمثلة التعليم من السيرة ، ان ثلاثة إخوة زاروا القديس الأنبا أنطونيوس ، فإثنان منهما سألاه . أما الثالث فجلس صامتاً ، فلما استفسر منه القديس لماذا لم يسأل عن شئ ، أجابه الأخ :

[ يكفيني مجرد النظر الى وجهك يا أبى ].

كان مجرد النظر الى وجه القديس درساً يتعلم منه الأخ وهو صامت . يرى القديس كيف يتكلم وكيف يحبيب ، ويبصر ملامحه الوديعة الهادئة المتضعة … ويتعلم .. مثال اخر : فى إحدى المرات زار البابا ثاوفيلس برية شيهيت . فقال الآباء للقديس الأنبا بفنوتيوس : [ قل كلمة لينتفع البابا ] . فأجابهم: [ ان لم ينتفع من سكوتى ، فمن كلامى ايضا سوف لا ينتفع ].

      حقا أن الصمت يمكن التتلمذ عليه ، تماما ككلام المنفعة.

ولعل من أروع الأمثلة على ذلك القديس أرسانيوس الكبير ، الذى كان كثيرون يتتلمذون على صمتة ، ويستفيدون من قدرته الصالحة أكثر من كلام معلمين آخرين… وهكذا يتتلمذ الآن على حياة الآخرين ، على الصفات الجميلة التى فيهم . ويمتص فضائلهم ، دون أن يلقوا عليه دروساً فى تلك الفضائل . وقد فعل القديس الأنبا أنطونيوس هكذا فى أول عهده بحياة الرهبنة: فكان يتعلم من حياة     

النساك الذين يراهم :

كان كالنحلة التى تمتص من كل زهرة رحيقاً…

     يتعلم من أحد النساك الهدوء ، ومن اخر التواضع ، ومن ثالث الصمت ، ومن رابع حسن الكلام … وما فعله القديس أنطونيوس يذكرنا بتعليم أخر نافع وهو:

لا يحاول أن تكون فى تلميذتك صورة كربونية من شخص واحد بالذات

فلا يوجد شخص واحد من بنى البشر فيه كل الفضائل . كما ان ما يناسب شخصيا معينا قد لا يناسبك أنت . إنما خذ من كل شخص ما يعجبك فيه من صفات جميلة . وخذ من هذه الصفات بالقدر الذى يصلح لك وبالأسلوب الذي يوافق طبعك وعقليتك وظروفك. 

       وهكذا تكون التلمذة على الحياة ، ومنها التلمذة على سير القديسين .

وفى هذا يقول القديس بولس الرسول : " اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله . انظروا إلى نهاية سيرتهم ، فتمثلوا بأيمانهم" (عب7:13) . ولقد قدم لنا الكتاب المقدس أمثلة عملية من كل نوع ، كما قدم لنا التاريخ أمثلة أخرى فى كل فروع الفضيلة ، وفى كل ألوان الحياة ،يمكن ان نتتلمذ عليها.

     ان السيد المسيح بكت اليهود بمثال ملكة التيمن.

فقال لهم : " ملكة التيمن ستقوم فى (يوم)الدين مع هذا الجيل وتدينه، لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان . وهوذا أعظم من سليمان ههنا " ( مت42:12). أنها كانت مثالاً عجيباً فى طلب الحكمة والمعرفة ، أى فى التلمذة. وقد تتلمذت على إنسان أخذ الحكمة من الله نفسه، وكان أحكم أهل جيله (1مل12: 3). واصبحت هذه الملكة مثالا لنا نقتدي به.

وقد قدم السيد لجيله ولنا أمثلة نتتلمذ عليها:

قدم لنا المرأة الكنعانية فى أتضعها ، إذ قالت عن نفسها وابنتها : " والكلام أيضا تآكل من الفتات الذى يسقط من مائدة أربابها ". وقدم لنا الرب أيضاً مثال قائد المائة فى أيمانه ، إذ قال : " يا سيد لست مستحقا ان تدخل تحت سقفي ، لكن قل كلمة فقط فيبرأ غلامي ". فقال الرب للذين يتبعونه :" الحق أقول لكم : لم أجد ولا فى إسرائيل إيمانا بمقدار هذا ".

     وهكذا قدم الرب للناس أمثلة حية ممن يعيشون حولهم، ويصلحون قدوة للتلمذعلى مثالها.

وقدم لهم أيضا مثال الأرملة التى أعطت من أعوازها (مر12:9 ) ومثال الأرملة التي سكبت قاروة الطيب الغالي الثمن علي رأسه في بيت سمعان الأبرص . و قال : (الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم ، يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكاراً لها ) ( مر 14 : 9) .

إذن ليست الأمثلة التي تتلمذ عليها ، هي فقط للقديسين الذين رقدوا ، إنما أيضا الأمثلة الحية من حولك

ولعلك تجد فيمن تعاشرهم و تختلط بهم ، و في من يعيشون في جيلك - حتي لو لم تختلط بهم -ربما تجد في هؤلاء و أولئك أمثله طيبة يمكن أن تلتقطها و تمتصها و تحتذيها .

ونحن نري في الأطفال مثالاً لمن يتعلم بالمحاكاة:

إنهم لم يصلوا بعد إلي درجة الفهم و النضوج الفكري الذي يساعدهم علي تلقي العلم أو فهم النصائح . و لكنهم كما يعيش الذين حولهم يأخذون الحياة و الدين و كل شئ عن طريق التسليم ، وليس عن طريق التعليم .

وكما تتعلم من فضائل الناس ، يمكنك التعليم من أخطائهم :

فأنت إذ تري الخطأ ، و نتائجه السيئة ، وردود فعله عند الآخرين ، تستطيع أن تأخذ درساً في تحاشي هذا الخطأ في حياتك . أو كما قال الأسد : [ من علمك الحكمة أيها الثعلب ؟ ] فأجابه : [ تعلمتها من رأس الذئب الطائر عن جثته ]…

وما أجمل المثل الذي يقول : [ تعلمت الصمت من الببغاء ].

أي أنني لما رأيت مساوئ كثرة الكلام ، أخذت درساً في سمو الصمت و فائدته واحترام الناس للصامتين

التلمذةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن