ما بين الثرى و الثريا 1

8.1K 299 19
                                    

ما_بين_الثرى_و_الثريا
الفصل الأول
كانت الأميرة فُتنة زهرة في بستان، لا تغادر البسمة وجهها، صدى ضحكاتها يترقرق عذوبة في الأجواء، و لما لا تكون سعيدة؟ فقد منحها الله الصحة و الجمال و الحب.. نعم الحب، فقد كانت منذ طفولتها واقعة في هوى ابن عمها الأمير نعمان، و لي عهد المملكة، و هو يبادلها نفس المشاعر. إن أجمل شيء في الوجود أن تحب أحداً يحبك بنفس درجة حبك له، و أكثر ألوان العذاب أن تحب أحداً أكثر مما يحبك، أو ألا يبادلك مشاعرك من الأساس، لذا فأميرتنا سعيدة، فهي تحب ابن عمها و هو يحبها. لقد كان الأمس أسعد أيام حياتها، فقد جاءها نعمان طالباً يدها أمام أبيها، و وافقت. كان يوم سعد فقد أهداها أجمل خاتم في الوجود كله، لقد حول خاتم طفولتهما إلى أندر قطعة مجوهرات في الوجود.. عادت بالذاكرة إلى الماضي، إلى يوم كانا يلعبان معاً في بستان البرتقال.

كانت ساعتها تقطف بعض الحشائش من الأرض، و حاولت أن تصنع منها تاجاً، مثلما رأت أطفال الخدم يفعلون.. فقد كانوا يصنعون تيجاناً، و أساوراً، و خواتم، و دمى.. يلعبون بها، و يتظاهرون بأنهم ملوك و أمراء. كانت كثيراً ما تراهم يلهون معاً، لكن كلما إقتربت منهم، توقفوا عن اللعب، و أنحنوا لها إحتراماً و تبجيلاً. غضبت منهم ذات مرة، و أمرتهم أن يلعبوا معها، و يصنعون لها ما يصنعون لأنفسهم.. و كان لها ما أرادت، لكن السعادة التي كانت على محياهم إختفت، و بدوا كأنما يمارسون عملاً كريهاً.. ذلك الموقف علمها ألا تفرض نفسها على أحد مهما كانت سلطتها. عادت للقصر باكية بعدها، فقابلها نعمان في البهو سآئلاً عما أصابها، فأجابت بكلمة واحدة فقط، "وحيدة.." و عاودت البكاء. و منذ ذلك الحين، و نعمان لا يفارقها، يلعب معها دوماً، و يؤنس وحشة وحدتها، حتى أن أباه و عمه كانا يؤنبانه على تركه دروس المبارزة، و الخط، و علوم الحكم، و الفروسية، ليكون معها طوال الوقت.. و كان هذا يسعدها فوق الوصف، و بما أننا كبشر نشتهي ما في يد الغير، و نزهد ما منحنا الله أيّاه، فقد كانت تتوق دوماً أن تعرف كيف تصنع تلك الحلي من الحشائش و الزهور مثلهم.. لكن كما هو حالها الأن، كلما حاولت عقد جدائل سيقان الزهور و الحشائش، تفشل و تنفرط الزهور، فتنفك سيقانها و الحشائش التي معها.

فما كان من نعمان، الذي طلب من سائس الخيل العجوز أن يعلمه تلك المهارة ليرضيها، إلا أن جمع الزهور التي تحبها فتنة، و جدلها لها فصنع لها تاجاً، و خاتماً، و سواراً منهم، و قال لها، " لديك كل هذه الأشياء و أكثر مشغولة من الذهب و الفضة و الياقوت و الزمرد، و تطمحين في حُلي من حشائش تدهس بالأقدام! أمرك عجيب!" " و لكنها جواهر السعادة." " ماذا؟!" " نعم.. كما سمعتني.. إنها جواهر السعادة. ألا ترى الأطفال يصنعونها و هم يضحكون و يمرحون.. إنهم يرتدونها، و هم يتيهون فخراً، ثم أن بهائها في أنها صنعت بأيدينا، و ليس بيد صائغ غريب لم أراه.. يكفيني أنك أهديتني إياها باسماً باشَّاً، و أنني أرى نظرة الفخر في عينيك حالما أنهيتها." ضحك من منطقها ساخراً، لكنه في قرارة نفسه كان بالفعل سعيداً و فخوراً. و حين رأت البسمة في عينيه، شبت على أطراف أصابع قدمها، و قبلته.

يالها من ذكرى سعيدة، في ذلك اليوم بدأ حبها الحقيقي له، كانت في السابعة و هو في العاشرة، و لم يفتر هذا الحب قط منذ ذلك الحين.. مرت عشر سنوات و كلاهما معاً. حبهما الطفولي، تأجج حبهما ليصير نعمان حبيباً و قريباً و عاشقاً، لذا تقدم لخطبتها من عمه، كي يتوج الحب بالزواج. كادت تحتضنه أمام والدها و عمها، و هي تبدي موافقتها على الزواج منه. لكنها أخذت تشبك أصابع يديها في بعضهما مانعة نفسها من الإقتراب منه. لكن نظرات أعينهم فاضت بالكثير.. يالله لك الحمد على كل نعمك. لقد صارت الدنيا ملك يمينها.

و هاهي الأن.. في نفس المكان.. في بستان البرتقال. تنظر إلى خاتم من الذهب و الماس، يكاد يكون صورة طبق الأصل من خاتم الزهور و الحشائش الذي صنعه لها.. ظلت تقبل الخاتم، و هي تدور حول نفسها في البستان ضاحكة كما الأطفال، و ثوبها الرقيق يدور حولها في هالة من حرير. لم تدرك أن نعمان كان متكيء على إحدى الأشجار ناظراً لها، حقاً اسمها على مسماه، فهي الفتنة في صورة إمرأة..

حين لمحته، توقفت فجأة، و رغم دوارها، إلا أنها ظلت تنظر إليه باسمة. لكم تحبه، صار طويلاً قوياً يافعاً. إنه خير مثال للرجولة و الوسامة. ظلت بلا حراك، في حين إقترب منها برشاقة نمر مرقط. و عيني فهد..

ما بين الثرى و الثرياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن